مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وبعد:
من أعظم ما ابتليت به الأمة في هذا الزمان هذه الجيوش والعساكر المنتشرة في أقطارها المختلفة.. فهي ظاهرة مرضية عامة ومشكلة كبيرة، ومدار جدال واسع وكبير بين قطاع الشباب حول مدى شرعية هذه الجيوش.. ومع ذلك فالمسألة لم تخضع للدراسة والبحث والإفتاء من قبل فقهاء العصر!!
فقد قلبت ما صُنف في كتب النوازل وغيرها من الكتب التي تحتوي على مجموع فتاوى المعاصرين، فلم أجد كلاماً شافياً ولا غير شافٍ في المسألة، وكأن هذه الجيوش من الأمور المسلمات - كالطاهر المطهر - لا يجوز أن يُقال فيها قولاً فضلاً عن أن يُشكك بها أو تناقش أحوالها وعدالتها ويُبين حكم الله فيها!!
قد تناول القوم كل شاردة وواردة، ولم يدعوا فرعية إلا وغاصوا فيها وتكلموا عنها، وفرعوا لها فروعاً أخرى وأجابوا عنها.. إلا هذه الجيوش الجاثمة على صدر الأمة ظلماً وزوراً فلم يأتوا على ذكرها في شيء، ولم يبينوا حكم الله فيها، ولا حكم من يلتحق بها.. فهي عما يبدو - لصريح إيمانها وإسلامها - لا تستحق منهم البحث ولا البيان أو النقاش!!
تركوا المسائل الهامة العامة.. وأقبلوا - رهبة أو رغبة - على بحث مسائل يقل نفعها إذا لم يكن نفعها معدوماً!
وأحسنهم الذي إذا سئل عن هذه الجيوش تراه يعرض عن الإجابة، ويلوي حنكه وخصره وكأنه غير معني من السؤال ليصرف السائل عن سؤاله ومقصده!
بل وجدنا من هؤلاء الفقهاء من جند نفسه وجند أبناءه في هذه الجيوش، وجعلوا من أنفسهم وعلمهم بوقاً دعائياً يذودون به عنها.. وكأنهم في جيوش الصحابة الأوائل!!
وفي المقابل رموا كل من خالفهم أو قال قولاً مغايراً لقولهم في هذه الجيوش الظالمة بأنه من الغلاة.. وأنه غير وطني، أو خائنٌ للوطن والشرف العسكري!!
والذي يهمنا من الإشارة إلى هذا التقصير والتفريط المخل أن نستحث همم الباحثين والفقهاء على أن يؤدوا أمانة العلم الملقاة على عاتقهم، وأن يقوموا بدورهم الصحيح في بيان حال وحكم هذه الجيوش المعاصرة، نصحاً للأمة وإبراءً للذمة.. فالعلم له ضريبة - والله تعالى سائلهم عنها - لا بد من أدائها بسخاء وطيب نفس، وضريبته بيانه وعدم كتمانه، والصدع بالحق في وجوه الطغاة الظالمين.
ضريبة العلم.. تكمن في إخلاص النصح للأمة وعدم غشها أو الكذب عليها!!
ضريبة العلم.. أن لا يوقع أهله عن رب العالمين من فتاوى وأحكام إلا فيما يرضي رب العالمين جل جلاله .
ضريبة العلم.. أن يصونه أهله عن الذل والتمرغ على عتبات الطاغوت يستجدونه العطاء والفُتات!
ضريبة العلم.. أن لا يخشى أهله في الله لومة لائم.. فمهابة الظالمين في الحق لا يؤخر أجلاً ولا يمنع رزقاً، كما في الحديث: "لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍّ إذا علمه، فإنه لا يُقرب من أجلٍ ولا يُبعد من رزقٍ " [ 1].
ومما يجعل الحاجة ماسة لبحث المسألة - إضافة لما تقدم - أن كثيراً من أبنائنا وشبابنا يذهبون للجندية في هذه الجيوش الآثمة الطاغية طواعية من تلقاء أنفسهم مقابل رواتب زهيدة يُعطونها.. ظناً منهم أنهم بذلك يفعلون خيراً، أو يكتسبون صفات المجاهد في سبيل الله، ولهم أجره وثوابه!!
لذا فقد تعين البحث والبيان.. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، متكلين على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقبل أن نبين حكم الشرع في هذه الجيوش، وحكم القائمين عليها من الطواغيت، وفيمن يلتحق بها من الجند والعسكر لا بد أولاً من توصيفها وبيان حالها ومهامها وغاياتها التي صُنعت وأسست لأجلها..
فأقول: لم يخرج المستعمر الصليبي من بلاد المسلمين إلا بعد أن أوجد الحكام والأنظمة التي يرضى عنها وتحقق له مصالحه وأهدافه في المنطقة، وأي حاكم يأتي فيما بعد لا بد من مراعاته لمدى رضى أمريكا ودول الغرب عليه، فإن حظي على الموافقة منهم وعلى رضاهم عنه فقد اجتاز المرحلة الأصعب نحو الوصول إلى سدة الحكم واعتلاء العرش، وناله من القوم كل دعم مادي وسياسي وإعلامي [ 2]!!
ورضى أمريكا ودول الغرب الصليبي على أي حاكم مشروط بعدة شروط:
أولها: أن يتعهد لهم أن يقف بحزم وقوة ضد أي توجه أو عمل إسلامي راشد يستهدف استئناف حياة إسلامية على المستوى القطر أو الأمة.. وأن يُحيل بين الشعوب المقهورة وبين هدفهم هذا، وبأي طريقة من الطرق!!
ثانياً: أن يضمن مصالحهم الاستعمارية في المنطقة، ويعمل على حمايتها وحراستها.. وإن كان ذلك تحت عناوين براقة مستساغة للشعوب المقهورة، كشركات الاستثمار.. والحاجة إلى الخبرات والطاقات الأجنبية.. أو المصالح المشتركة.. أو ضرورة التنقيب عن البترول.. وغير ذلك من الاطلاقات التي تمرر مثل هذه المصالح الأجنبية في المنطقة!!
ثالثاً: أن يعترف بدولة إسرائيل، وبضرورة السلام مع المغتصبين المحتلين الصهاينة.. السلام الذي يُعطي أصحاب الحقوق الفُتات والعظام المجردة عن لحومها وعظامها مما اغتصب ونهب منهم.. لذلك نجد جميع حكام العرب وغيرهم يصرحون على الملأ بأن السلام مع الصهاينة المحتلين خيار استراتيجي لا محيد لهم عنه، مهما حادت عنه دولة إسرائيل واختارت الحرب والقتل والقتال، وارتكبت من المجازر بحق الشعب الفلسطيني المسلم!!
فهو خيار استراتيجي لهم لأنه لا بقاء لعروشهم ومصالحهم الذاتية الشخصية إلا بالموافقة على هذا الخيار.. وهؤلاء الحكام لو كانوا من دعاة السلام بحق لسالموا شعوبهم أولاً، ولأخرجوا شباب الأمة الأحرار من سجونهم الظالمة التي تكتظ بالآلاف من الشباب المسلم!!
رابعاً: أن ينهج الطريق الديمقراطي - دين الغرب - لما تحقق لهم الديمقراطية في المنطقة من مآرب ومصالح عديدة.. لكن إذا جاءت هذه الديمقراطية معارضة للنقاط الثلاثة الآنفة الذكر أو لشيءٍ منها، فهم يسمحون له أن يتحول إلى ديكتاتوري، وإلى وحش كاسر ضد شعبه وأمته، ولا حرج عليه في ذلك البتة [ 3]!!
هذه أهم الشروط التي يجب على الحاكم أن يوافق عليها لكي ترضى عنه أمريكا ودول الغرب، ولكي يحظى على موافقتهم وتأييدهم!
ولما كان الأمر كذلك فإن طواغيت الحكم منذ سقوط الخلافة العثمانية وإلى يومنا هذا يعملون بكل همة ونشاط على تشكيل المؤسسات الحكومية التي تعينهم على تنفيذ تلك السياسات والمصالح المشار إليها آنفاً، ومن أهم هذه المؤسسات التي عنيت باهتمامهم المؤسسة العسكرية؛ حيث عملوا جاهدين - ومنذ زمن - على تطهيرها من العناصر النظيفة المؤمنة، وعلى تشكيل الجيوش التي تعينهم على السير في تلك السياسة المرسومة لهم من قبل أعداء الأمة من دون مواجهة أي عقبة أو مشاكل!
الجيوش التي تسهر على أمن وسلامة الطاغوت الحاكم، وأمن وسلامة سياساته الجائرة الداخلية والخارجية!!
الجيوش التي لا تعرف غاية ولا همّاًًً.. سوى خدمة الطاغوت، وخدمة مآربه وأهوائه وقوانينه!!
لذا نجد أن العناصر الفاعلة لهذه الجيوش منتقاة انتقاء غريباً جداً وفق معايير ومواصفات عديدة:
منها: أن تكون هذه العناصر غير متدينة.. ليس عليها سمات التدين والالتزام، ولم يُعرف عنها التدين من قبل!!
ومنها: أن تكون غير أخلاقية ومن ذوي الاهتمامات الوضيعة التافهة؛ لا هم لهم إلا كيف يُشبعوا غرائزهم ونزواتهم وبأي طريقة كانت.. ولا حديث لهم إلا ما يدور حول البطن والفرج والشهوات!!
ومنها: أن تكون هذه العناصر من ذوي الولاء المطلق، والطاعة العمياء للحاكم والفئة الحاكمة المتنفذة.. ينفذون الأوامر مهما كانت جائرة أو تصب في غير صالح الأمة ومن دون أدنى تلكؤ أو تردد!!
ينفذون الأوامر ولو كان مفادها سحق الشعوب وقتلها وإذلالها وسجنها.. فمرضاة الطاغوت عندهم أغلى وأسمى من الشعوب ومن الأمة برمتها!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم أنهم من ذوي الثقافات الواسعة التي تعرفهم على خفايا وحقيقة وغايات هذه الأنظمة الطاغية الحاكمة.. فكلما كان الضابط أو العسكري جاهل بدينه وعقيدته وبالسياسة الدولية وبما يدور حوله وما يُحاك من مؤامرات ضد الأمة كلما كان أكثر قرباً من الطواغيت وأسرع في الارتقاء إلى الرتب العالية!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم انتماؤهم لأي تجمع أو حزب لم يحظ على الرضى التام من النظام أو الطاغوت الحاكم!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم أنهم من ذوي الرجولة والحمية والغيرة، أو أنهم من ذوي الهمم والاهتمامات العالية.. التي قد تحملهم يوماً من الأيام على الذود عن حرمات الأمة ومقدساتها والغضب لأجلها، وعلى العصيان والتمرد على الطاعة.. والخروج عن السياسة العامة التي رُسمت لهم ولحكامهم!
وأي ضابط أو عسكري يُعرف عنه شيء خلاف ما تقدم فإنه يُعرض للمساءلة والمحاسبة، وإلى عقوبة تتراوح بين الطرد أو السجن أو الإعدام.. بحسب درجة المخالفة ونوعها، وهذا أمر معروف للجميع لا خفاء فيه، ولظهوره لا يحتاج منا إلى استدلالٍ أو برهان!
هذه أهم المقاييس والموازين المعتبرة عند القوم التي على أساسها يتم اختيار أو قبول الأفراد في جيوشهم أو رفضهم!
[1] أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة: 491.
[2] على سبيل المثال - والأمثلة كثيرة - ما حصل مؤخراً في الأردن؛ فإن العالم والناس أجمع يعلمون ويتوقعون أن يكون ولي العهد بدلاً عن الملك حسين أخوه الحسن، حيث ظل أكثر من ثلاثين سنة وهم يخاطبونه بولي العهد، والأمير المحبوب.. ولكن لما كان ولده عبد الله الحاكم الحالي مرضي عنه من قبل أمريكا واليهود والغرب الصليبي أكثر من الآخر، ويمكن من خلاله تمرير المصالح الأمريكية واليهودية والغربية أكثر من الآخر، كان لا بد من اختياره ملكاً وحاكماً على البلاد والعباد، وإخراج ولي العهد السابق كلياً من دائرة الحكم أو التأثير على القرار.. علماً أن الأول لا يحق له من ناحية دستورهم وقوانينهم أن يكون ملكاً لأن أمه إنكليزية.. ولكن لما تصطدم هذه الدساتير والقوانين - في مرحلة من المراحل - مع مصالح أمريكا والصهاينة وغيرهم من قوى الاستكبار العالمي فإنه يسهل تغيير تلك الدساتير والقوانين إلى دساتير وقوانين أكثر تلائماً وانسجاماً مع مصالحهم وأهدافهم!!
ولما علم الآخر بالموقف الأمريكي والصهيوني والغربي هذا نحوه، فما كان منه إلا أن يرضى ويُسلم للإرادة الدولية من دون أن يقول حتى كلمة اعتراض أو لماذا؛ لعلمه باللعبة الدولية، وأن أي حاكم في المنطقة لا بد أولاً من أن تتم الموافقة عليه من تلك السلطات الاستعمارية المتنفذة في العالم!!
وهو نفسه لو وافقت عليه أمريكا ودول الغرب الصليبي.. ثم أن الشعب الأردني كله قال له: أمَّا نحن لا نريدك حاكماً علينا.. لما تردد لحظةً في أن يبيدهم بآلته العسكرية المعدة مسبقاً لمثل هذه الطوارئ والحالات!!
[3] كما حصل ويحصل في الجزائر، وتونس، ومصر، وتركيا وغيرها من الأمصار، انظر إن شئت كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية".
صفات هذه الجيوش العامة
بعد أن عرفنا طريقة القوم في انتقاء عناصر الجيش وبخاصة منها العناصر القيادية المؤثرة كالضباط وغيرهم، لا بد من أن نتعرف على أبرز صفات هذه الجيوش التي تتكون من تلك الفئة من الناس المنتقاة حسب الموازيين والمعايير التي وضعها وأرادها الطاغوت لهم.
فأقول: هذه الجيوش لا تحكم بما أنزل الله وإنما تحكم بشرائع الكفر والطغيان، كما أنها لا تلتزم بصوم ولا صلاة ولا حج، وإن وجد منهم بعض الأفراد من يؤدي هذه الفرائض فهو يؤديها بطريقة فردية.. وربما بعدها قد يخضع للمراقبة والمتابعة والمساءلة.
يكثر في هذه الجيوش من يشتم الله والدين والاستهزاء والطعن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من دون أن ينكر عليهم أحد، بينما لو تجرأ منهم من تكلم بكلمة نابية أو اعتراض على الطاغوت الحاكم أو من هو دونه رتبة من الفئة المتنفذة الحاكمة فإنه يسجن ويُضرب ضرباً شديداً، وربما في بعض الجيوش يكون ذلك مبرراً لقتله وإعدامه!!
لا يُعظمون شعائر الله ولا يعرفون لها الوقار ولا الاحترام.. بل هي مهانة ومُزدَرَاة وفي كثير من البلدان تحولت فيها المساجد إلى متاحف أثرية تستقبل السائحين العراة [ 4]!!
يبكون الأقصى الأسير مسرى النبي صلى الله عليه وسلم بدموع التماسيح.. وبنفس الوقت هم أنفسهم ينتهكون حرمات بيوت الله تعالى لأتفه الأسباب.. ولا يتورعون لأدنى سببٍ أن يدخلوا المساجد بأحذيتهم النجسة ليروعوا من فيها من المصلين الآمنين [ 5]!
هذه الجيوش فيها الكافر الأصلي كالنصارى وغيرهم وكثير من الكفرة المرتدين والزنادقة الملحدين، والكثير الكثير من الفسقة المجرمين.. لا يُفرقون بين مؤمن وكافر أو مرتد، فكلهم يستوون في الولاء للحاكم ولأنظمة الجيوش الطاغية.. بل الكافر المجرم في نظرهم مقدم ومفضل على المؤمن التقي ولا مجال للمقارنة بينهما!!
يُعقد الولاء والبراء في شخص الحاكم.. فيوالون من يواليه، ويعادون من يُعاديه، ويُقاتلون ويُسالمون فيه وعليه!!
إن أمرهم أطاعوه وإن كان أمره فيه كفر ومعصية لله تعالى، وإن نهاهم انتهوا وإن كان في نهيه نهي عن طاعة وعبادة لله تعالى.
وإن أمرهم بقتل وسجن العباد امتثلوا لأمره لأنه صاحب الأمر والنهي الذي يجب أن يُطاع لذاته، بغض النظر هل هؤلاء الناس يستحقون القتل والسجن أم لا!!
عسكر هذه الجيوش كالوحوش الضارية على من يقترب بسوء من سياج الطاغوت الحاكم ومن حكمه ونظامه.. بينما تراهم على أعداء الأمة الخارجيين رحماء كلهم وداعة ولطف ورحمة ولكن بجبنٍ وذلةٍ وخسة!!
على الشعوب المقهورة كالأسود.. بينما في الحروب مع أعداء الأمة، وعلى الجبهات كالنعاج والأرانب!
أين هذه الجيوش من قضايا الأمة المصيرية.. أين هي من قضية فلسطين المسلمة؟!!
هاهم الصهاينة اليهود في كل يوم يقومون بمجازر ضد أهالينا وأبنائنا في فلسطين.. ينتهكون الحرمات.. ويدنسون المقدسات.. ويعتدون على المسجد الأقصى.. ويفعلون كل ما يحلو لهم ويريدون، وما تملي عليهم وساوسهم الشيطانية المدونة في برتوكولاتهم وكتبهم الصهيونية، ومن دون أن يحسبوا لهذه الجيوش أدنى حساب!!
فما هي ردة فعل هذه الجيوش المغوارة.. فإنها محصورة بنستنكر ونشجب، ونأسف.. نحن لا نريد الحرب.. نحن خيارنا هو خيار العقلاء وهو السلام.. السلام مع المغتصبين الصهاينة خيار استراتيجي لا محيد عنه.. قضية فلسطين لا يُمكن أن تُحسم عن طريق القوة أو الحروب.. وغير ذلك من الاطلاقات الجبانة والذليلة والعميلة؟!!
بل بعض هذه الجيوش كالجيش المصري، والجيش الأردني وغيرها من الجيوش قد أقامت علاقات ديبلوماسية على مستوى السفراء، وسلاماً صريحاً مع دولة الصهاينة اليهود وقبل أن تُسترد الحقوق لأهلها وأصحابها، أو يأخذ الحق طريقه إلى معاقبة الصهاينة المجرمين سفاكي دماء الأبرياء؟!
وإذا كان الأمر كما وصفنا فإنه يحق لنا ولغيرنا أن يسأل: لمن أعدت هذه الجيوش الجرارة.. ومن أجل من ولماذا تُشترى هذه الأسلحة الفتاكة - من مقدرات الأمة - بمليارات الدولارات لتكدس في مخازنها إلى أن تتعفن وتنتهي فعاليتها.. من المعني والمراد إرهابه من هذه الجيوش الجرارة؟؟!!
الجواب واضح لكل ذي لبٍّ وفهم: هذه الجيوش لم تُعد من أجل أعداء الأمة.. وإنما من أجل قهر الشعوب وإذلالها.. من أجل إبادة أي حركة تمرد أو عصيان على سياسة الطواغيت الحاكمين!!
فهي عصاة الطاغوت الغليظة يؤدب بها من يشاء ممن يخرج عن طاعته وعبادته أو سياسته وطريقته!!
ولا نبتعد كثيراً عن الصواب لو قلنا أن هذه الجيوش أعدت لحماية وحراسة دولة اليهود.. فهم يعملون على مدار الساعة موظفين ككلاب حراسة أوفياء يحرسون حدود دولة إسرائيل من أي هجوم أو عمل فدائي يقوم به المجاهدون الأحرار!
والويل كل الويل لهذه الجيوش الجبانة لو استطاع مجاهد أن يتسلل من بينهم إلى دولة الصهاينة اليهود.. حيث ترى جميع القوى العميلة الخائنة تستنفر بكل قواها كالكلاب المسعورة، يتوعدون ويهددون من كان سبباً في هذه الخروقات الإرهابية.. ليؤكدوا من جديد للصهاينة المغتصبين أننا لا نزال نعمل بوفاء وإخلاص على ثغور دولتكم ككلاب حراسة وصيد على أكمل ما يكون العمل وتكون الحراسة!!
هذا بما يخص فلسطين.. أما ما يخص موقف هذه الجيوش من بقية قضايا الأمة؛ كقضية المسلمين في البوسنة والهرسك، وقضية كشمير، وقضية المسلمين في الفلبين، وقضية أفغانستان، وقضية الشيشان وما يعانيه أهل هذا البلد المسلم من ظلم وجبروت وكفر المجرمين الروس!
فإذا أردت أن تتحدث عن المواقف المخزية لهذه الجيوش نحو هذه القضايا الهامة وغيرها فحدث ولا حرج.. فما يجري للمسلمين في تلك الديار لا يعنيهم في شيء، ولا يهمهم من قريب ولا من بعيد، بل كثير من الأنظمة العربية وجيوشها تقف في صف الدول الطاغية الكافرة المعتدية ضد الشعوب المسلمة المضطهدة والمحاربة!!
هذا كله يجعلنا نجزم أن هذه الجيوش لم تُعد لخدمة الأمة في شيء، ولا من أجل الدفاع عن الشعوب المقهورة المحرومة.. ولا من أجل رسالة أو هدف عظيم.. وإنما هي صُنعت فقط - كما تقدم - من أجل حماية الطواغيت ومكاسبهم الشخصية، وحراسة مصالح اليهود والغرب الصليبي في المنطقة!!
وعليه فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين:
أن هذه الجيوش - من دون استثناء - لصفاتها الآنفة الذكر هي جيوش باطلة كافرة، شرها يغلب على خيرها، بل لا خير فيها للأمة، لا يجوز الانضمام إليها أو الالتحاق بها اختياراً، أو تكثير سوادها في شيء، أو الدخول في موالاتها بدعاء أو أي شيءٍ آخر.. يجب جهادها وقتالها إن أبوا إلا ذلك؛ لكي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال: 39.
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عسكر التتار، وحكم جهادهم فأجاب: فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طُلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يُصلي إلا قليل جداً، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من غيره، وللصالحين من المسلمين عندهم قدر، وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه، لكن الذي عليه عامتهم والذي يُقاتلون متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها فإنهم أولاً يوجبون الإسلام ولا يُقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافراً عدواً لله ورسوله، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين.
فلا يُجاهدون الكفار ولا يُلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار، ولا ينهون أحداً من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك، بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين!
وكذلك عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم؛ أي لا يلتزمون تركها، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطاناً لا بمجرد الدين، وعامتهم لا يلتزمون الواجبات، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله، بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارةً وتخالف أخرى!
وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم، فإن هذا السلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبداً [ 6]. اهـ.
قلت: من يقارن أوصاف جند التتار الآنفة الذكر التي ذكرها عنهم شيخ الإسلام، وبين أوصاف جند وجيوش العرب وغيرها من جيوش الأمة في هذا الزمان يجد أن جند التتار فيهم من خصال الخير ما ليس في جند وعسكر العرب؛ فجند التتار يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسلم عندهم أعظم من غيره، وللصالحين عندهم قدر.. وهذا بخلاف ما عليه كثير من جيوش العرب في هذا الزمان، إن لم يكن كلها [ 7]!!
ومع ذلك لصفاتهم الأخرى الآنفة الذكر يقول عنهم شيخ الإسلام: أن قتالهم واجب بإجماع المسلمين، وأن هذا السلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبداً.
وهذا الحكم يلحق بكل من اتصف بصفاتهم أو فعل فعلهم ولا بد.. ولحوقه بجيوش الأمة في هذا الزمان من باب أولى لاتصافهم بصفاتٍ هي أغلظ وأشد من صفات جند وعسكر التتار الآنفة الذكر.. وقد تقدم ذكرها!!
وقال رحمه الله في الفتاوى 28/20: من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويُعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان. اهـ.
أقول: أليس هكذا حال جيوش الأمة في هذا الزمان؛ حيث توالي وتعادي في شخص الطاغوت الحاكم.. يوالون من والاه، ويُعادون من عاداه، بغض النظر هل يستحق شرعاً تلك الموالاة أو المعاداة!!
تُنتهك حرمات الأمة، ويُعتدى على مقدساتها، وتُقتل الأطفال والنساء، ويُشتم الله ورسوله.. فكل هذا وغيره لا يستدعي موقفاً من هذه الجيوش ولا من حكامها، ولكن لو تجرأ أحد أو أي جهة على النيل من جناب الطاغوت الحاكم بعبارة انتقاص أو طعن فإن هذه الجيوش ومعها جميع مؤسسات الحكومة تعلن براءها وعداءها لتلك الجهة، وتسحب سفيرها من تلك الدولة أو الجهة، وربما تحركت الجيوش واستنفرت واستعدت للقتال [ 8]!!
فهذه الجيوش عندما ترضى لنفسها مثل هذه العبودية للطاغوت فهي تخرج مباشرة من كونها جيوش إسلامية تجاهد في سبيل الله إلى كونها جيوش كفرية باطلة تجاهد في سبيل الشيطان كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي وجوب قتال الفئة الممتنعة عن أداء أمرٍ معلوم من الدين بالضرورة يقول ابن تيمية رحمه الله: فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعةٍ من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء.
عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إنا بأرضٍ نعالج بها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا، فقال: هل يُسكر؟ قلت: نعم. قال: فاجتنبوه. قلت: إن الناس غير تاركيه، قال: فاقتلوهم.
وقال: وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة.. فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أنه يُقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين..
فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والميسر، أو عن نكاح ذات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحدٍ في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. اهـ.
قلت: إذا كان قتال الطائفة الممتنعة عن أداء واجب من واجبات الدين الظاهرة واجب بأدلة الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة.. فإن قتال هذه الجيوش المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، والتي لا تلتزم بشيء من واجبات وأركان هذا الدين [ 9]، إضافة إلى خصال الكفر الأخرى التي تتصف بها والمشار إليها آنفاً.. لا شك أنه أولى وأوجب من قتال الفئة التي تمتنع عن أداء آحاد الواجبات الدينية.
فإن قتال المرتد أو الفئة المرتدة المارقة من الدين المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين أوجب بكثير من قتال الفئة الباغية التي تمتنع عن أداء بعض واجبات الدين، بل هو أوكد من قتال وجهاد الكافر الأصلي كما سيأتي بيانه معنا.
قال ابن حجر في الفتح 13/7: إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. اهـ.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم 12/229: قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، وقال وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها. اهـ.
[4] هذه الصفات الآنفة الذكر تتفاوت الجيوش المعاصرة فيما بينها من حيث الاتصاف بها، فليسوا كلهم سواء في هذه الصفات وبنفس الدرجة.. لكن إن عُدمت صفة في جيش من الجيوش توفرت فيه الأخرى، فكل جيش له ما يميزه من شارات الطغيان والكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[5] على سبيل المثال لا الحصر ما قام به الجيش المغوار السوري من تدمير لمساجد مدينة حماه التي يزيد تعدادها عن المائة مسجد بعضها لها امتداد تاريخي حتى العهد الأموي، في مجزرة حماه المشهورة والتي ذبحوا فيها - بآلتهم العسكرية - في ليلة واحدة ما يزيد عن عشرين ألف مسلم بينهم كثير من الأطفال والنساء، لا ذنب لهم سوى أنهم يقولون ربنا الله!!
[6] مجموع الفتاوى: 28/504.
[7] إن قلت هذا التعميم فيه ظلم وتشدد.. أقول لك لكي تعرف مصداق ذلك: ادخل جميع الدول العربية وغيرها من الدول التي تسمي نفسها إسلامية بجواز سفر يُعرِّف عنك أنك عربي أو مسلم، ثم ادخل إليهم مرة ثانية بجواز سفر آخر يُعرِّف عنك أنك أمريكي أو أوربي ثم انظر الفارق الكبير في المعاملة، والاحترام والتبجيل والتسهيلات التي تُعطاها.. بين دخولك إليهم كمسلم، وبين دخولك إليهم كإنسان أمريكي أو أوربي لا يُعرف لك دين.. حينئذٍ ستدرك صدق وصواب ما أثبتناه عن القوم أعلاه!!
كذلك لو ألقيت إطلالة سريعة على السجون الموجودة في تلك الدول.. لما وجدت سجيناً واحداً اعتقل بسبب كفره وشركه أو ارتداده عن الدين وما أكثرهم في البلاد.. بينما تجد مئات المسلمين من العلماء والدعاة إلى الله تعالى تكتظ بهم السجون، ويُعاملون أسوأ معاملة!!
[8] الأمثلة على ذلك كثيرة وهي مشاهَدة على مدار الساعة، ولكن نضرب مثالاً ما يحصل في هذه الأيام من مجازر وانتهاكات بحق الشعب المسلم في فلسطين، وما يحصل من اعتداءات سافرة على المقدسات وبخاصة منها مسجد الأقصى مسرى النبي صلى الله عليه وسلم.. فكل هذه المجازر والانتهاكات السافرة لحقوق العباد والمقدسات فهي لا تستدعي مثلاً من الدولة المصرية أن تسحب سفيرها من دولة الصهاينة المحتلين!!
ولكن لو أخطأت دولة الصهاينة وقالت في وسائل إعلامها عن حسني مبارك مثلاً: إنه حمار لا يفهم.. فقط هذه العبارة، فهي كافية لاستدعاء سفير مصر، وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها من العلاقات مع دولة الصهاينة، ولن يهدأ الحال إلا بعد أن تعتذر حكومة الصهاينة عن مقولتهم تلك بطريقة رسمية وعبر وسائل إعلامهم، وربما لا يهدأ.. كل هذا من أجل تلك المقولة التي قيلت في حق طاغوت مصر، أما أن يُباد شعب بكامله فهذا أمر فيه نظر، يستدعي من القوم إظهار المرونة بعقل متفتح وصدر منشرح!!
وفي هذه الأيام كذلك قد طالعتنا نشرات الأخبار بأن ليبيا تسحب سفيرها من لبنان اعتراضاً على حفل عشاء رسمي أقامته الحكومة اللبنانية لم يُدعى إليه سفير ليبيا.. فعدت ذلك انتقاصاً لشخص السفير، ولشخص طاغوت ليبيا مما دعى الأمر إلى هذه الحرب والمقاطعة الديبلوماسية.. فتأمل كيف تُحدد المواقف في دول الطواغيت وعلى أي أساس يُعلن الحرب أو السلم!!
[9] إن وجد بعض الالتزام في بعض الجيوش المعاصرة هو التزام فردي، وليس التزاماً على مستوى أنظمة الجيوش يخضع لها الكبير والصغير، وهي - أي هذه الجيوش - متفاوتة فيما بينها من حيث حدة موقفها تجاه من يؤدي بعض الواجبات الدينية، فمنها من يعتبر الصلاة مثلاً تهمة تعرض صاحبها للمساءلة وربما إلى السجن والطرد من الخدمة وصاحبها يكون تحت المراقبة، وقد يُصنف أنه من الإرهابيين وهي أكثر الجيوش، ومنها من يعتبر أداء الصلاة التزاماً أخلاقياً حميداً لكن لا يأمرون بها الجنود ولا يلزمون بها الجميع فمن شاء أقام الصلاة ومن شاء تركها ولا حرج عليه كالجيش الباكستاني، والجيش اليمني، والجيش السوداني، وبعض جيوش دول الخليج العربي، ومنها من يفرضها على الجند ويلزم بها الجميع كالجيش السعودي فقط كما بلغني.. والله تعالى أعلم!
مسائل هامة
لاستيفاء الموضوع بحثاً وبياناً لا بد من بحث بعض المسائل الهامة ذات العلاقة بمادة البحث، والإجابة على بعض الشبهات التي تثار أحياناً هنا أو هناك...
المسألة الأولى
هل كفر هذه الجيوش يستلزم كفر كل من ينتسب إليها من العسكر والجند؟!
أقول: لصفات هذه الجيوش الآنفة الذكر لا بد من اعتبارها على وجه العموم أنها جيوش وتجمعات كفرية؛ هدفها نصرة الطاغوت وإعلاء كلمته وسياسته ونظامه، لا حظ للإسلام والمسلمين فيها في شيءٍ، ولكن هذا الحكم العام هل يستلزم منه كفر كل من ينتسب لهذه الجيوش من الجند أو الأفراد بأعيانهم؟
الجواب: لا يستلزم من كفر هذه الجيوش المعاصرة كفر كل من ينتسب إليها من الجند أو الأفراد بأعيانهم وذلك للموانع والاعتبارات التالية:
أولاً: مانع الإكراه: إذ أن كثيراً من الأفراد يُساقون إلى الخدمة العسكرية مكرهين وبالقوة، وهم كارهون لهذه الجيوش ولأربابها، ولو خيروا لما اختاروا الالتحاق بها..
والإكراه مانع من موانع التكفير بلا خلاف لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان} النحل: 106.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
فإن قيل: هؤلاء غير مكرهين لأنهم يستطيعون الهجرة والخروج من سلطان الطاغوت.. وبالتالي فهم غير معذورين!
أقول: لا شك أن من استطاع الهجرة أو أن يجد لنفسه مأمناً من إكراه الطواغيت.. أنه يجب عليه الهجرة للنفاد من الوقوع تحت طائلة الإكراه.. ولكن هذا الحكم ليس من السهل والواقعية أن نطلقه ونعممه على مئات الملايين من الناس ونلزمهم به، فمن لم يلتزمه فهو كافر.. وبخاصة أن المشكلة كما هو ملاحظ عامة لا تخص قطراً دون قطر؛ ولا مصراً دون مصر، فمَن يهاجر إلى من، ومَن يستقبل من، والكل تجب عليه الهجرة، ويُعاني من نفس المشكلة!!
أضف إلى ذلك المشاكل الأخرى المصطنعة في هذا الزمان التي تقيد كثيراً من حرية الحركة أو التنقل للإنسان؛ كمشكلة وثائق السفر التي لا يمكن التحرك إلا بها، فإن حصل المرء عليها يواجه مشكلة الحصول على فيزة البلد التي سيهاجر إليها، فإن حصل على فيزة البلد التي سيهاجر إليها تواجهه مشكلة الحصول على إقامة رسمية تمكنه من العيش في تلك البلد.. إلى آخر القائمة الكبيرة من المشاكل التي يُعايشها ويعرفها من قدر الله له الهجرة والضرب في الأرض في هذا الزمان.
أضف إلى هذه المشاكل وتلك، مشكلة غياب دولة الإسلام التي تكون داراً للهجرة والمهاجرين!
فالمسلم المهاجر في هذا الزمان يتنقل من دار كفرٍ مغلظ إلى دار كفرٍ آخر أقل كفراً، ومن دار ظلم مغلظ إلى دار ظلم مجرد.. فهو يتنقل من الأكثر سوءاً إلى الأقل سوءاً وليس من خيرٍ إلى ما هو أكثر منه خيراً.. وهذا واقع لا بد من اعتباره ومراعاته عند مطالبة الناس بالهجرة، أو إصدار الأحكام عليهم إن لم يستجيبوا لنداء الهجرة.
لأجل ذلك كله استثنى ربنا سبحانه وتعالى المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، كما قال تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً. أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً} النساء: 98-99.
من السهل عليك يا عبد الله أن تقول للناس - وأنت متكئ على أريكتك تحتسي الشاي أو القهوة - يجب عليكم أن تهاجروا.. لكن إن قيل لك: إلى أين، وكيف، ومتى، ومن أين.. فسوف تجد نفسك عاجزاً عن الإجابة عن كل هذه الأسئلة، وبخاصة إن وجه إليك هذه الأسئلة مئات الملايين من الناس!!
فليس من الفقه أن تطلق المسألة من دون النظر إلى آثارها ونتائجها، وإمكانية تحققها ومدى واقعيتها وموافقتها لمقاصد الشريعة العامة السمحاء!!
تنبيه:
لا يستفيد من هذا المانع من يذهب للجندية في هذه الجيوش كمتطوع من تلقاء نفسه من غير إكراه، مقابل راتب زهيد من المال يُعطاه.. فمن كان كذلك فهو غير معني من كلامنا السابق، وهو لا يُعذر بمانع الإكراه.
كما أن حديثنا عن مانع الإكراه لا يعني ولا يستلزم أن كل عناصر الجيش الغير متطوعين هم مكرهون ومعذورون للإكراه!!
فقولنا بوجود عناصر مكرهة شيء - لا يعلم عددهم إلا الله تعالى - وهو ما نقوله، والقول بأن جميع عناصر الجيش مكرهين ومعذورين بالإكراه شيء آخر وهو ما لم نقله، ونبرأ إلى الله منه ومن قائله.
ثانياً: مانع الجهل والتأويل: وهو مانع معتبر عند إصدار الأحكام على الأعيان.. والجهل يمكن أن يأتي للأفراد وعوام الناس من جهتين:
من جهة أن بعض هذه الأنظمة الطاغية تسمح بمقدار من حرية العبادة كأداء الصلاة، وصيام رمضان وغير ذلك من الشعائر الظاهرة، وبما ليس له مساس بالسياسة العامة للجيوش وبالأهداف التي صنعت لأجلها.. فيلبس ذلك على عوام الناس الذين يفهمون الإسلام عبارة عن شعائر تعبدية وحسب، فيظنون بل ويعتقدون أن هذه الجيوش إسلامية بدليل أنها تسمح لهم بالصلاة والصيام وغير ذلك [ 10]!
ومن جهة فإن مشايخ الإرجاء - قبحهم الله من مشايخ - ينشطون في كل مكان وفي كل اتجاه وواد بما أوتوا من علم وحفظ للنصوص يصورون للناس أن هؤلاء الطواغيت مسلمون تجب طاعتهم، وبالتالي من باب أولى أن تكون جيوشهم جيوش إسلامية يجوز الانخراط والعمل فيها!!
تقول كلمة حق فتقال مقابلها مليون كلمة باطل، وتصدر بحثاً يجلي الحق للناس، فيصدر مقابله آلاف الكتب والأبحاث المدعومة تنصر الباطل وتدعو له!!
والناس يترددون بين كلمتك وبين تلك الملايين من الكلمات الباطلة، وبين بحثك ومقالك وبين آلاف الكتب والأبحاث التي تخدم الباطل والطاغوت.. فيصعب عليهم الاختيار وتحديد المواقف، وبخاصة عندما تأتي نصرة الطغاة الآثمين من دعاة لهم باع طويل في الدعوة والإفتاء قد غرتهم الحياة الدنيا!!
لذا فإن أثر هؤلاء على عقيدة الناس وعلى تفكيرهم وتصورهم للأشياء لا يمكن إغفاله أو الاستهانة به عند الحديث عن الجهل وأسبابه ودواعيه.. وبخاصة في المسائل المشكلة المتشابهة كمسألتنا هذه!
لأجل ذلك ينبغي أن نتوقع أن عدداً كبيراً من الجنود حملهم على الخدمة في جيوش الطواغيت الجهل بحقيقة وأهداف هذه الجيوش، والفتاوى العديدة التي سمعوها من هنا وهناك التي تقول لهم: لا عليكم، فأنتم مرابطون ومجاهدون في سبيل الله!!
ومثل هؤلاء من السلامة والتقوى أن لا يُصدر حكم الكفر بأعيانهم قبل قيام الحجة عليهم وبيان الحق لهم.. هذا ما يقتضيه العمل بمجموع قواعد التكفير ذات العلاقة بالموضوع، وتطمئن إليه النفس.. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
إعمال مانع العذر بالجهل والتأويل صعوداً أو هبوطاً بالنسبة لهذه الجيوش تختلف باختلاف الجيوش وأنظمتها ودرجة طغيانها.. فلا يُعقل مثلاً أن يُعذر بالجهل من يتجند في جيش يُحارب الله ورسوله والمؤمنين جهاراً نهاراً، تُمنع فيه الصلوات وأداء الشعائر، ويُعد ذلك فيها من الجرائم التي يُعاقب عليها صاحبها، وبين من يتجند في جيش يُسمح له بأداء الشعائر التعبدية بل ويُرغب بها.. فلا يستويان من حيث العذر بالجهل والتأويل؛ فالأول ساحة العذر بالجهل تضيق بحقه إن لم تنعدم لظهور كفر ذلك الجيش وأربابه ومسئوليه لأعشى الليل والنهار، وأعمى البصر والبصيرة.. بخلاف الآخر فقد تتسع بحقه ساحة العذر بالجهل للاعتبارات الآنفة الذكر أعلاه.
كذلك يوجد فرق بين من يتجند.. ويعمل كشرطي مرور أو في مؤسسة تابعة للجيش هي أقرب ما تكون إلى الوظائف المدنية كالمستشفيات العسكرية ونحوها، وبين من يعمل كجندي في جهاز المخابرات ويقوم بمهمة ملاحقة الدعوة والدعاة إلى الله، ويكون على علم بما يُحاك لدين الله من كيد ومؤامرات.. هذا جندي وهذا جندي، ولكن لا يستويان من حيث العذر بالجهل أو التأويل؛ فالأول ساحة العذر بالجهل والتأويل تتسع بحقه أكثر من الآخر الذي يُشاهد بعينه كيف يُشتم الله ورسوله عندما يُعذبون بعض الأخوة الذين يقعون في سجونهم!
فالآخر لا يُعذر بالجهل أو التأويل مهما كذب عليه مشايخ الإرجاء بأن الذين تعمل معهم مسلمون مؤمنون، لأن عينه التي يشاهد بها الكفر البواح هي أصدق وألزم لقيام الحجة عليه من دجل وكذب أولئك الشيوخ!!
هذا التفصيل والتفريق مهم وضروري لمن يريد أن يخوض في هذه المسائل الهامة، وهو ما يقتضيه الإنصاف والعدل الذي أمرنا أن نشهد به.. والله تعالى أعلم.
ثالثاً: الانغماس في جيوشهم كعينٍ للمسلمين:
كذلك من انغمس في صفوفهم وجيوشهم كعينٍ للمسلمين المجاهدين، أو على نية أن ينزل بهم النكاية وغير ذلك.. فمثل هذا لا يجوز أن يُحمل عليه حكم الكفر، أو أنه منهم، لدلالة النصوص الشرعية الدالة على جواز الانغماس في صفوف المشركين للغرض المذكور أعلاه، وفق ضوابط وشروط قد ذكرناها في بحث آخر [ 11].
فإن قيل: كيف يمكننا تحديد من كان معذوراً ممن لا يُعذر من تلك الجيوش الضخمة، ثم كيف نميزهم عند القتال؟!
أقول: يكفيك أن تحكم على تلك الجيوش بعمومها لا على التعيين بأنها جيوش كافرة لا شرعية لها، يجب جهادها وقتالها..
فإن أردت أن تحكم على شخص بعينه لا بد من أن تطمئن إلى انتفاء موانع التكفير الثلاثة عنه الآنفة الذكر، وغالباً ما تظهر القرائن التي تُعينك على إصدار الحكم به سلباً أو إيجاباً، فإن غُمّ أمره عليك، ولم يظهر منه ما يُرجح كفره وانتفاء الأعذار عنه، ينبغي أن تمسك عن تكفيره بعينه مع بقاء قولك بكفر فعله وموقفه.
ومثل هذا التفصيل والتدقيق قد لا تحتاجه عند الحديث عن الأرباب والطواغيت الكبار من ذوي الرتب والمسؤولية لوضوح كفرهم وجلائه، ولانتفاء الموانع الآنفة الذكر عنهم.
أما عن قتالهم فالأمر أسهل من تكفيرهم، فأنت عند القتال لم تؤمر شرعاً أن تميز من منهم يُعذر ومن لا يُعذر، وبخاصة إن كنت في موضع الدفاع عن النفس، أو في موضع الهجوم على أهداف نوعية هامة، فتراصَّ القوم لدفعك وقتالك [ 12].
فإن وجد من بين الجند من أكره على الخروج هو الملزم شرعاً أن يضع سلاحه ولا يوجهه باتجاه المسلم وليس أنت.. فإذا كان في قتال الفتنة الذي يكون بين المسلمين بعضهم مع بعض يجب عليه أن يعتزل القتال ويتخذ سيفاً من خشب كما جاء في بعض الأحاديث، فكيف عندما يُكره على القتال مع المشركين المرتدين ضد المسلمين فمن باب أولى أن يعتزل القتال وأن يرمي بسلاحه بعيداً عن صدور المسلمين.
فإن أدى ذلك إلى قتله من قبلك أو قِبل الجيش الذي هو فيه، فإنه يُرجى له أن يُبعث على نيته، كما في الحديث عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم " فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: "يُخسف به معهم ولكنه يُبعث يوم القيامة على نيته " مسلم.
وفي رواية عند مسلم كذلك: فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس؟ قال: "نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم".
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/538: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المكره في قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يُقاتل وإن قُتل، كما في صحيح مسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنٌ، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أُكرهت حتى يُنطلق بي إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار".
ففي هذا الحديث أنه نهى عن القتال في الفتنة، بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال، أو إفساد السلاح الذي يقاتل به..
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلوما، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام، كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أُكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجلٌ رجلاً على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل..
إلى أن قال: ونحن لا نعلم المكره، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرهاً لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة. اهـ.
وعن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. البخاري.
قال ابن حجر في الفتح13/38: فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعاصي باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلاً أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك. اهـ.
قلت: هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة حصلت لهم المؤاخذة لأنهم كانوا قبل أن يُكرهوا على الخروج مع جيش المشركين لقتال المسلمين قادرين على التحول والهجرة إلى دار الإسلام المتمثل يومئذٍ في المدينة المنورة، لذا لم يعتبر إكراههم وقت إخراجهم للقتال إكراهاً معذراً يقيل العثرات ويرفع الحرج، هذا المعنى توضحه الآية الكريمة ذاتها: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين...} النساء: 97-98.
فلم يقبل الله عذرهم بالاستضعاف لأنهم كانوا - قبل أن يُكرهوا على الخروج مع جيش المشركين - قادرين على الهجرة والتحول إلى دار الإسلام فلم يفعلوا.. إلا المستضعفين الحقيقيين الذين كانوا قبل أن يُكرهوا على الخروج للقتال.. كانوا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فهؤلاء {عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً}.
خلاصة المسألة:
نعيد تلخيص المسألة في النقاط التالية:
1) هذه الجيوش جيوش كافرة مرتدة لا شرعية لها، يجب جهادها وقتالها..
2) لا يستلزم من ذلك أن يكون كل واحدٍ في هذه الجيوش كافراً مرتداً، بل فيها الكافر المرتد وغير ذلك لاحتمال وجود الموانع الآنفة الذكر..
3) من ثبت لنا انتفاء موانع التكفير - الثلاثة الآنفة الذكر - عنه، فهو كافر مرتد بعينه..
4) ليس كل الجيوش المعاصرة سواء من حيث حجم المخالفات الشرعية والانحراف والعداء للإسلام والمسلمين.. وبالتالي فهي كذلك ليست سواء من حيث حجم الأعذار والشبهات التي تقيل عثرات أفرادها..
5) الجيوش التي يغلب فيها وجود العناصر الذين يشملهم العذر، من السلامة والسياسة الشرعية أن لا تكون هدفاً يُقصد للمجاهدين إلا على وجه الدفاع عن النفس..
6) من عُرف من الجنود أو من ذوي الرتب الصغيرة بشدة عدائه للإسلام والمسلمين، وبأذاه الشديد للمسلمين.. يُقصد بعينه ويُزال لتزول معه فتنته للعباد، ولا يتشفع له كونه جندي أو من ذوي الرتب الصغيرة، فكم من صاحب رتبة صغيرة اشتدت فتنته على العباد أكثر من أسياده وزعمائه الكبار!
[10] لترغيب المسلمين المقيمين في أمريكا ودول الغرب في الانخراط في جيوش تلك الدول، يُعلنون في صحافتهم الرسمية أن المسلمين في جيوشهم يُسمح لهم بالصلاة وأداء جميع الشعائر التعبدية، ويُسهلون لهم كل ما يُعينهم على ذلك، كما أن لهم رعاية خاصة من حيث تأمين وجبات الطعام الحلال الخالية من لحم الخنزير وغير ذلك.. ولكن هل بتلك المعاملة - التي لا توجد في كثير من بلادنا وجيوشنا - تصبح تلك الجيوش جيوش إسلامية تجوز المشاركة فيها؟! الجواب يعرفه القاصي والداني: بأن.. لا!!
[11] انظر بحث " حالات يجوز فيها إظهار الكفر "، وهو موجود في موقعنا على الإنترنت.
[12] وإن كنت أرى من السلامة والسياسة الشرعية أن لا يكون هؤلاء الجند هدفاً دائماً للمجاهدين إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأن يكون العمل كله موجهاً إلى رؤوس الكفر وأئمة الطغيان أصحاب القرار.. وبخاصة إن كان هذا الجيش يكثر فيه المسلمون من أهل الأعذار، وقد تقدمت صفتهم وأعذارهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وبعد:
من أعظم ما ابتليت به الأمة في هذا الزمان هذه الجيوش والعساكر المنتشرة في أقطارها المختلفة.. فهي ظاهرة مرضية عامة ومشكلة كبيرة، ومدار جدال واسع وكبير بين قطاع الشباب حول مدى شرعية هذه الجيوش.. ومع ذلك فالمسألة لم تخضع للدراسة والبحث والإفتاء من قبل فقهاء العصر!!
فقد قلبت ما صُنف في كتب النوازل وغيرها من الكتب التي تحتوي على مجموع فتاوى المعاصرين، فلم أجد كلاماً شافياً ولا غير شافٍ في المسألة، وكأن هذه الجيوش من الأمور المسلمات - كالطاهر المطهر - لا يجوز أن يُقال فيها قولاً فضلاً عن أن يُشكك بها أو تناقش أحوالها وعدالتها ويُبين حكم الله فيها!!
قد تناول القوم كل شاردة وواردة، ولم يدعوا فرعية إلا وغاصوا فيها وتكلموا عنها، وفرعوا لها فروعاً أخرى وأجابوا عنها.. إلا هذه الجيوش الجاثمة على صدر الأمة ظلماً وزوراً فلم يأتوا على ذكرها في شيء، ولم يبينوا حكم الله فيها، ولا حكم من يلتحق بها.. فهي عما يبدو - لصريح إيمانها وإسلامها - لا تستحق منهم البحث ولا البيان أو النقاش!!
تركوا المسائل الهامة العامة.. وأقبلوا - رهبة أو رغبة - على بحث مسائل يقل نفعها إذا لم يكن نفعها معدوماً!
وأحسنهم الذي إذا سئل عن هذه الجيوش تراه يعرض عن الإجابة، ويلوي حنكه وخصره وكأنه غير معني من السؤال ليصرف السائل عن سؤاله ومقصده!
بل وجدنا من هؤلاء الفقهاء من جند نفسه وجند أبناءه في هذه الجيوش، وجعلوا من أنفسهم وعلمهم بوقاً دعائياً يذودون به عنها.. وكأنهم في جيوش الصحابة الأوائل!!
وفي المقابل رموا كل من خالفهم أو قال قولاً مغايراً لقولهم في هذه الجيوش الظالمة بأنه من الغلاة.. وأنه غير وطني، أو خائنٌ للوطن والشرف العسكري!!
والذي يهمنا من الإشارة إلى هذا التقصير والتفريط المخل أن نستحث همم الباحثين والفقهاء على أن يؤدوا أمانة العلم الملقاة على عاتقهم، وأن يقوموا بدورهم الصحيح في بيان حال وحكم هذه الجيوش المعاصرة، نصحاً للأمة وإبراءً للذمة.. فالعلم له ضريبة - والله تعالى سائلهم عنها - لا بد من أدائها بسخاء وطيب نفس، وضريبته بيانه وعدم كتمانه، والصدع بالحق في وجوه الطغاة الظالمين.
ضريبة العلم.. تكمن في إخلاص النصح للأمة وعدم غشها أو الكذب عليها!!
ضريبة العلم.. أن لا يوقع أهله عن رب العالمين من فتاوى وأحكام إلا فيما يرضي رب العالمين جل جلاله .
ضريبة العلم.. أن يصونه أهله عن الذل والتمرغ على عتبات الطاغوت يستجدونه العطاء والفُتات!
ضريبة العلم.. أن لا يخشى أهله في الله لومة لائم.. فمهابة الظالمين في الحق لا يؤخر أجلاً ولا يمنع رزقاً، كما في الحديث: "لا يمنعنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍّ إذا علمه، فإنه لا يُقرب من أجلٍ ولا يُبعد من رزقٍ " [ 1].
ومما يجعل الحاجة ماسة لبحث المسألة - إضافة لما تقدم - أن كثيراً من أبنائنا وشبابنا يذهبون للجندية في هذه الجيوش الآثمة الطاغية طواعية من تلقاء أنفسهم مقابل رواتب زهيدة يُعطونها.. ظناً منهم أنهم بذلك يفعلون خيراً، أو يكتسبون صفات المجاهد في سبيل الله، ولهم أجره وثوابه!!
لذا فقد تعين البحث والبيان.. ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيى عن بينة، متكلين على الله تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقبل أن نبين حكم الشرع في هذه الجيوش، وحكم القائمين عليها من الطواغيت، وفيمن يلتحق بها من الجند والعسكر لا بد أولاً من توصيفها وبيان حالها ومهامها وغاياتها التي صُنعت وأسست لأجلها..
فأقول: لم يخرج المستعمر الصليبي من بلاد المسلمين إلا بعد أن أوجد الحكام والأنظمة التي يرضى عنها وتحقق له مصالحه وأهدافه في المنطقة، وأي حاكم يأتي فيما بعد لا بد من مراعاته لمدى رضى أمريكا ودول الغرب عليه، فإن حظي على الموافقة منهم وعلى رضاهم عنه فقد اجتاز المرحلة الأصعب نحو الوصول إلى سدة الحكم واعتلاء العرش، وناله من القوم كل دعم مادي وسياسي وإعلامي [ 2]!!
ورضى أمريكا ودول الغرب الصليبي على أي حاكم مشروط بعدة شروط:
أولها: أن يتعهد لهم أن يقف بحزم وقوة ضد أي توجه أو عمل إسلامي راشد يستهدف استئناف حياة إسلامية على المستوى القطر أو الأمة.. وأن يُحيل بين الشعوب المقهورة وبين هدفهم هذا، وبأي طريقة من الطرق!!
ثانياً: أن يضمن مصالحهم الاستعمارية في المنطقة، ويعمل على حمايتها وحراستها.. وإن كان ذلك تحت عناوين براقة مستساغة للشعوب المقهورة، كشركات الاستثمار.. والحاجة إلى الخبرات والطاقات الأجنبية.. أو المصالح المشتركة.. أو ضرورة التنقيب عن البترول.. وغير ذلك من الاطلاقات التي تمرر مثل هذه المصالح الأجنبية في المنطقة!!
ثالثاً: أن يعترف بدولة إسرائيل، وبضرورة السلام مع المغتصبين المحتلين الصهاينة.. السلام الذي يُعطي أصحاب الحقوق الفُتات والعظام المجردة عن لحومها وعظامها مما اغتصب ونهب منهم.. لذلك نجد جميع حكام العرب وغيرهم يصرحون على الملأ بأن السلام مع الصهاينة المحتلين خيار استراتيجي لا محيد لهم عنه، مهما حادت عنه دولة إسرائيل واختارت الحرب والقتل والقتال، وارتكبت من المجازر بحق الشعب الفلسطيني المسلم!!
فهو خيار استراتيجي لهم لأنه لا بقاء لعروشهم ومصالحهم الذاتية الشخصية إلا بالموافقة على هذا الخيار.. وهؤلاء الحكام لو كانوا من دعاة السلام بحق لسالموا شعوبهم أولاً، ولأخرجوا شباب الأمة الأحرار من سجونهم الظالمة التي تكتظ بالآلاف من الشباب المسلم!!
رابعاً: أن ينهج الطريق الديمقراطي - دين الغرب - لما تحقق لهم الديمقراطية في المنطقة من مآرب ومصالح عديدة.. لكن إذا جاءت هذه الديمقراطية معارضة للنقاط الثلاثة الآنفة الذكر أو لشيءٍ منها، فهم يسمحون له أن يتحول إلى ديكتاتوري، وإلى وحش كاسر ضد شعبه وأمته، ولا حرج عليه في ذلك البتة [ 3]!!
هذه أهم الشروط التي يجب على الحاكم أن يوافق عليها لكي ترضى عنه أمريكا ودول الغرب، ولكي يحظى على موافقتهم وتأييدهم!
ولما كان الأمر كذلك فإن طواغيت الحكم منذ سقوط الخلافة العثمانية وإلى يومنا هذا يعملون بكل همة ونشاط على تشكيل المؤسسات الحكومية التي تعينهم على تنفيذ تلك السياسات والمصالح المشار إليها آنفاً، ومن أهم هذه المؤسسات التي عنيت باهتمامهم المؤسسة العسكرية؛ حيث عملوا جاهدين - ومنذ زمن - على تطهيرها من العناصر النظيفة المؤمنة، وعلى تشكيل الجيوش التي تعينهم على السير في تلك السياسة المرسومة لهم من قبل أعداء الأمة من دون مواجهة أي عقبة أو مشاكل!
الجيوش التي تسهر على أمن وسلامة الطاغوت الحاكم، وأمن وسلامة سياساته الجائرة الداخلية والخارجية!!
الجيوش التي لا تعرف غاية ولا همّاًًً.. سوى خدمة الطاغوت، وخدمة مآربه وأهوائه وقوانينه!!
لذا نجد أن العناصر الفاعلة لهذه الجيوش منتقاة انتقاء غريباً جداً وفق معايير ومواصفات عديدة:
منها: أن تكون هذه العناصر غير متدينة.. ليس عليها سمات التدين والالتزام، ولم يُعرف عنها التدين من قبل!!
ومنها: أن تكون غير أخلاقية ومن ذوي الاهتمامات الوضيعة التافهة؛ لا هم لهم إلا كيف يُشبعوا غرائزهم ونزواتهم وبأي طريقة كانت.. ولا حديث لهم إلا ما يدور حول البطن والفرج والشهوات!!
ومنها: أن تكون هذه العناصر من ذوي الولاء المطلق، والطاعة العمياء للحاكم والفئة الحاكمة المتنفذة.. ينفذون الأوامر مهما كانت جائرة أو تصب في غير صالح الأمة ومن دون أدنى تلكؤ أو تردد!!
ينفذون الأوامر ولو كان مفادها سحق الشعوب وقتلها وإذلالها وسجنها.. فمرضاة الطاغوت عندهم أغلى وأسمى من الشعوب ومن الأمة برمتها!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم أنهم من ذوي الثقافات الواسعة التي تعرفهم على خفايا وحقيقة وغايات هذه الأنظمة الطاغية الحاكمة.. فكلما كان الضابط أو العسكري جاهل بدينه وعقيدته وبالسياسة الدولية وبما يدور حوله وما يُحاك من مؤامرات ضد الأمة كلما كان أكثر قرباً من الطواغيت وأسرع في الارتقاء إلى الرتب العالية!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم انتماؤهم لأي تجمع أو حزب لم يحظ على الرضى التام من النظام أو الطاغوت الحاكم!!
ومنها: أن لا يُعرف عنهم أنهم من ذوي الرجولة والحمية والغيرة، أو أنهم من ذوي الهمم والاهتمامات العالية.. التي قد تحملهم يوماً من الأيام على الذود عن حرمات الأمة ومقدساتها والغضب لأجلها، وعلى العصيان والتمرد على الطاعة.. والخروج عن السياسة العامة التي رُسمت لهم ولحكامهم!
وأي ضابط أو عسكري يُعرف عنه شيء خلاف ما تقدم فإنه يُعرض للمساءلة والمحاسبة، وإلى عقوبة تتراوح بين الطرد أو السجن أو الإعدام.. بحسب درجة المخالفة ونوعها، وهذا أمر معروف للجميع لا خفاء فيه، ولظهوره لا يحتاج منا إلى استدلالٍ أو برهان!
هذه أهم المقاييس والموازين المعتبرة عند القوم التي على أساسها يتم اختيار أو قبول الأفراد في جيوشهم أو رفضهم!
[1] أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة: 491.
[2] على سبيل المثال - والأمثلة كثيرة - ما حصل مؤخراً في الأردن؛ فإن العالم والناس أجمع يعلمون ويتوقعون أن يكون ولي العهد بدلاً عن الملك حسين أخوه الحسن، حيث ظل أكثر من ثلاثين سنة وهم يخاطبونه بولي العهد، والأمير المحبوب.. ولكن لما كان ولده عبد الله الحاكم الحالي مرضي عنه من قبل أمريكا واليهود والغرب الصليبي أكثر من الآخر، ويمكن من خلاله تمرير المصالح الأمريكية واليهودية والغربية أكثر من الآخر، كان لا بد من اختياره ملكاً وحاكماً على البلاد والعباد، وإخراج ولي العهد السابق كلياً من دائرة الحكم أو التأثير على القرار.. علماً أن الأول لا يحق له من ناحية دستورهم وقوانينهم أن يكون ملكاً لأن أمه إنكليزية.. ولكن لما تصطدم هذه الدساتير والقوانين - في مرحلة من المراحل - مع مصالح أمريكا والصهاينة وغيرهم من قوى الاستكبار العالمي فإنه يسهل تغيير تلك الدساتير والقوانين إلى دساتير وقوانين أكثر تلائماً وانسجاماً مع مصالحهم وأهدافهم!!
ولما علم الآخر بالموقف الأمريكي والصهيوني والغربي هذا نحوه، فما كان منه إلا أن يرضى ويُسلم للإرادة الدولية من دون أن يقول حتى كلمة اعتراض أو لماذا؛ لعلمه باللعبة الدولية، وأن أي حاكم في المنطقة لا بد أولاً من أن تتم الموافقة عليه من تلك السلطات الاستعمارية المتنفذة في العالم!!
وهو نفسه لو وافقت عليه أمريكا ودول الغرب الصليبي.. ثم أن الشعب الأردني كله قال له: أمَّا نحن لا نريدك حاكماً علينا.. لما تردد لحظةً في أن يبيدهم بآلته العسكرية المعدة مسبقاً لمثل هذه الطوارئ والحالات!!
[3] كما حصل ويحصل في الجزائر، وتونس، ومصر، وتركيا وغيرها من الأمصار، انظر إن شئت كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية".
صفات هذه الجيوش العامة
بعد أن عرفنا طريقة القوم في انتقاء عناصر الجيش وبخاصة منها العناصر القيادية المؤثرة كالضباط وغيرهم، لا بد من أن نتعرف على أبرز صفات هذه الجيوش التي تتكون من تلك الفئة من الناس المنتقاة حسب الموازيين والمعايير التي وضعها وأرادها الطاغوت لهم.
فأقول: هذه الجيوش لا تحكم بما أنزل الله وإنما تحكم بشرائع الكفر والطغيان، كما أنها لا تلتزم بصوم ولا صلاة ولا حج، وإن وجد منهم بعض الأفراد من يؤدي هذه الفرائض فهو يؤديها بطريقة فردية.. وربما بعدها قد يخضع للمراقبة والمتابعة والمساءلة.
يكثر في هذه الجيوش من يشتم الله والدين والاستهزاء والطعن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم من دون أن ينكر عليهم أحد، بينما لو تجرأ منهم من تكلم بكلمة نابية أو اعتراض على الطاغوت الحاكم أو من هو دونه رتبة من الفئة المتنفذة الحاكمة فإنه يسجن ويُضرب ضرباً شديداً، وربما في بعض الجيوش يكون ذلك مبرراً لقتله وإعدامه!!
لا يُعظمون شعائر الله ولا يعرفون لها الوقار ولا الاحترام.. بل هي مهانة ومُزدَرَاة وفي كثير من البلدان تحولت فيها المساجد إلى متاحف أثرية تستقبل السائحين العراة [ 4]!!
يبكون الأقصى الأسير مسرى النبي صلى الله عليه وسلم بدموع التماسيح.. وبنفس الوقت هم أنفسهم ينتهكون حرمات بيوت الله تعالى لأتفه الأسباب.. ولا يتورعون لأدنى سببٍ أن يدخلوا المساجد بأحذيتهم النجسة ليروعوا من فيها من المصلين الآمنين [ 5]!
هذه الجيوش فيها الكافر الأصلي كالنصارى وغيرهم وكثير من الكفرة المرتدين والزنادقة الملحدين، والكثير الكثير من الفسقة المجرمين.. لا يُفرقون بين مؤمن وكافر أو مرتد، فكلهم يستوون في الولاء للحاكم ولأنظمة الجيوش الطاغية.. بل الكافر المجرم في نظرهم مقدم ومفضل على المؤمن التقي ولا مجال للمقارنة بينهما!!
يُعقد الولاء والبراء في شخص الحاكم.. فيوالون من يواليه، ويعادون من يُعاديه، ويُقاتلون ويُسالمون فيه وعليه!!
إن أمرهم أطاعوه وإن كان أمره فيه كفر ومعصية لله تعالى، وإن نهاهم انتهوا وإن كان في نهيه نهي عن طاعة وعبادة لله تعالى.
وإن أمرهم بقتل وسجن العباد امتثلوا لأمره لأنه صاحب الأمر والنهي الذي يجب أن يُطاع لذاته، بغض النظر هل هؤلاء الناس يستحقون القتل والسجن أم لا!!
عسكر هذه الجيوش كالوحوش الضارية على من يقترب بسوء من سياج الطاغوت الحاكم ومن حكمه ونظامه.. بينما تراهم على أعداء الأمة الخارجيين رحماء كلهم وداعة ولطف ورحمة ولكن بجبنٍ وذلةٍ وخسة!!
على الشعوب المقهورة كالأسود.. بينما في الحروب مع أعداء الأمة، وعلى الجبهات كالنعاج والأرانب!
أين هذه الجيوش من قضايا الأمة المصيرية.. أين هي من قضية فلسطين المسلمة؟!!
هاهم الصهاينة اليهود في كل يوم يقومون بمجازر ضد أهالينا وأبنائنا في فلسطين.. ينتهكون الحرمات.. ويدنسون المقدسات.. ويعتدون على المسجد الأقصى.. ويفعلون كل ما يحلو لهم ويريدون، وما تملي عليهم وساوسهم الشيطانية المدونة في برتوكولاتهم وكتبهم الصهيونية، ومن دون أن يحسبوا لهذه الجيوش أدنى حساب!!
فما هي ردة فعل هذه الجيوش المغوارة.. فإنها محصورة بنستنكر ونشجب، ونأسف.. نحن لا نريد الحرب.. نحن خيارنا هو خيار العقلاء وهو السلام.. السلام مع المغتصبين الصهاينة خيار استراتيجي لا محيد عنه.. قضية فلسطين لا يُمكن أن تُحسم عن طريق القوة أو الحروب.. وغير ذلك من الاطلاقات الجبانة والذليلة والعميلة؟!!
بل بعض هذه الجيوش كالجيش المصري، والجيش الأردني وغيرها من الجيوش قد أقامت علاقات ديبلوماسية على مستوى السفراء، وسلاماً صريحاً مع دولة الصهاينة اليهود وقبل أن تُسترد الحقوق لأهلها وأصحابها، أو يأخذ الحق طريقه إلى معاقبة الصهاينة المجرمين سفاكي دماء الأبرياء؟!
وإذا كان الأمر كما وصفنا فإنه يحق لنا ولغيرنا أن يسأل: لمن أعدت هذه الجيوش الجرارة.. ومن أجل من ولماذا تُشترى هذه الأسلحة الفتاكة - من مقدرات الأمة - بمليارات الدولارات لتكدس في مخازنها إلى أن تتعفن وتنتهي فعاليتها.. من المعني والمراد إرهابه من هذه الجيوش الجرارة؟؟!!
الجواب واضح لكل ذي لبٍّ وفهم: هذه الجيوش لم تُعد من أجل أعداء الأمة.. وإنما من أجل قهر الشعوب وإذلالها.. من أجل إبادة أي حركة تمرد أو عصيان على سياسة الطواغيت الحاكمين!!
فهي عصاة الطاغوت الغليظة يؤدب بها من يشاء ممن يخرج عن طاعته وعبادته أو سياسته وطريقته!!
ولا نبتعد كثيراً عن الصواب لو قلنا أن هذه الجيوش أعدت لحماية وحراسة دولة اليهود.. فهم يعملون على مدار الساعة موظفين ككلاب حراسة أوفياء يحرسون حدود دولة إسرائيل من أي هجوم أو عمل فدائي يقوم به المجاهدون الأحرار!
والويل كل الويل لهذه الجيوش الجبانة لو استطاع مجاهد أن يتسلل من بينهم إلى دولة الصهاينة اليهود.. حيث ترى جميع القوى العميلة الخائنة تستنفر بكل قواها كالكلاب المسعورة، يتوعدون ويهددون من كان سبباً في هذه الخروقات الإرهابية.. ليؤكدوا من جديد للصهاينة المغتصبين أننا لا نزال نعمل بوفاء وإخلاص على ثغور دولتكم ككلاب حراسة وصيد على أكمل ما يكون العمل وتكون الحراسة!!
هذا بما يخص فلسطين.. أما ما يخص موقف هذه الجيوش من بقية قضايا الأمة؛ كقضية المسلمين في البوسنة والهرسك، وقضية كشمير، وقضية المسلمين في الفلبين، وقضية أفغانستان، وقضية الشيشان وما يعانيه أهل هذا البلد المسلم من ظلم وجبروت وكفر المجرمين الروس!
فإذا أردت أن تتحدث عن المواقف المخزية لهذه الجيوش نحو هذه القضايا الهامة وغيرها فحدث ولا حرج.. فما يجري للمسلمين في تلك الديار لا يعنيهم في شيء، ولا يهمهم من قريب ولا من بعيد، بل كثير من الأنظمة العربية وجيوشها تقف في صف الدول الطاغية الكافرة المعتدية ضد الشعوب المسلمة المضطهدة والمحاربة!!
هذا كله يجعلنا نجزم أن هذه الجيوش لم تُعد لخدمة الأمة في شيء، ولا من أجل الدفاع عن الشعوب المقهورة المحرومة.. ولا من أجل رسالة أو هدف عظيم.. وإنما هي صُنعت فقط - كما تقدم - من أجل حماية الطواغيت ومكاسبهم الشخصية، وحراسة مصالح اليهود والغرب الصليبي في المنطقة!!
وعليه فإننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين:
أن هذه الجيوش - من دون استثناء - لصفاتها الآنفة الذكر هي جيوش باطلة كافرة، شرها يغلب على خيرها، بل لا خير فيها للأمة، لا يجوز الانضمام إليها أو الالتحاق بها اختياراً، أو تكثير سوادها في شيء، أو الدخول في موالاتها بدعاء أو أي شيءٍ آخر.. يجب جهادها وقتالها إن أبوا إلا ذلك؛ لكي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} الأنفال: 39.
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عسكر التتار، وحكم جهادهم فأجاب: فهؤلاء القوم المسؤول عنهم عسكرهم مشتمل على قوم كفار من النصارى والمشركين، وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهم جمهور العسكر - ينطقون بالشهادتين إذا طُلبت منهم، ويعظمون الرسول، وليس فيهم من يُصلي إلا قليل جداً، وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة، والمسلم عندهم أعظم من غيره، وللصالحين من المسلمين عندهم قدر، وعندهم من الإسلام بعضه، وهم متفاوتون فيه، لكن الذي عليه عامتهم والذي يُقاتلون متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها فإنهم أولاً يوجبون الإسلام ولا يُقاتلون من تركه، بل من قاتل على دولة المغول عظموه وتركوه وإن كان كافراً عدواً لله ورسوله، وكل من خرج عن دولة المغول أو عليها استحلوا قتاله وإن كان من خيار المسلمين.
فلا يُجاهدون الكفار ولا يُلزمون أهل الكتاب بالجزية والصغار، ولا ينهون أحداً من عسكرهم أن يعبد ما شاء من شمس أو قمر أو غير ذلك، بل الظاهر من سيرتهم أن المسلم عندهم بمنزلة العدل أو الرجل الصالح، والكافر عندهم بمنزلة الفاسق في المسلمين!
وكذلك عامتهم لا يحرمون دماء المسلمين وأموالهم إلا أن ينهاهم عنها سلطانهم؛ أي لا يلتزمون تركها، وإذا نهاهم عنها أو عن غيرها أطاعوه لكونه سلطاناً لا بمجرد الدين، وعامتهم لا يلتزمون الواجبات، ولا يلتزمون الحكم بينهم بحكم الله، بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارةً وتخالف أخرى!
وقتال هذا الضرب واجب بإجماع المسلمين، وما يشك في ذلك من عرف دين الإسلام وعرف حقيقة أمرهم، فإن هذا السلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبداً [ 6]. اهـ.
قلت: من يقارن أوصاف جند التتار الآنفة الذكر التي ذكرها عنهم شيخ الإسلام، وبين أوصاف جند وجيوش العرب وغيرها من جيوش الأمة في هذا الزمان يجد أن جند التتار فيهم من خصال الخير ما ليس في جند وعسكر العرب؛ فجند التتار يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسلم عندهم أعظم من غيره، وللصالحين عندهم قدر.. وهذا بخلاف ما عليه كثير من جيوش العرب في هذا الزمان، إن لم يكن كلها [ 7]!!
ومع ذلك لصفاتهم الأخرى الآنفة الذكر يقول عنهم شيخ الإسلام: أن قتالهم واجب بإجماع المسلمين، وأن هذا السلم الذي هم عليه ودين الإسلام لا يجتمعان أبداً.
وهذا الحكم يلحق بكل من اتصف بصفاتهم أو فعل فعلهم ولا بد.. ولحوقه بجيوش الأمة في هذا الزمان من باب أولى لاتصافهم بصفاتٍ هي أغلظ وأشد من صفات جند وعسكر التتار الآنفة الذكر.. وقد تقدم ذكرها!!
وقال رحمه الله في الفتاوى 28/20: من حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويُعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان. اهـ.
أقول: أليس هكذا حال جيوش الأمة في هذا الزمان؛ حيث توالي وتعادي في شخص الطاغوت الحاكم.. يوالون من والاه، ويُعادون من عاداه، بغض النظر هل يستحق شرعاً تلك الموالاة أو المعاداة!!
تُنتهك حرمات الأمة، ويُعتدى على مقدساتها، وتُقتل الأطفال والنساء، ويُشتم الله ورسوله.. فكل هذا وغيره لا يستدعي موقفاً من هذه الجيوش ولا من حكامها، ولكن لو تجرأ أحد أو أي جهة على النيل من جناب الطاغوت الحاكم بعبارة انتقاص أو طعن فإن هذه الجيوش ومعها جميع مؤسسات الحكومة تعلن براءها وعداءها لتلك الجهة، وتسحب سفيرها من تلك الدولة أو الجهة، وربما تحركت الجيوش واستنفرت واستعدت للقتال [ 8]!!
فهذه الجيوش عندما ترضى لنفسها مثل هذه العبودية للطاغوت فهي تخرج مباشرة من كونها جيوش إسلامية تجاهد في سبيل الله إلى كونها جيوش كفرية باطلة تجاهد في سبيل الشيطان كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله.
وفي وجوب قتال الفئة الممتنعة عن أداء أمرٍ معلوم من الدين بالضرورة يقول ابن تيمية رحمه الله: فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعةٍ من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين كله لله، باتفاق العلماء.
عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إنا بأرضٍ نعالج بها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا، وعلى برد بلادنا، فقال: هل يُسكر؟ قلت: نعم. قال: فاجتنبوه. قلت: إن الناس غير تاركيه، قال: فاقتلوهم.
وقال: وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة.. فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أنه يُقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين..
فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والميسر، أو عن نكاح ذات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته - التي لا عذر لأحدٍ في جحودها وتركها - التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء. اهـ.
قلت: إذا كان قتال الطائفة الممتنعة عن أداء واجب من واجبات الدين الظاهرة واجب بأدلة الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة.. فإن قتال هذه الجيوش المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، والتي لا تلتزم بشيء من واجبات وأركان هذا الدين [ 9]، إضافة إلى خصال الكفر الأخرى التي تتصف بها والمشار إليها آنفاً.. لا شك أنه أولى وأوجب من قتال الفئة التي تمتنع عن أداء آحاد الواجبات الدينية.
فإن قتال المرتد أو الفئة المرتدة المارقة من الدين المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين أوجب بكثير من قتال الفئة الباغية التي تمتنع عن أداء بعض واجبات الدين، بل هو أوكد من قتال وجهاد الكافر الأصلي كما سيأتي بيانه معنا.
قال ابن حجر في الفتح 13/7: إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. اهـ.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم 12/229: قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، وقال وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها. اهـ.
[4] هذه الصفات الآنفة الذكر تتفاوت الجيوش المعاصرة فيما بينها من حيث الاتصاف بها، فليسوا كلهم سواء في هذه الصفات وبنفس الدرجة.. لكن إن عُدمت صفة في جيش من الجيوش توفرت فيه الأخرى، فكل جيش له ما يميزه من شارات الطغيان والكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[5] على سبيل المثال لا الحصر ما قام به الجيش المغوار السوري من تدمير لمساجد مدينة حماه التي يزيد تعدادها عن المائة مسجد بعضها لها امتداد تاريخي حتى العهد الأموي، في مجزرة حماه المشهورة والتي ذبحوا فيها - بآلتهم العسكرية - في ليلة واحدة ما يزيد عن عشرين ألف مسلم بينهم كثير من الأطفال والنساء، لا ذنب لهم سوى أنهم يقولون ربنا الله!!
[6] مجموع الفتاوى: 28/504.
[7] إن قلت هذا التعميم فيه ظلم وتشدد.. أقول لك لكي تعرف مصداق ذلك: ادخل جميع الدول العربية وغيرها من الدول التي تسمي نفسها إسلامية بجواز سفر يُعرِّف عنك أنك عربي أو مسلم، ثم ادخل إليهم مرة ثانية بجواز سفر آخر يُعرِّف عنك أنك أمريكي أو أوربي ثم انظر الفارق الكبير في المعاملة، والاحترام والتبجيل والتسهيلات التي تُعطاها.. بين دخولك إليهم كمسلم، وبين دخولك إليهم كإنسان أمريكي أو أوربي لا يُعرف لك دين.. حينئذٍ ستدرك صدق وصواب ما أثبتناه عن القوم أعلاه!!
كذلك لو ألقيت إطلالة سريعة على السجون الموجودة في تلك الدول.. لما وجدت سجيناً واحداً اعتقل بسبب كفره وشركه أو ارتداده عن الدين وما أكثرهم في البلاد.. بينما تجد مئات المسلمين من العلماء والدعاة إلى الله تعالى تكتظ بهم السجون، ويُعاملون أسوأ معاملة!!
[8] الأمثلة على ذلك كثيرة وهي مشاهَدة على مدار الساعة، ولكن نضرب مثالاً ما يحصل في هذه الأيام من مجازر وانتهاكات بحق الشعب المسلم في فلسطين، وما يحصل من اعتداءات سافرة على المقدسات وبخاصة منها مسجد الأقصى مسرى النبي صلى الله عليه وسلم.. فكل هذه المجازر والانتهاكات السافرة لحقوق العباد والمقدسات فهي لا تستدعي مثلاً من الدولة المصرية أن تسحب سفيرها من دولة الصهاينة المحتلين!!
ولكن لو أخطأت دولة الصهاينة وقالت في وسائل إعلامها عن حسني مبارك مثلاً: إنه حمار لا يفهم.. فقط هذه العبارة، فهي كافية لاستدعاء سفير مصر، وقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها من العلاقات مع دولة الصهاينة، ولن يهدأ الحال إلا بعد أن تعتذر حكومة الصهاينة عن مقولتهم تلك بطريقة رسمية وعبر وسائل إعلامهم، وربما لا يهدأ.. كل هذا من أجل تلك المقولة التي قيلت في حق طاغوت مصر، أما أن يُباد شعب بكامله فهذا أمر فيه نظر، يستدعي من القوم إظهار المرونة بعقل متفتح وصدر منشرح!!
وفي هذه الأيام كذلك قد طالعتنا نشرات الأخبار بأن ليبيا تسحب سفيرها من لبنان اعتراضاً على حفل عشاء رسمي أقامته الحكومة اللبنانية لم يُدعى إليه سفير ليبيا.. فعدت ذلك انتقاصاً لشخص السفير، ولشخص طاغوت ليبيا مما دعى الأمر إلى هذه الحرب والمقاطعة الديبلوماسية.. فتأمل كيف تُحدد المواقف في دول الطواغيت وعلى أي أساس يُعلن الحرب أو السلم!!
[9] إن وجد بعض الالتزام في بعض الجيوش المعاصرة هو التزام فردي، وليس التزاماً على مستوى أنظمة الجيوش يخضع لها الكبير والصغير، وهي - أي هذه الجيوش - متفاوتة فيما بينها من حيث حدة موقفها تجاه من يؤدي بعض الواجبات الدينية، فمنها من يعتبر الصلاة مثلاً تهمة تعرض صاحبها للمساءلة وربما إلى السجن والطرد من الخدمة وصاحبها يكون تحت المراقبة، وقد يُصنف أنه من الإرهابيين وهي أكثر الجيوش، ومنها من يعتبر أداء الصلاة التزاماً أخلاقياً حميداً لكن لا يأمرون بها الجنود ولا يلزمون بها الجميع فمن شاء أقام الصلاة ومن شاء تركها ولا حرج عليه كالجيش الباكستاني، والجيش اليمني، والجيش السوداني، وبعض جيوش دول الخليج العربي، ومنها من يفرضها على الجند ويلزم بها الجميع كالجيش السعودي فقط كما بلغني.. والله تعالى أعلم!
مسائل هامة
لاستيفاء الموضوع بحثاً وبياناً لا بد من بحث بعض المسائل الهامة ذات العلاقة بمادة البحث، والإجابة على بعض الشبهات التي تثار أحياناً هنا أو هناك...
المسألة الأولى
هل كفر هذه الجيوش يستلزم كفر كل من ينتسب إليها من العسكر والجند؟!
أقول: لصفات هذه الجيوش الآنفة الذكر لا بد من اعتبارها على وجه العموم أنها جيوش وتجمعات كفرية؛ هدفها نصرة الطاغوت وإعلاء كلمته وسياسته ونظامه، لا حظ للإسلام والمسلمين فيها في شيءٍ، ولكن هذا الحكم العام هل يستلزم منه كفر كل من ينتسب لهذه الجيوش من الجند أو الأفراد بأعيانهم؟
الجواب: لا يستلزم من كفر هذه الجيوش المعاصرة كفر كل من ينتسب إليها من الجند أو الأفراد بأعيانهم وذلك للموانع والاعتبارات التالية:
أولاً: مانع الإكراه: إذ أن كثيراً من الأفراد يُساقون إلى الخدمة العسكرية مكرهين وبالقوة، وهم كارهون لهذه الجيوش ولأربابها، ولو خيروا لما اختاروا الالتحاق بها..
والإكراه مانع من موانع التكفير بلا خلاف لقوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان} النحل: 106.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
فإن قيل: هؤلاء غير مكرهين لأنهم يستطيعون الهجرة والخروج من سلطان الطاغوت.. وبالتالي فهم غير معذورين!
أقول: لا شك أن من استطاع الهجرة أو أن يجد لنفسه مأمناً من إكراه الطواغيت.. أنه يجب عليه الهجرة للنفاد من الوقوع تحت طائلة الإكراه.. ولكن هذا الحكم ليس من السهل والواقعية أن نطلقه ونعممه على مئات الملايين من الناس ونلزمهم به، فمن لم يلتزمه فهو كافر.. وبخاصة أن المشكلة كما هو ملاحظ عامة لا تخص قطراً دون قطر؛ ولا مصراً دون مصر، فمَن يهاجر إلى من، ومَن يستقبل من، والكل تجب عليه الهجرة، ويُعاني من نفس المشكلة!!
أضف إلى ذلك المشاكل الأخرى المصطنعة في هذا الزمان التي تقيد كثيراً من حرية الحركة أو التنقل للإنسان؛ كمشكلة وثائق السفر التي لا يمكن التحرك إلا بها، فإن حصل المرء عليها يواجه مشكلة الحصول على فيزة البلد التي سيهاجر إليها، فإن حصل على فيزة البلد التي سيهاجر إليها تواجهه مشكلة الحصول على إقامة رسمية تمكنه من العيش في تلك البلد.. إلى آخر القائمة الكبيرة من المشاكل التي يُعايشها ويعرفها من قدر الله له الهجرة والضرب في الأرض في هذا الزمان.
أضف إلى هذه المشاكل وتلك، مشكلة غياب دولة الإسلام التي تكون داراً للهجرة والمهاجرين!
فالمسلم المهاجر في هذا الزمان يتنقل من دار كفرٍ مغلظ إلى دار كفرٍ آخر أقل كفراً، ومن دار ظلم مغلظ إلى دار ظلم مجرد.. فهو يتنقل من الأكثر سوءاً إلى الأقل سوءاً وليس من خيرٍ إلى ما هو أكثر منه خيراً.. وهذا واقع لا بد من اعتباره ومراعاته عند مطالبة الناس بالهجرة، أو إصدار الأحكام عليهم إن لم يستجيبوا لنداء الهجرة.
لأجل ذلك كله استثنى ربنا سبحانه وتعالى المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، كما قال تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً. أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً} النساء: 98-99.
من السهل عليك يا عبد الله أن تقول للناس - وأنت متكئ على أريكتك تحتسي الشاي أو القهوة - يجب عليكم أن تهاجروا.. لكن إن قيل لك: إلى أين، وكيف، ومتى، ومن أين.. فسوف تجد نفسك عاجزاً عن الإجابة عن كل هذه الأسئلة، وبخاصة إن وجه إليك هذه الأسئلة مئات الملايين من الناس!!
فليس من الفقه أن تطلق المسألة من دون النظر إلى آثارها ونتائجها، وإمكانية تحققها ومدى واقعيتها وموافقتها لمقاصد الشريعة العامة السمحاء!!
تنبيه:
لا يستفيد من هذا المانع من يذهب للجندية في هذه الجيوش كمتطوع من تلقاء نفسه من غير إكراه، مقابل راتب زهيد من المال يُعطاه.. فمن كان كذلك فهو غير معني من كلامنا السابق، وهو لا يُعذر بمانع الإكراه.
كما أن حديثنا عن مانع الإكراه لا يعني ولا يستلزم أن كل عناصر الجيش الغير متطوعين هم مكرهون ومعذورون للإكراه!!
فقولنا بوجود عناصر مكرهة شيء - لا يعلم عددهم إلا الله تعالى - وهو ما نقوله، والقول بأن جميع عناصر الجيش مكرهين ومعذورين بالإكراه شيء آخر وهو ما لم نقله، ونبرأ إلى الله منه ومن قائله.
ثانياً: مانع الجهل والتأويل: وهو مانع معتبر عند إصدار الأحكام على الأعيان.. والجهل يمكن أن يأتي للأفراد وعوام الناس من جهتين:
من جهة أن بعض هذه الأنظمة الطاغية تسمح بمقدار من حرية العبادة كأداء الصلاة، وصيام رمضان وغير ذلك من الشعائر الظاهرة، وبما ليس له مساس بالسياسة العامة للجيوش وبالأهداف التي صنعت لأجلها.. فيلبس ذلك على عوام الناس الذين يفهمون الإسلام عبارة عن شعائر تعبدية وحسب، فيظنون بل ويعتقدون أن هذه الجيوش إسلامية بدليل أنها تسمح لهم بالصلاة والصيام وغير ذلك [ 10]!
ومن جهة فإن مشايخ الإرجاء - قبحهم الله من مشايخ - ينشطون في كل مكان وفي كل اتجاه وواد بما أوتوا من علم وحفظ للنصوص يصورون للناس أن هؤلاء الطواغيت مسلمون تجب طاعتهم، وبالتالي من باب أولى أن تكون جيوشهم جيوش إسلامية يجوز الانخراط والعمل فيها!!
تقول كلمة حق فتقال مقابلها مليون كلمة باطل، وتصدر بحثاً يجلي الحق للناس، فيصدر مقابله آلاف الكتب والأبحاث المدعومة تنصر الباطل وتدعو له!!
والناس يترددون بين كلمتك وبين تلك الملايين من الكلمات الباطلة، وبين بحثك ومقالك وبين آلاف الكتب والأبحاث التي تخدم الباطل والطاغوت.. فيصعب عليهم الاختيار وتحديد المواقف، وبخاصة عندما تأتي نصرة الطغاة الآثمين من دعاة لهم باع طويل في الدعوة والإفتاء قد غرتهم الحياة الدنيا!!
لذا فإن أثر هؤلاء على عقيدة الناس وعلى تفكيرهم وتصورهم للأشياء لا يمكن إغفاله أو الاستهانة به عند الحديث عن الجهل وأسبابه ودواعيه.. وبخاصة في المسائل المشكلة المتشابهة كمسألتنا هذه!
لأجل ذلك ينبغي أن نتوقع أن عدداً كبيراً من الجنود حملهم على الخدمة في جيوش الطواغيت الجهل بحقيقة وأهداف هذه الجيوش، والفتاوى العديدة التي سمعوها من هنا وهناك التي تقول لهم: لا عليكم، فأنتم مرابطون ومجاهدون في سبيل الله!!
ومثل هؤلاء من السلامة والتقوى أن لا يُصدر حكم الكفر بأعيانهم قبل قيام الحجة عليهم وبيان الحق لهم.. هذا ما يقتضيه العمل بمجموع قواعد التكفير ذات العلاقة بالموضوع، وتطمئن إليه النفس.. والله تعالى أعلم.
تنبيه:
إعمال مانع العذر بالجهل والتأويل صعوداً أو هبوطاً بالنسبة لهذه الجيوش تختلف باختلاف الجيوش وأنظمتها ودرجة طغيانها.. فلا يُعقل مثلاً أن يُعذر بالجهل من يتجند في جيش يُحارب الله ورسوله والمؤمنين جهاراً نهاراً، تُمنع فيه الصلوات وأداء الشعائر، ويُعد ذلك فيها من الجرائم التي يُعاقب عليها صاحبها، وبين من يتجند في جيش يُسمح له بأداء الشعائر التعبدية بل ويُرغب بها.. فلا يستويان من حيث العذر بالجهل والتأويل؛ فالأول ساحة العذر بالجهل تضيق بحقه إن لم تنعدم لظهور كفر ذلك الجيش وأربابه ومسئوليه لأعشى الليل والنهار، وأعمى البصر والبصيرة.. بخلاف الآخر فقد تتسع بحقه ساحة العذر بالجهل للاعتبارات الآنفة الذكر أعلاه.
كذلك يوجد فرق بين من يتجند.. ويعمل كشرطي مرور أو في مؤسسة تابعة للجيش هي أقرب ما تكون إلى الوظائف المدنية كالمستشفيات العسكرية ونحوها، وبين من يعمل كجندي في جهاز المخابرات ويقوم بمهمة ملاحقة الدعوة والدعاة إلى الله، ويكون على علم بما يُحاك لدين الله من كيد ومؤامرات.. هذا جندي وهذا جندي، ولكن لا يستويان من حيث العذر بالجهل أو التأويل؛ فالأول ساحة العذر بالجهل والتأويل تتسع بحقه أكثر من الآخر الذي يُشاهد بعينه كيف يُشتم الله ورسوله عندما يُعذبون بعض الأخوة الذين يقعون في سجونهم!
فالآخر لا يُعذر بالجهل أو التأويل مهما كذب عليه مشايخ الإرجاء بأن الذين تعمل معهم مسلمون مؤمنون، لأن عينه التي يشاهد بها الكفر البواح هي أصدق وألزم لقيام الحجة عليه من دجل وكذب أولئك الشيوخ!!
هذا التفصيل والتفريق مهم وضروري لمن يريد أن يخوض في هذه المسائل الهامة، وهو ما يقتضيه الإنصاف والعدل الذي أمرنا أن نشهد به.. والله تعالى أعلم.
ثالثاً: الانغماس في جيوشهم كعينٍ للمسلمين:
كذلك من انغمس في صفوفهم وجيوشهم كعينٍ للمسلمين المجاهدين، أو على نية أن ينزل بهم النكاية وغير ذلك.. فمثل هذا لا يجوز أن يُحمل عليه حكم الكفر، أو أنه منهم، لدلالة النصوص الشرعية الدالة على جواز الانغماس في صفوف المشركين للغرض المذكور أعلاه، وفق ضوابط وشروط قد ذكرناها في بحث آخر [ 11].
فإن قيل: كيف يمكننا تحديد من كان معذوراً ممن لا يُعذر من تلك الجيوش الضخمة، ثم كيف نميزهم عند القتال؟!
أقول: يكفيك أن تحكم على تلك الجيوش بعمومها لا على التعيين بأنها جيوش كافرة لا شرعية لها، يجب جهادها وقتالها..
فإن أردت أن تحكم على شخص بعينه لا بد من أن تطمئن إلى انتفاء موانع التكفير الثلاثة عنه الآنفة الذكر، وغالباً ما تظهر القرائن التي تُعينك على إصدار الحكم به سلباً أو إيجاباً، فإن غُمّ أمره عليك، ولم يظهر منه ما يُرجح كفره وانتفاء الأعذار عنه، ينبغي أن تمسك عن تكفيره بعينه مع بقاء قولك بكفر فعله وموقفه.
ومثل هذا التفصيل والتدقيق قد لا تحتاجه عند الحديث عن الأرباب والطواغيت الكبار من ذوي الرتب والمسؤولية لوضوح كفرهم وجلائه، ولانتفاء الموانع الآنفة الذكر عنهم.
أما عن قتالهم فالأمر أسهل من تكفيرهم، فأنت عند القتال لم تؤمر شرعاً أن تميز من منهم يُعذر ومن لا يُعذر، وبخاصة إن كنت في موضع الدفاع عن النفس، أو في موضع الهجوم على أهداف نوعية هامة، فتراصَّ القوم لدفعك وقتالك [ 12].
فإن وجد من بين الجند من أكره على الخروج هو الملزم شرعاً أن يضع سلاحه ولا يوجهه باتجاه المسلم وليس أنت.. فإذا كان في قتال الفتنة الذي يكون بين المسلمين بعضهم مع بعض يجب عليه أن يعتزل القتال ويتخذ سيفاً من خشب كما جاء في بعض الأحاديث، فكيف عندما يُكره على القتال مع المشركين المرتدين ضد المسلمين فمن باب أولى أن يعتزل القتال وأن يرمي بسلاحه بعيداً عن صدور المسلمين.
فإن أدى ذلك إلى قتله من قبلك أو قِبل الجيش الذي هو فيه، فإنه يُرجى له أن يُبعث على نيته، كما في الحديث عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خُسف بهم " فقلت يا رسول الله فكيف بمن كان كارهاً؟ قال: "يُخسف به معهم ولكنه يُبعث يوم القيامة على نيته " مسلم.
وفي رواية عند مسلم كذلك: فقلنا يا رسول الله إن الطريق قد يجمع الناس؟ قال: "نعم، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى يبعثهم الله على نياتهم".
قال ابن تيمية في الفتاوى 28/538: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المكره في قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يُقاتل وإن قُتل، كما في صحيح مسلم عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنٌ، ألا ثم تكون فتن، ألا ثم تكون فتن، القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل، ولا غنم، ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاة، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أُكرهت حتى يُنطلق بي إلى إحدى الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو بسهمه فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار".
ففي هذا الحديث أنه نهى عن القتال في الفتنة، بل أمر بما يتعذر معه القتال من الاعتزال، أو إفساد السلاح الذي يقاتل به..
والمقصود أنه إذا كان المكره على القتال في الفتنة ليس له أن يقاتل، بل عليه إفساد سلاحه، وأن يصبر حتى يقتل مظلوما، فكيف بالمكره على قتال المسلمين مع الطائفة الخارجة عن شرائع الإسلام، كمانعي الزكاة والمرتدين ونحوهم، فلا ريب أن هذا يجب عليه إذا أُكره على الحضور أن لا يقاتل وإن قتله المسلمون، كما لو أكرهه الكفار على حضور صفهم ليقاتل المسلمين، وكما لو أكره رجلٌ رجلاً على قتل مسلم معصوم فإنه لا يجوز له قتله باتفاق المسلمين وإن أكرهه بالقتل..
إلى أن قال: ونحن لا نعلم المكره، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرهاً لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة. اهـ.
وعن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}. البخاري.
قال ابن حجر في الفتح13/38: فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعاصي باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلاً أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر كما وقع للذين كانوا أسلموا ومنعهم المشركون من أهلهم من الهجرة ثم كانوا يخرجون مع المشركين لا لقصد قتال المسلمين بل لإيهام كثرتهم في عيون المسلمين فحصلت لهم المؤاخذة بذلك. اهـ.
قلت: هؤلاء المذكورين في الآية الكريمة حصلت لهم المؤاخذة لأنهم كانوا قبل أن يُكرهوا على الخروج مع جيش المشركين لقتال المسلمين قادرين على التحول والهجرة إلى دار الإسلام المتمثل يومئذٍ في المدينة المنورة، لذا لم يعتبر إكراههم وقت إخراجهم للقتال إكراهاً معذراً يقيل العثرات ويرفع الحرج، هذا المعنى توضحه الآية الكريمة ذاتها: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين...} النساء: 97-98.
فلم يقبل الله عذرهم بالاستضعاف لأنهم كانوا - قبل أن يُكرهوا على الخروج مع جيش المشركين - قادرين على الهجرة والتحول إلى دار الإسلام فلم يفعلوا.. إلا المستضعفين الحقيقيين الذين كانوا قبل أن يُكرهوا على الخروج للقتال.. كانوا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فهؤلاء {عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً}.
خلاصة المسألة:
نعيد تلخيص المسألة في النقاط التالية:
1) هذه الجيوش جيوش كافرة مرتدة لا شرعية لها، يجب جهادها وقتالها..
2) لا يستلزم من ذلك أن يكون كل واحدٍ في هذه الجيوش كافراً مرتداً، بل فيها الكافر المرتد وغير ذلك لاحتمال وجود الموانع الآنفة الذكر..
3) من ثبت لنا انتفاء موانع التكفير - الثلاثة الآنفة الذكر - عنه، فهو كافر مرتد بعينه..
4) ليس كل الجيوش المعاصرة سواء من حيث حجم المخالفات الشرعية والانحراف والعداء للإسلام والمسلمين.. وبالتالي فهي كذلك ليست سواء من حيث حجم الأعذار والشبهات التي تقيل عثرات أفرادها..
5) الجيوش التي يغلب فيها وجود العناصر الذين يشملهم العذر، من السلامة والسياسة الشرعية أن لا تكون هدفاً يُقصد للمجاهدين إلا على وجه الدفاع عن النفس..
6) من عُرف من الجنود أو من ذوي الرتب الصغيرة بشدة عدائه للإسلام والمسلمين، وبأذاه الشديد للمسلمين.. يُقصد بعينه ويُزال لتزول معه فتنته للعباد، ولا يتشفع له كونه جندي أو من ذوي الرتب الصغيرة، فكم من صاحب رتبة صغيرة اشتدت فتنته على العباد أكثر من أسياده وزعمائه الكبار!
[10] لترغيب المسلمين المقيمين في أمريكا ودول الغرب في الانخراط في جيوش تلك الدول، يُعلنون في صحافتهم الرسمية أن المسلمين في جيوشهم يُسمح لهم بالصلاة وأداء جميع الشعائر التعبدية، ويُسهلون لهم كل ما يُعينهم على ذلك، كما أن لهم رعاية خاصة من حيث تأمين وجبات الطعام الحلال الخالية من لحم الخنزير وغير ذلك.. ولكن هل بتلك المعاملة - التي لا توجد في كثير من بلادنا وجيوشنا - تصبح تلك الجيوش جيوش إسلامية تجوز المشاركة فيها؟! الجواب يعرفه القاصي والداني: بأن.. لا!!
[11] انظر بحث " حالات يجوز فيها إظهار الكفر "، وهو موجود في موقعنا على الإنترنت.
[12] وإن كنت أرى من السلامة والسياسة الشرعية أن لا يكون هؤلاء الجند هدفاً دائماً للمجاهدين إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأن يكون العمل كله موجهاً إلى رؤوس الكفر وأئمة الطغيان أصحاب القرار.. وبخاصة إن كان هذا الجيش يكثر فيه المسلمون من أهل الأعذار، وقد تقدمت صفتهم وأعذارهم.