الجزاء الأخروي للقاذف
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.
وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.
ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
الاستئذان لدخول البيوت
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.
سبب النزول:
نزول الآية (27):
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية.
نزول الآية (29):
أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.
آية غض البصر والحجاب
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية.
ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.
التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34)}.
سبب النزول:
نزول الآية (33):
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ}: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحُوَيْطب بن عبد العُزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حُنَيْن في الحرب.
نزول آية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ }:
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مُسَيْكة وأُميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الآية.
وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومُسَيْكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقُتَيْلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأيامي جمع أَيِّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيِّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقوى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث (ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله) {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولا تكرهوا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في "عبد الله بن سلول" المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى "مُسَيْكة" والثانية تسمى "أميمة" فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلا مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين.
المنَاسَبَة:
لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل الوحدانية والإِيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.
نور الله تعالى يملأ السماوات والأرض
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)}
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقال جرير "وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة" يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: "الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم" وفي الحديث (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" وقال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليلٌ أو نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه" وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال ابن جزي: المعنى صفةُ نور الله في وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإِضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لأن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكواكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونِةٍ} أي هي من شجرة الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليس في جهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول النهار لتكون ثمرتها أنضج، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور فوق نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أيّ يبين لهم الأمثال لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإِيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوقَدَّ هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر لو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.
____________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36)رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)}.
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وان تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإِشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي يعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء المؤمنون قال ابن عباس: كلُ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفتها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يلهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناس وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر الرازي: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)}.
سبب النزول:
نزول الآية (39):
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا}: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبَّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدِّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافراً.
ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعمله والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي لم ير ماءً ولا شراباً، وإنما رأى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هم ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإِسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!!
التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ(44)وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)لَقَدْ أَنزَلْنَا ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)}.
ولما وصف سبحانه أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوه؟ {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهرة كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يجعله كثيفاً متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بينالسحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأً للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأَبْصَارِ} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر الرازي: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على السويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يرشد من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام.
ادعاء المنافقين الإيمان
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)}.
سبب النزول:
قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بِشْر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.
وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يَظْلم، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وليس أولئك الذي يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم الله أو حكم رسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاؤوا إلى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر الرازي: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحقَّ لغيرهم، أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.
وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.
ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
الاستئذان لدخول البيوت
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.
سبب النزول:
نزول الآية (27):
أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية.
نزول الآية (29):
أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.
آية غض البصر والحجاب
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.
وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية.
ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.
التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ(33)وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(34)}.
سبب النزول:
نزول الآية (33):
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ}: أخرج ابن السكن أنها نزلت في غلام لحُوَيْطب بن عبد العُزّى يقال له: صبيح، سأله مولاه (عبده) أن يكاتبه، فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وكاتبه حويطب على مائة دينار، ووهب له منها عشرين ديناراً فأداها، وقتل يوم حُنَيْن في الحرب.
نزول آية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ }:
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أنه كان لعبد الله بن أبي جاريتان: مُسَيْكة وأُميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } الآية.
وقال مقاتل: كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبي رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومُسَيْكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقُتَيْلة، يكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: ارجعا فازنيا، فقالتا: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرَّم الزنى، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيتا إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأيامي جمع أَيِّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيِّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } أي وأنكحوا كذلك أهل التقوى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانة التقى والصلاح في الإِنسان {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، ففي فضل الله ما يغنيهم {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث (ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله) {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء {فَكَاتِبُوهمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ }أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} ولا تكرهوا أي لا تجبروا إماءكم على الزنى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في "عبد الله بن سلول" المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى "مُسَيْكة" والثانية تسمى "أميمة" فكان يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذلك فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسينتقم ممن أكرههن شر انتقام {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات {وَمَثَلا مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي وعظة وذكرى للمتقين.
المنَاسَبَة:
لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل الوحدانية والإِيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.
نور الله تعالى يملأ السماوات والأرض
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(35)}
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقال جرير "وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة" يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: "الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم" وفي الحديث (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" وقال ابن مسعود: "ليس عند ربكم ليلٌ أو نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه" وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود {مَثَلُ نُورِهِ} أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال ابن جزي: المعنى صفةُ نور الله في وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أعظم ما يتصوره البشر من الإِضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لأن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل{الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} أي في قنديل من الزجاج الصافي {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي تشبه الكواكب الدري في صفائها وحسنها {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة {زَيْتُونِةٍ} أي هي من شجرة الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي ليس في جهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول النهار لتكون ثمرتها أنضج، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ {نُورٌ عَلَى نُورٍ} أي نور فوق نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} أيّ يبين لهم الأمثال لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإِيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي تَوقَدَّ هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء من صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر لو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.
____________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________
المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36)رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37)لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)}.
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وان تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإِشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} أي يعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء المؤمنون قال ابن عباس: كلُ تسبيح في القرآن فهو صلاة {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفتها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يلهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله {وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناس وأبصارهم {لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر الرازي: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم.
أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39)أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ(40)}.
سبب النزول:
نزول الآية (39):
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا}: روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبَّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدِّين، فلما جاء الإسلام كفر. وقيل: في شيبة بن ربيعة. وكلاهما مات كافراً.
ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعمله والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} أي حتى إذا وصل إليه {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي لم ير ماءً ولا شراباً، وإنما رأى سراباً فعظمت حسرته {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي هم ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإِسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} مقابل قوله في المؤمن {نُورٌ عَلَى نُورٍ} فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!!
التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(41)وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(42)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ(43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ(44)وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(45)لَقَدْ أَنزَلْنَا ءاياتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46)}.
ولما وصف سبحانه أنوار قلوب المؤمنين وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوه؟ {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهرة كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} أي يجمعه بعد تفرقه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} أي يجعله كثيفاً متراكماً بعضه فوق بعض {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} أي فترى المطر يخرج من بينالسحاب الكثيف {وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأً للخير والشر {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي يقرب ضوء برق السحاب {يَذْهَبُ بالأَبْصَارِ} أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع {لأُوْلِي الأَبْصَارِ} أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإِنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر الرازي: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كان الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على السويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي يرشد من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام.
ادعاء المنافقين الإيمان
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47)وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(50)}.
سبب النزول:
قال المفسرون: هذه الآيات نزلت في بِشْر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف، ويقول: إن محمداً يحيف علينا. وقد سبق بيان قصتهما في سورة النساء.
وأخرج ابن أبي حاتم من مرسل الحسن البصري قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق أذعن، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يَظْلم، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، فقال: انطلق إلى فلان، فأنزل الله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بِشْر المنافق، دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، فلم يرض المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم. وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه، قال له اليهودي: قضى لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: بلى، فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته، وخرج بسيفه، فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي وليس أولئك الذي يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي وإذا دعوا إلى حكم الله أو حكم رسوله { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاؤوا إلى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر الرازي: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحقَّ لغيرهم، أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا} أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
{بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله.