محب الشهادة



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

محب الشهادة

محب الشهادة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشهادة في سبيل الله هي ((اكرم وسيلة لعبادة الله))


    لماذا الحكم بما أنزل الله؟!

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 942
    نقاط : 2884
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47
    الموقع : https://achahada-123.ahladalil.com

    لماذا الحكم بما أنزل الله؟! Empty لماذا الحكم بما أنزل الله؟!

    مُساهمة من طرف Admin السبت مايو 15, 2010 5:01 pm

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

    وبعد...

    ما إن تُثار قضية الحكم بما أنزل الله، وأن الحكم ينبغي أن يكون لله تعالى وحده؛ لا لأحدٍ سواه، إلا وتثور ثائرة طوابير الكفر والشرك، والنفاق والشقاق، معترضين، ومستنكرين، ومتهكمين، وساخرين، وما أكثر تلك الطوابير !

    أيما دولة تحاول أن تقوم على مبدأ الحكم بما أنزل الله، ومبدأ التحاكم إلى شرع الله، سرعان ما تُحاصَر وتُحارَب، وتُشوَّه صورتها، وتُرمى بالقنابل المدمرة، والصواريخ العابرة للقارات.

    فهاهي أمريكا ومعها دول الغرب - بدافع العداء الصليبي القديم الحديث - يُعلنون بكل صراحة ووضوح أن لا وجود في هذا العالم لدولة تقوم على أساس الإسلام، وعلى أساس ومبدأ الحكم بشرائع الإسلام.

    يُعلنون عن كامل استعدادهم لخوض المعارك والحروب - مهما كانت تكاليفها باهظة - من أجل استئصال أي دولة تقوم على مبدأ الحكم بما أنزل الله، ومبدأ سيادة الخالق على المخلوق، كما فعلوا مع الدولة الناشئة في أفغانستان، وفي الشيشان، ولا يزالون يترصدون كثيراً من التجارب والمحاولات الجادة، ليفتنوا أصحابها عن دينهم، ويصدوهم عما قد عزموا عليه، قبل أن يشتد عودهم، أو تقوم لهم قائمة.

    يعلنون وبكل صراحة ووقاحة أن السيادة، والحكم، والأمر، والعلو، للإنسان، وليس لرب الإنسان، وخالقه، وخالق السماوات والأرض، كما تقرر ذلك ديمقراطيتهم الكافرة الماجنة، حتى راجت هذه الفكرة الباطلة على الشعوب لتُصبح عندهم وكأنها من المسلَّمات التي لا تقبل ردَّاً ولا نقاشاً.

    كل الشعوب، وكل الملل والنحل - كما هو الواقع - لها كامل الحق والحرية في أن تقيم دولة وحكومة تمثلها، وتمثل أبناءها، إلا الإسلام - دين الله تعالى - لا يحق له أن يُقيم دولة في الأرض تمثله وتُمثل أبناءه وأتباعه.

    كذلك موقف الأنظمة الطاغية الحاكمة في بلاد المسلمين، همها الأكبر - مرضاة لغرب أو شرق - كيف تُحيل بين الشعوب التي تحكمها بالحديد والنار، وبين سعيها لاستئناف حياة إسلامية راشدة، ودولة إسلامية تحكمهم بالإسلام.

    فسجونهم ومشانقهم مُشْرَعَةٌ من أجل ذلك، لا يتورعون عن ارتكاب أقصى الجرائم بحق شعوبهم مقابل أن يُحيلوا بينهم وبيم مطلب قيام دولة تحكمهم بالإسلام وشرائع الإسلام.

    يقبلون منك أن تناقشهم في كل شيء، أن تمارس أقصى حرية المجون والتحلل من القيم والأخلاق، لا يُبالون من أجل ذلك؛ بل تراهم يشجعون ويُرغِّبون الشعوب بأن تسير في نفق التحلل والمجون والفساد والفجور، ولكنهم يُمانعون أشد الممانعة من أن تُطرح عليهم مسألة لمن الحكم، من المطاع لذاته، من له حق التشريع، والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح، والحكم على الأشياء، لله الواحد الأحد أم للطاغوت، للخالق أم للمخلوق.

    ونحوهم موقف العلمانيين - بكل تجمعاتهم ومسمياتهم وأحزابهم - زنادقة العصر، والخنجر المسموم في خاصرة الأمة، وعين قوى الكفر والاستكبار العالمي الساهرة على مصالحهم في بلاد المسلمين، الذين تقوم فكرتهم على مبدأ فصل الدين عن الدولة والسياسة والحكم والحياة، فالله بزعمهم له من هذه الحياة الدنيا، المعابد والمساجد وحسب، وحصته من عباده وهذه الحياة الدنيا من يدخل تلك المعابد لحظة أو ساعة دخوله وحسب، أما ما سوى ذلك من شؤون الحياة المختلفة، ومن شؤون الحكم والسياسة، فللطاغوت، والبُعول!

    وهؤلاء يصدق فيهم قوله تعالى في المشركين: {فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}، وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

    لا يُمانعون بأن يُعبَد الله في السماء، وأن يكون له الحكم والأمر في السماء، ولكنهم يُمانعون أشد الممانعة بأن يُعبَد الله في الأرض، أو أن يكون له الحكم والأمر في الأرض، أو أن يُطاع في الأرض، ولكنهم يمكرون ويمكر الله، ويأبى الله إلا أن يحق الحق، وأن يكون هو الإله المعبود والمطاع في السماء وفي الأرض سواء، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}.

    وكذلك موقف بعض الحركات والجماعات الإسلامية المعاصرة، المحسوبة على العمل الإسلامي، ممن يعبدون الله تعالى على حرف، وعلى استحياء، ويزعمون أنهم يعملون من أجل الإسلام، فتراهم تارة يُصرحون بأنهم أولاً يسعون ويناضلون لتحقيق الديمقراطية والحريات العامة في المجتمع، وليس من أجل الحكم ما أنزل الله وتطبيق شرع الله، ثم بعد ذلك إن تمكنوا من تحقيق الحريات في بلدانهم يُطالبون بالحكم بما أنزل الله زعموا، وتارة تراهم يدخلون - سعياً وراء مصالح زهيدة وموهومة - في موالاة دساتير وقوانين الكفر والشرك، ويُقسمون الأيمان المغلظة على الدخول في طاعتها والتحاكم إليها، ويحسنونها ويزينونها في أعين الناس برد النزاع إليها، ومنهم من يحصل له نوع تمكين في الأرض، ومع ذلك تراه يصر - رغبة أو رهبة - على عدم الحكم بما أنزل الله، وأنه لا يطبق أحكام الشريعة، ولن يجبر الناس عليها، وإنما الأمر متروك إلى قناعاتهم ورغباتهم الشخصية، وكأن الطاغوت عندما يحكم المسلمين بقوانينه الكافرة الماجنة يُراعي فيهم قناعاتهم ورغباتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    فقد غَفِلوا أو تغافلوا عن قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.

    من خلال ما تقدم ندرك أن المشكلة موجودة وقائمة، وهي كبيرة جداً، والأمة الإسلامية منذ سقوط الخلافة العثمانية وإلى الساعة تُعاني من فتنة التحاكم إلى الطاغوت وشرائع الطاغوت، وهي تعيش حالة من الانفصام بين الاعتقاد والشعور من جهة، وبين الواقع الظاهر المعايش من جهة أخرى، والمغاير كل التغاير عن عالم الاعتقاد والشعور.

    من هنا تأتي أهمية الإجابة عن هذا السؤال الكبير...

    لمن الحكم؟!

    ولماذا ينبغي أن يكون الحكم - بين العباد وفي البلاد - بما أنزل الله؟!

    وهل قضية الحكم بما أنزل الله قضية ثانوية يُمكن تجاوزها من أجل غيرها من القضايا كما يصور البعض، أم أنها قضية جوهرية ومركزية ومصيرية لا يُمكن تعديها أو تجاوزها والتغاضي عنها؟!

    فأقول ابتداءً...

    قد دلت جميع الأدلة النقلية والعقلية على أن الذي يجب أن يمضي في هذا الكون؛ كل الكون هو حكم الله تعالى وحده، لا مناص للعباد والبلاد من أن تَحكم إلا بما أنزل الله تعالى، ولا تتحاكم إلا إلى شرع الله تعالى وقانونه، وأن هذه الحياة الدنيا لا ينتظم أمرها ولا يستقيم حالها على العدل والحق إلا عندما تُحكم بما أنزل الله، وليس بغيره من أهواء وشرائع البشر.

    لماذا، وما هو البرهان والدليل على ذلك؟

    * * *

    أولاً؛ لأن الله تعالى هو الخالق المالك لهذا الكون وما فيه ومن فيه:

    فهو - سبحانه وتعالى - المتفرد بالخلق والملك لا شريك له، وبالتالي لا بد من أن يتفرد في الأمر والحكم فيما يخلق ويملك، كما أنَّ لا بد لهذا الكون ومن فيه وما فيه من أن يسير وفق مشيئة وحكم خالقه ومالكه - سبحانه وتعالى - وليس وفق مشيئة وحكم غيره ممن لا يخلق ولا يملك شيئاً، ولا يملك نفعاً ولا ضراً.

    فالله تعالى لم يخلق هذا الكون وما فيه ومن فيه عبثاً من غير شريعة توضح الغايات والوسائل، والطريق المنجي والموصل إلى سعادة حياتي الدنيا والآخرة.

    لم يخلق الله تعالى هذا الكون وما فيه ومن فيه عبثاً ليسير وفق مشيئة وحكم وشرع غيره ممن لا يخلق ولا يملك شيئاً، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ. أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}.

    فالذي يخلق ويملك هو الذي له كامل الحق في أن يُشرِّع ويقنن لمن يخلق ويملك، أما من لا يخلق ولا يملك لا يحق له أن يشرع ويقنن لما لا يملك ولا يخلق.

    كم هو مستهجن ومستقبح أن يأتي جاهل بصنعة السيارات - مثلاً - ليقول لصانعها تنحى جانباً فأنا الذي أحدد أنظمتها وقوانينها وسرعتها، لا أنت، فكيف بهذا الجاهل الضعيف لو قال للخالق - سبحانه وتعالى - الذي خلق هذا الكون الفسيح وما فيه ومن فيه فأحسن الخلق على أجمل وأكمل صورة، أنا الذي أشرِّع وأقنن لهذا الكون وما فيه ومن فيه، لا أنت، وهذا الكون لا بد من أن يسير وفق شرعي وقانوني ومشيئتي وليس شرعك وقانونك ومشيئتك، ألا ينبغي أن يكون أكثر استهجاناً، ومعارضة للنقل الصحيح، والعقل السليم، وكل منطق سليم.

    كيف نستهجن الأول ولا نستهجن الآخر وهو أكثر من الأول معارضة لكل عقل أو منطق سليم؟!

    ونقول كذلك: هذا الإنسان من جملة من خلقهم الله تعالى في هذه الأرض، وبالتالي لا بد لهذا الإنسان من أن يعيش وفق أمر وشرع هذا الخالق - سبحانه وتعالى - وحده، يستأذنه في كل شيء، يستأذنه فيما يفعل وفيما لا يفعل، وفيما يُحل وفيما يُحرم، وفيما يأكل ويشرب وفيما يدع من ذلك، إذ لا يليق بالإنسان أن يكون مربوباً مملوكاً ومخلوقاً لرب واحد، وهذا الرب له كامل الفضل عليه؛ يتفضل عليه بالنعم التي لا تُحصى، وهو يعيش في مملكته وعلى مائدته على مدار الوقت لا قدرة له على الاستغناء عنه ثانية واحدة، ثم هذا الإنسان يكفر الفضل والنعم ويجحدها ليعيش وفق مشيئة وشرع أرباب وآلهة مزيفة ضعيفة جاهلة لا تخلق ولا تملك شيئاً، ولا تملك نفعاً ولا ضراً، وليس لها أي فضل عليه؟!

    فالذي لا يخلق ولا يملك شيئاً، بل ولا يملك لنفسه - فضلاً عن أن يملكه لغيره - نفعاً ولا ضراً، وهو مخلوق مربوب مملوك لله تعالى وحده، فهو عبد ضعيف ينتابه النقص والضعف والعجز من كل جوانبه، لا يستحق أن يكون رباً ولا مشرعاً، كما لا يليق به أن يعلو قدر ومقام العبودية لخالقه ومالكه وسيده، ليمارس - جهلاً وظلماً وعدواناً وطغياناً - خصائص الربوبية والألوهية، ويُخاصم الخالق - سبحانه وتعالى - في صفاته وخصائصه!

    قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فالذي له الخلق، فله حصراً وقصراً الحكم والأمر {تَبَارَكَ اللّهُ}؛ أي تعاظم وتعالى شأنه - سبحانه وتعالى - عن أن يكون له شريك في الخلق أو شريك في الحكم والأمر، وهو {ربُّ العالمين}.

    وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وهذا سؤال تقريعي استنكاري موجه لكل مشرك؛ كيف تتوجهون بالعبادة والطاعة والتحاكم إلى من لا يخلق شيئاً وهو مخلوق مربوب شأنه شأن أي مخلوق، فهذا لا ينبغي، ولا يليق بالعقلاء، ولا بمن يحترم نفسه.

    وقال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}، هل يستويان مثلاً الذي لا يخلق فيُعبَد ويُطاع، ويُرد له الأمر كمن يخلق وله الخلق كله - سبحانه وتعالى -؟! {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؛ أي تتنبهون فتعلمون أن المنفرد بالخلق، وهو الله تعالى وحده هو الذي يجب أن تفردوه وتخصوه بالعبادة والطاعة والتحاكم دون أحدٍ سواه.

    وقال تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ}، يا سبحان الله يعبدون بعلاً، يُطيعون بعلاً، يتحاكمون إلى بعلٍ، يدعون ويستغيثون ببعلٍ، ويذرون أحسنَ الخالقين؟!

    وبعلٌ هذا صنم كان يُعبَد من دون الله، وما أكثر البعول في زماننا التي تُعبد من دون الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}؛ خطاب من الله تعالى إلى كل الناس وإلى يوم القيامة مؤمنهم وكافرهم؛ فالمؤمن يزداد بهذا المثل إيماناً وهدىً، والكافر المعاند يزداد به كفراً وضلالاً إلا من شرح الله صدره للإسلام.

    {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}؛ وافهموه، وتأملوه، وتدبروه، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ}؛ فتعبدونهم من دون الله؛ تتوجهون لهم بالدعاء، والطاعة، والتحاكم، وغير ذلك مما يدخل في معنى ومسمى العبادة، فهؤلاء {لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، ومن كان بهذا العجز والضعف لا يصلح أن يكون مألوهاً معبوداً من دون الله، كيف تتخذونه إلهاً ورباً من دون الله تُحلون ما يُحل، وتُحرمون ما يُحرم، وتُحسنون ما يُحسن، وتُقبحون ما يُقبح، وهو أصعف من أن يخلق ذباباً أو أن يستنقذ ما يسلبه الذباب منه، فهذا لعمر الحق هو عين الضلال المبين، وعين الظلم، والجهل، والجحود!

    وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}؛ فكل هذا الكون الفسيح ومن فيه وما فيه من اتقانٍ وإبداع وجمال وعظمة هو من خلق الله، وهو دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وأنه الإله والرب المستحق للعبادة وحده، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ}؛ لا شيء، وهم أعجز من أن يخلقوا شيئاً، وبالتالي كيف يُعبَدون من دون الله تعالى، كيف تتخذونهم آلهة وأرباباً وهم بهذا الوصف من العجز والضعف، وتذرون أحسن الخالقين؛ الخالق لهذا الكون وما فيه ومن فيه، المتفضل على عباده بالنعم التي لا تُحصى، صدق الله العظيم {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

    وكذلك قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً}، يعبدونهم ويُطيعونهم ويتحاكمون إليهم من دون الله، رغم أن هذه الآلهة {لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً}، وهذا عين الضلال، والجهل، والجور!

    وقال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، وقوله تعالى {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}؛ أي كيف تُصرفون عن عبادة وطاعة الله تعالى وحده مع قيام الدليل القاطع على حقه عليكم؛ وهو أنه تعالى هو الذي {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، إلى عبادة وطاعة من ليس له حق عليكم، رغم قيام الدليل القاطع على عجزه وبطلان إلاهيته المزعومة، بدليل أنه لا يقدر على أن {يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}.

    وقال تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، فقوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ}؛ أي بعد هذا الإقرار والتسليم بأن الله هو رب السماوات والأرض والذي يُسلِّم به الجميع {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} تعبدونهم وتطيعونهم وتتبعونهم فيما يشرعون لكم من دون الله، وهم في حقيقتهم {لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً}؛ أي جلب نفعٍ، {وَلاَ ضَرّاً}؛ أي ولا دفع ضرٍّ، فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى}؛ المشرك الضال الذي ضل طريق التوحيد، وعبد آلهة عاجزة ضعيفة {لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ}، ولا لغيرهم {نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً}، {وَالْبَصِيرُ}، المؤمن الموحد الذي يعبد الله تعالى - ربه ورب السماوات والأرض - على بصيرة وعلم {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} ظلمات الشرك والكفر؛ والظلمات ذُكرت بالجمع لأن الشرك ليس نوعاً واحداً وصورة واحدة بل هو أنواع وأشكال وصور متعددة تعلو بعضها بعضاً فتزيد الظلمة ظلمات، {وَالنُّورُ}؛ التوحيد والإيمان؛ فأفرد في الذكر لأن طريق التوحيد واحد، ولأن الحق واحد، والمعبود بحق واحد، والطريق الموصل إليه واحد، {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء}؛ أنداداً يُماثلونه في خصائصه وصفاته {خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}؛ أي هل من هؤلاء الأنداد الذين تعبدونهم وتطيعونهم من دون الله قد خلق شيئاً فشارك الله في الخلق فتشابه الخلق على المشركين فلم يحسنوا التمييز بين الذي خلقه الله تعالى وبين الذي خلقه هؤلاء الشركاء، لو كان الأمر كذلك لوجد لكم عذراً أو تأويلاً، أما أنه لم يحصل شيء من ذلك، وقد عُلم أن المتفرد بالخلق هو الله تعالى وحده فلا عذر لكم، وحينئذٍ نقول لكم ما أمرنا الله أن نقوله لكم: {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، صيغة عامة شاملة لكل شيء؛ فلا يخرج شيء في هذا الكون الفسيح عن كونه مخلوق لله عز وجل {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.

    وكذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}، {أَفَلاَ تَتَّقُونَ}؛ أي أفلا ينبغي أن يحملكم ذلك على أن تقلعوا عن الشرك، وعبادة وطاعة الأنداد والشركاء، وتدخلوا في توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته؟!

    وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، أي أ إله معبود مطاع مع الله يفعل لكم شيئاً من ذلك، فإن كان الجواب؛ لا، ولا بد من أن يكون لا، يأتي دائماً السؤال التقريعي الكبير؛ إذا كان هؤلاء الذين اتخذتموهم شركاء مع الله لا يستطيعون أن يفعلوا لكم شيئاً من ذلك، وهم أعجز من أن يخلقوا جناح بعوضة، أو أن يجلبوا لأنفسهم نفعاً أو يدفعوا عنها ضراً، فكيف تتخذونهم آلهة وأرباباً مع الله تعالى - أو من دونه - تقدمون لهم من فروض العبودية، والطاعة، والولاء، والمتابعة، والتحاكم؟!

    خلاصة القول...

    من أقر بربوبية الخالق - سبحانه وتعالى - لا بد له من أن يقر بألوهيته، ومن أقر وسلَّم بأن الله تعالى هو الخالق المالك لهذا الكون وما فيه ومن فيه، المتصرف به وفق مشيئته من غير ممانعة أو مدافعة من أحد، لا بد من أن يقر ويسلم بأن الله تعالى هو المعبود المألوه المطاع بحق، وهو الحكَم، وحكمه وأمره وشرعه وحده هو الذي يجب أن ينفذ في خلقه ومملكته وعباده، لا حكم وشرع غيره.

    وأن المستحق للعبادة والطاعة، والتحاكم إلى شرعه وقانونه هو الخالق المالك لهذا الكون وما فيه ومن فيه، أما من لا يخلق ولا يملك شيئاً فلا يجوز أن يستشرف خصائص الربوبية والألوهية، كما لا يستحق أن يُعبد أو يُطاع أو يُتحاكم إلى قانونه وشرعه.

    هذه النقطة الأولى من جوابنا عن السؤال الكبير؛ لماذا الحكم بما أنزل الله؟

    * * *

    ثانياً؛ لأن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا، والتي من مقتضاها أن لا يصدر عنه - سبحانه وتعالى - إلا الكمال؛ العدل المطلق، والحق المطلق، والخير المطلق، والمصلحة المطلقة:

    فالذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا هو الذي ينبغي أن يحكم، وحكمه وشرعه هو الذي يجب أن يمضي في البلاد والعباد، وليس حكم غيره؛ ممن لا يملك شيئاً من تلك الأسماء الحسنى، والصفات العليا، بل تلاصقهم صفات النقص والعجز والضعف، والقصور والجهل مهما ظهر أنهم أوتوا من العلم، ومن كان كذلك فإنهم لا محالة سيصدر عنهم النقص والخطأ والجهل والظلم، والبلاد والعباد التي تخضع لحكمهم وشرعهم تكون عبارة عن حقل تجارب لقوانينهم وتشريعاتهم الخاطئة الجائرة والتي تتغير وتتبدل بين الفينة والأخرى بحسب ما تملي عليهم أهواؤهم وعقولهم القاصرة، ومصالحهم الذاتية، وكلما ظهر لهم خطؤهم وقصورهم!

    فالأنظمة التي تحكمها القوانين الوضعية، كل الأنظمة؛ الديمقراطية والديكتاتورية منها سواء، تعيش عملية تغيير وتبديل مستمرة لقوانينها وشرائعها؛ فما يستحسنونه اليوم يقبحونه ويجرمونه غداً، وما يقبحونه ويجرمونه غداً قد يستحسنونه ويجمِّلونه بعد غدٍ - وهكذا إلى مالا نهاية ما داموا يتصدرون موقع الحكم ومَهمة سن القوانين والتشريعات - بحسب ما يظهر لهم، وبحسب ما تملي عليهم أهواؤهم وعقولهم القاصرة الجاهلة، والإنسان الذي تحكمه تلك القوانين والشرائع الوضعية هو وحده الذي يدفع ضريبة جهل وقصور أولئك الأرباب والرهبان، وجهل وقصور وظلم قوانينهم وشرائعهم، وما أعظمها وأفدحها من ضريبة.

    صدق الله العظيم إذ أمرنا أن نقول لهؤلاء المشركين: {قُلْ أَأَنتُمْ}؛ على قصوركم وجهلكم، وعجزكم، وضعفكم {أَعْلَمُ}؛ بمصلحة العباد وبما ينفعهم ويضرهم {أَمِ اللّهُ}، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا؟!

    يأتي الجواب في آية أخرى ليقرر حقيقة دامغة خالدة لا تقبل المراء ولا الجدال: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

    وقال تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}؛ أي لا مألوه ولا معبود ولا مُطاع ولا حاكم بحق إلا الله - سبحانه وتعالى - لماذا؟ الجواب يأتي مباشرة لأنه {الْحَيُّ}؛ الذي لا يموت أبداً، وله دائم البقاء أزلاً وأبداً، ولأنه {الْقَيُّومُ}؛ القائم على شؤون وتدبير ورعاية خلقه، يرعاهم بلطفه، وفضله، وعدله، ورحمته، ومن تمام وكمال قيوميته أنه - سبحانه وتعالى - {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}؛ أي لا يغلبه النعاس، ولا تعتريه غفلة ولا سهو ولا نوم، بل هو القائم على خلقه بالحفظ والرعاية، لا يخفى عليه شيء، ولا قيام للخلق إلا به - سبحانه وتعالى - وهو مع ذلك كله له ملك {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.

    والسؤال الذي يطرح نفسه؛ هل لهؤلاء الأرباب والمشرعين الذين يشرعون ويحلون ويحرمون بغير سلطان ولا إذن من الله تعالى، شيء من تلك الأسماء والصفات والخصائص التي يختص بها الخالق - سبحانه وتعالى - فإن كان الجواب لا، ولا بد من أن يكون لا، فكيف تُطاع فيما تُشرع وتحلل وتحرم، ويُترك أحسن الخالقين الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا؟!

    ونحو ذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لماذا؟ لأنه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} يعلم السر والعلَن، ما خفي وما ظهر، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}.

    وكذلك قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لماذا؟ لأنه {الْمَلِكُ}؛ السيد المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة، {الْقُدُّوسُ}؛ الطاهر المبارك المتنزِّه عن صفات النقص والمخلوقين، {السَّلَامُ}؛ السالم من جميع العيوب والنقائص؛ لكماله في ذاته وأفعاله، {الْمُؤْمِنُ}؛ الذي يصدِّق الصادقين بما يُقيم لهم من شواهد صدقهم، والذي يؤمِّن خلقه من أن يظلمهم، {الْمُهَيْمِنُ}؛ الشاهد على خلقه بأعمالهم، الرقيب عليهم، {الْعَزِيزُ}؛ القاهر الذي لا يُغلَب ولا يناله ذل، {الْجَبَّارُ} الذي جبر خلقه على ما يشاء، المصلح لأمور خلقه المتصرف فيه بما فيه صلاحهم، العظيم إذا أراد أمراً فعله، {الْمُتَكَبِّرُ}؛ الذي له الكبرياء والعلو، المتعالي عن كل سوء، {سُبْحَانَ اللَّهِ}؛ تنزه الخالق وتعالى وتعاظم {عَمَّا يُشْرِكُونَ} [2]، فيتخذون معه - ومن دونه - أنداداً وشركاء فيعبدونهم ويطيعونهم، ويتحاكمون إلى شرائعهم وقوانينهم، وهم لا يملكون شيئاً من تلك الصفات والأسماء الحسنى الآنفة الذكر والتي يختص بها الخالق وحده - سبحانه وتعالى - بل صفات النقص والعجز والجهل تلاحقهم طيلة حياتهم!

    وقال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لماذا؟ لأن {لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى}، ومن أسماء الله الحسنى: العليم، العالِم، الخبير، القدير، الجميل، الحق، الحكيم، الحكَمُ، الذي لا يقضي ولا يحكم ولا يأمر إلا بالحق المطلق، والعدل المطلق، والخير المطلق، والذين من دونه لا يقضون بشيء؛ لأنهم ليس لهم شيء من تلك الأسماء وتلك الصفات.

    كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}؛ لأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ}؛ فيعبدونهم ويطيعونهم ويتحاكمون على شرائعهم من دون الله، {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ}؛ ولو قضوا وحكموا فقضاؤهم وحكمهم ليس بشيء؛ لأنه صادر عن جهل وعجز وضعف وقصور {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

    وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، فلا أحسن من الله تعالى حكماً ولا قضاء؛ لأن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا والتي من مقتضياتها أن لا يقضي ولا يحكم إلا بالأحسن والأجمل والأفضل والأنفع، وكل حكم غير حكم الله، ويكون مغايراً لحكم الله عز وجل فهو من حكم الجهل والجاهلية والهوى الذي يجب اعتزاله والبراء منه؛ لأنه لا يأتي بخير، وفيه من القصور والنقص كقصور ونقص وعجز صاحبه ولا بد.

    وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ}؛ حصراً وقصراً {هُوَ الْهُدَى}؛ الذي ليس بعده إلا الضلال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم}؛ وهي كل ما يشرعونه ويحسنونه ويقبحونه ويرتأونه بغير سلطان من الله، وبعيداً عن هدى الله {بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ}؛ أي من الدين والتوحيد {مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

    * * *

    ثالثاً؛ لأن الحكم والتشريع من خصوصيات الله تعالى وحده:

    فمما اختص به الخالق - سبحانه وتعالى - دون خلقه؛ الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح، فله الحكم وحده لا شريك له، وأيما إنسان يزعم لنفسه شيء من ذلك من دون - أو مع - الله فقد جعل من نفسه نداً للخالق - سبحانه وتعالى - وخاصمه في أخص خصائصه، ومن يقر لهذا الإنسان بهذه الخاصية؛ خاصية الحكم والتشريع فقد أقر له بالربوبية والألوهية واتخذه رباً من دون الله عز وجل.

    قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ}؛ أي ليس الحكم لأحدٍ {إِلاَّ}؛ أداة استثناء جاءت بعد نفي تفيد الحصر والقصر {لِلّهِ}؛ وحده لا شريك له {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ}؛ أحداً {إِلاَّ}؛ أداة استثناء جاءت بعد نفي تفيد الحصر والقصر {إِيَّاهُ}؛ أي إلا الله تعالى وحده، فهذا التوحيد وهذا الإفراد للخالق - سبحانه وتعالى - في الحكم وفي العبادة هو {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ الحق والمستقيم الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    ونحو ذلك قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}.

    وقال تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}، فالآية السابقة أعلاه دلت أن الخالق - سبحانه وتعالى - هو المختص بالحكم والتشريع، وفي هذه الآية ينفي الخالق - سبحانه وتعالى - أن يكون له شريك في الحكم والتشريع.

    وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}، أي كيف تتجرؤون على التحليل والتحريم من تلقاء أنفسكم، ومن دون أن تستأذنوا الخالق - سبحانه وتعالى - صاحب الأمر والشأن، وهو الذي أنزل لعباده الرزق وليس أنتم، والذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم فيما أنزل من رزق؟!

    فالتحليل والتحريم ليس من اختصاصكم، وإنما هو من اختصاص الخالق الرازق المالك، الذي ينزل الرزق، وبالتالي لا بد من الرجوع إليه - سبحانه وتعالى - فيما تحلون وتحرمون، وتحسنون وتقبحون، فإن لم تفعلوم فأنتم؛ {عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ}.

    ونحو ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}؛ من تلقاء أنفسكم، ومن دون أن تستأذنوا الخالق - سبحانه وتعالى - فيما تحلون وتحرمون وترجعون إلى حكمه وشرعه، فهذا عين الافتراء والكذب والتعدي؛ {لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.

    وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله هو الحكَم وإليه الحُكم).

    وعن الحكَم بن سعيد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما اسمك؟)، قال: أنا الحكَم، قال صلى الله عليه وسلم: (بل أنت عبد الله)، قلت: فأنا عبد الله.

    فحتى مجرد التسمي بـ "الحكَم" فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكره، ويعمل على تغييره واستبداله باسم آخر؛ لأن " الحكَم " اسماً ومعناً هو مما يختص به الخالق وحده دون أحدٍ من خلقه.

    وفي سنن أبي داود، عن هانئ؛ أنه لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله هو الحكَم، وإليه الحكم، فلِمَ تُكنَّى أبا الحكم؟! فما لك من الولد؟)، قال: لي شريح، ومسلم، وعبد الله، قال: (فمن أكبرُهم؟)، قلت: شريح، قال صلى الله عليه وسلم: (فأنت أبو شريح) [صحيح سنن أبي داود: 4145].

    ولما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حمدي زينٌ، وذمِّي شين، قال له: (ذاك الله) [3].

    فالحكم على الأشياء بالمدح أو الذم من خصوصيات الله تعالى وحده؛ فالله تعالى وحده هو الذي يكون مدحه زين على الإطلاق، وذمه شين على الإطلاق، وليس أنت ولا أي مخلوق غيرك أياً كان هذا المخلوق.

    أما من يأبى إلا أن يستشرف خاصية التشريع، والتحليل والتحريم، والحكم على الأشياء بالتحسين والتقبيح من تلقاء نفسه وبغير سلطانٍ ولا إذنٍ من الله تعالى، فقد جعل من نفسه نداً لله عز وجل في أخص خصائصه، وزعم الألوهية والربوبية من أوسع أبوابها، وقال ما قاله فرعون من قبل، كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، أي ما علمت لكم من مشرع ومرجعٍ ترجعون إليه في شؤون الدين والدنيا غيري، فأنا المألوه المطاع، فالذي أراه حلالاً فهو الحلال، والذي أراه حراماً فهو الحرام، وليس لكم سوى اتباعي وطاعتي والدخول في عبوديتي، ولا رأي لكم إلا الذي أريكم إياه، ولا رشاد تسلكونه إلا الذي أهديكم وأدلكم عليه، كما قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.

    وقال تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، أي أنا الرب الذي أربيكم على ما أشاء من قوانين وشرائع وعقائد، فلا رب أعلى مني تتربون وتنشأون على دينه وتعاليمه وقانونه غيري، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى}، فأهلكه الله تعالى بالغرق عقوبة الأولى؛ وهي قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، والآخرة وهي قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.

    وما أكثر الفراعنة والطغاة في زماننا الذين يزعمون هذا الزعم الكبير الذي زعمه فرعون من قبل، فيقولون لشعوبهم: نحن المشرعين، نحن الذين نحلل ونحرم، فحق التشريع والتحليل والتحريم لنا لا لغيرنا، فلا مشرع ترجعون إليه غيرنا، وما علمنا لكم من مشرع تحتكمون إليه في جميع شؤون حياتكم أفضل وأحسن منا، نحن الذين نربيكم على ما نريد ونهوى من الشرائع والقوانين، وليس لكم - أيها الشعوب، أيها العبيد - سوى طاعتنا واتباعنا، ومن يعصينا منكم فهو خارج على القانون، وعلى شرعية فرعون، والويل له!

    ومع ذلك - وللأسف - فكثير من الناس لا يرون حرجاً من الدخول في طاعتهم واتباعهم فيما يشرعون، ويحللون ويحرمون، ويحسنون ويقبحون، وهؤلاء سواء علموا أم لم يعلموا فقد دخلوا في عبودية هؤلاء الطغاة الآثمين، وأقروا لهم بالربوبية من دون الله عز وجل.

    كما قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}، وذلك عندما اتبعوهم وأطاعوهم فيما يشرعون، وفيما يحللون ويحرمون بغير سلطان ولا إذن من الله تعالى، فتلك كانت ربوبية الأحبار والرهبان، وبذلك اتخذوهم أرباباً من دون الله عز وجل.

    وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، فقوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}؛ أي لا يتخذ بعضنا بعضاً مشرعين؛ نشرِّع لبعضنا البعض، نحلل ونحرم لبعضنا البعض، نعبِّدُ بعضَنا لِبعض بتشريع بعضنا لبعض، من دون الله وبغير سلطان ولا إذن من الله، {فَإِن تَوَلَّوْاْ}؛ أي أعرضوا وأبوا إلا أن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، {فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، ونقول لهم كذلك: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.

    ما أحوج البشرية في هذا العصر إلى هذا الخطاب، إلى هذا النداء الرباني الخالد؛ {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}.

    جميع الأنظمة المعاصرة على اختلاف مسمياتها سواء الديمقراطية منها أم الديكتاتورية، الملكية أم الجمهورية، يتخذون بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وهي جميعها تقوم على مبدأ تعبيد العبيد للعبيد، ولو ظهرت هذه العبودية أحياناً بصورة لبقة متحضرة كما في بعض الأنظمة الديمقراطية، لكنها في النهاية لا تخرج عن كونها أنظمة تقرر عبودية العبيد للعبيد، عبودية تحتقر من كرامة وحرية وقدر الإنسان الذي كرمه الله تعالى بتوحيده وعبادته.

    * * *

    رابعاً؛ لأن الحكم بما أنزل الله إيمان وتوحيد، وخلافه كفر، وردة، وظلم وفسوق، وجحود وخروج من الدين:

    فالمسألة من هذا الجانب لا تقبل عند المسلمين الاستهانة أو التراخي أو التأخير أو أنصاف الحلول، أو التفاوض، فإما الحكم بما أنزل الله فحينئذٍ يكون الإيمان والإسلام، ويكون العباد داخلين في توحيد وعبادة الله تعالى وحده، وإما الحكم بغير ما أنزل الله والتحاكم إلى الطاغوت وشرائع الطاغوت، فحينئذٍ يكون الكفر والظلم والفسوق، والشرك، والردة، والخروج من الإسلام، وتكون العبودية للطواغيت، كما قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.

    قال ابن القيم رحمه الله: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض) اهـ.

    وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.

    أفادت هذه الآية الكريمة معانٍ عدة:

    منها: وجوب طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله عز وجل، وهو لا ينطق عن الهوى، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

    ومنها: وجوب طاعة ألوي الأمر من المسلمين طاعة مقيدة في طاعة الله تعالى، وفيما ليس فيه معصية؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - سبحانه وتعالى -

    ومنها: في حال حصول النزاع مع أولي الأمر، أو أولي الأمر بعضهم مع بعض، يجب رد النزاع والتحاكم إلى الله والرسول؛ أي إلى الكتاب والسنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومنها: أن السنة محفوظة كحفظ الله تعالى لكتابه، وأن السنة من الذكر الوارد في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، إذ يستحيل أن يأمر الخالق - سبحانه وتعالى - عباده بأن يردوا نزاعاتهم إلى شيء غير محفوظ، ولا موجود.

    ومنها: أن الكتاب والسنة فيهما حل لكل نزاع أو تنازع يقع فيه البشر، إذ يستحيل أن يأمر الخالق - سبحانه وتعالى - عباده بأن يردوا نزاعاتهم إلى شيء ثم لا يجدوا في هذا الشيء حلاً لما قد تنازعوا فيه.

    ومنها: أن من لوازم وشروط صحة الإيمان رد التنازع إلى الكتاب والسنة، فإذا انتفى الرد، انتفى معه الإيمان مباشرة، وهو المستفاد من قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، فمن علامات صدق الإيمان بالله واليوم الآخر رد التنازع إلى الكتاب والسنة، وليس إلى شيء سواهما.

    وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}، فاعتبر القرآن إيمانهم زعماً لا حقيقة له في الصدور، وذلك بعدولهم عن حكم الله - سبحانه وتعالى - وعن التحاكم إلى شرعه، إلى التحاكم إلى الطاغوت؛ وكل حاكم لا يحكم بما أنزل الله، أو شرعٍ غير شرع الله عز وجل فهو طاغوت، يجب الكفر به والبراء منه كما قال تعالى{وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}.

    وكذلك قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

    * * *

    خامساً: لأن الحكم بما أنزل الله فيه حياة: حياة حقيقية للروح والمادة معاً، حياة آمنة سعيدة مطمئنة تحقق التوازن للروح والجسد معاً، حياة للفرد، والجماعة، والشعوب، والأمم:

    الحكم بما أنزل الله، يعني تحرير العبيد من عبادة العبيد ومن العبودية للعبيد، وأطرهم إلى مكمن عزهم وسعادتهم وكرامتهم، ونجاتهم؛ إلى عبادة الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

    الحكم بما أنزل الله تعالى، يعني إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلم الأديان وجورها إلى عدل الإسلام ورحمته.

    الحكم بما أنزل الله، يعني العدل المطلق في الأرض، يعني إنصاف المظلوم من الظالم مهما كان الظالم شريفاً ورفيعاً وكان المظلوم وضيعاً وضعيفاً.

    الحكم بما أنزل الله، يعني تحقيق السلام الحق في الأرض، السلام الذي يقوده، ويرعاه، ويفرضه الحق وأهله، أما الباطل ومعه أهله لا يملكون السلام الحقيقي والعادل، ولا مقوماته، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه!

    الحكم بما أنزل الله، يعني إيقاف هذا الدمار، والخراب، والفساد، والظلم، والعدوان الذي يضرب في أطناب الأرض وجميع أطرافها وأقطارها.

    الحكم بما أنزل الله، ضرورة ملحة لا منجاة للأرض ومن عليها إلا بالحكم بما أنزل الله، فإما الحكم بما أنزل الله وإما الدمار والغرق والهلاك.

    مُعْوَل الخراب والفساد والإجرام والتدمير يعمل عمله في الأرض والمجتمعات، ومنذ زمن، ولا بد من إيقافه، ولن يقف إلا بالحكم بما أنزل الله، والسهر على تطبيق شرع الله تعالى في الأرض.

    وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) [البخاري].

    لا بد من أن يؤخذ على أيدي المجرمين المفسدين المخربين - أيَّاً كانوا وكان موقعهم السيادي - بالمنع والزجر، والقصاص الشرعي، وإلا غرقت السفينة، وهلكوا جميعاً، وهلكت معهم البلاد والعباد!

    وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالقِصاص الشرعي وإن بدت منه نوع قصاوة وشدة - لا بد منها - على فرد أو مجموعة أفراد آثروا إلا أن يسيروا في طريق الخطأ والجريمة، إلا أن فيه منجاة وحياة حقيقية للمجتمعات والجماعات، ولملايين الناس.

    تأملوا النتيجة المفزعة التي آلت إليها المجتمعات بسبب غياب العمل بالقصاص الشرعي، تأملوا كم هي جرائم القتل، والسطو والنهب، والاغتصاب، التي تحصل في اليوم الواحد، بل في الساعة الواحدة، بل في الدقيقة الواحدة، وبصورة لم تعرفها البشرية من قبل.

    تأملوا حجم الفساد والخراب والمجون المنتشر في الأرض كل الأرض، وفي البر والبحر والجو سواء.

    تأملوا حجم الظلم المنتشر على الرجال والنساء سواء، تأملوا السجون وحجم الانتهاكات لحرمات وحقوق الإنسان.

    تأملوا كم طفل يموت في العالم في الدقيقة الواحدة بسبب الجوع أو المرض أو عدوان المعتدين الظالمين، بسبب سطو القوي على الضعيف، بينما فريق آخر من المسرفين قِططهم وكلابهم تموت بسبب التخمة والإسراف والتبذير.

    تأملوا كيف أن شرائع الطاغوت تنتصف وتنتصر للقوي الظالم المعتدي، لأنه قوي، وتهمل وتخذل الضعيف المظلوم، لأنه ضعيف، إذ لا حياة للضعفاء في أرض تحكمها شريعة الغاب، تحكمها شريعة الطاغوت.

    هذا كله وغيره يحصل، بسبب غياب القصاص الشرعي، وغياب الحكم بما أنزل الله على جميع الميادين والمستويات، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا}.

    فالعمل بالقرآن والحكم به، فيه روح وحياة للبشرية، وإذا كان الأمر كذلك فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن عدم الحكم بالقرآن وبالشريعة التي نزل بها القرآن الكريم، يعني الموت والخراب والدمار والهلاك، وكل ما هو مضاد للحياة الحقيقية.

    وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء}؛ من كل داء وبخاصة منها الأدواء المعنوية الروحية، الأخلاقية {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}؛ لأنهم قابلوا التنزيل بالتصديق والإيمان فانتفعوا به، {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}، لأنهم قابلوا التنزيل بالجحود و

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 4:52 pm