بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد.
فقد تكلمت مراراً عن حكم العمليات الاستشهادية أو الانتحارية - قبل أكثر من خمس سنوات - وفي مواضع عدة من المسائل المتفرقة، وإلى الساعة لا تزال تتكرر علي نفس الأسئلة من الإخوان، وعذرهم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على قولي في المسألة المتناثر بين أكثر من ألف سؤال وجواب، لذا رأيت أن أعيد ما قلته في تلك الفتاوى المتناثرة المتفرقة في مقال واحد، وبشيء من التفصيل، ليسهل مراجعته والوقوف عليه لمن يشاء.
فقد قلت، وأقول:
هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية، وهي حرام لا تجوز، للمحاذير التالية:
1) أهمها أنها تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، التي تُحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أيَّاً كان السبب الباعث على فعل ذلك، والتي منها قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} النساء: 29-30. وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة: 195.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مَن قتل نفسه بحيدةٍ فحديدتُه في يده يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنَّمَ خالداًَ مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سَمَّاً فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسه فهو يتردى في نار جهنَّم خالداً فيها أبداً) [مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتلَ نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة) [مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرحٌ، فجزِعَ، فأخذَ سكيناً فحزَّ بها يدَه، فما رقأ الدمُ حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة) [البخاري].
وما استُدل به على جواز أن يقتل المرء نفسه بنفسه لغرض إنزال النكاية بالعدو، كالأدلة الدالة على جواز الإقدام والانغماس في صفوف العدو، وقصة الغلام مع الملك، ومسألة قتل الترس، فهي أولاً لا تعني أن يقتل المرء نفسه بنفسه، وإنما تعني أن يُقتلَ على يد عدوه أو غيره لا بيد نفسه، وهي ثانياً متشابهة في دلالتها على جواز قتل المرء لنفسه بنفسه لغرض النكاية بالعدو، حمَّالة أوجه ومعانٍ، يُمكن صرفها إلى أكثر من معنى، وإلى أكثر من وجه، غير معنى ووجه قتل النفس بالنفس، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون دليلاً في المسألة، ولا تُرد بمثله الأدلة المحكمة القطعية في دلالتها وثبوتها، ولا يقوى على دفعها ومعارضتها، وقد تقدم ذكر بعض هذه الأدلة.
2) العمل بمقتضى الأدلة المتشابهة في هذه المسألة، يعني نسخ وتعطيل العمل بالأدلة المحكمة القطعية التي تُفيد تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا لا يجوز اللجوء إليه، لأوجه عدة:
منها: أن المحكم في دلالته وثبوته لا يُرد ولا يُنسخ بالمتشابه.
ومنها: أن المتشابه يُفسَّر ويُفهم على ضوء المحكم، وليس العكس، وأن المحكم حكَمٌ على المتشابه وليس العكس.
ومنها: أن قواعد الشريعة تُلزم العمل بمجموع النصوص، وعدم اللجوء إلى القول بالنسخ، أو التعطيل، أو تقييد المطلق إلا في حالة استحالة التوفيق بين مجموع النصوص، وفي مسألتنا منعدمة هذه الاستحالة؛ إذ لا يوجد تعارض بين نصوصها، ويُمكن التوفيق فيما بينها، والعمل بمجموعها، ومن دون تعطيل أي نص من نصوص المسألة؛ فمن وجه يُعمل بالأدلة والنصوص التي تُرغب بالشجاعة، والاقتحام، والانغماس في صفوف العدو، من غير تهور، وإن أدى ذلك لأن يُقتل المرء على يد عدوه، ما دام في انغماسه مصلحة راجحة للجهاد والإسلام والمسلمين، ومن وجه آخر يُعمل بالأدلة والنصوص التي تمنع من أن يقتل المرء نفسه بنفسه، فالتوفيق ممكن وسهل، لا حاجة البتة للجوء إلى التقييد أو النسخ أو التعطيل!
خلاصة القول:
أن قولي في المسألة مؤداه العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة، بينما العمل بقول المخالف مؤداه ولا بد إلى تعطيل العمل بالنصوص الشرعية المحكمة التي تفيد حرمة المرء أن يقتل نفسه بنفسه، وهذه مجازفة لا تؤمَن عواقبها!
3) ومن محاذير هذا العمل أنه في الغالب - كما هو مشاهد - مؤداه إلى قتل الأنفس البريئة المعصومة شرعاً بغير وجه حق، سواء كانت هذه الأنفس المعصومة من المسلمين أم من غيرهم، وهذا محذور لا ينبغي الاستهانة به، بل ينبغي الاحتراز له كثيراً كثيراً؛ فالمرء لا يزال دينه بخير ما لم يُصب دماً حراماً، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} النساء: 93. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الإسراء: 33. وقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الفتح: 25.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبعَ الموبقات)، منها: (قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، و (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم)؛ مفهوم المخالفة يقتضي أن الذي لا يأمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم، ولا يسلمون من لسانه ويده، فهو ليس بمسلم ولا مؤمن، وهذا وعيد شديد ينبغي الحذر منه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه...).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقتل مؤمنٍ أعظم عند الله من زوال الدنيا)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في فسحةٍ من دينه ما لم يصب دماً حراماً)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من آذى مؤمناً فلا جهاد له)؛ هذا فيمن يؤذي مؤمناً - مجرد أذى - فكيف فيمن يقتله، ويتعمد قتله؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل رجلاً من أهل الذمة، لم يجد ريحَ الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفساً معاهدة بغير حِلها، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها).
هذه أدلة محكمة قطعية في دلالتها وفي ثبوتها، لا يُمكن ردها أو تعطيلها، أو الاستهانة بها بأدلة متشابهة حمالة أوجه، أو لذرائع واهية ضعيفة لا تقوى على الوقوف أمام تلك النصوص المحكمة الآنفة الذكر؛ كذريعة التترس، إذ يكثر الاستدلال بها في هذا الزمان!
التترس - الذي يُبيح قتل الأنفس المعصومة - له صفات وشروط؛ لو انتُقص شرط واحد منها، بطل العمل بفقه التترس، وكذلك الاستدلال بأدلة التترس!
منها: أن يستحيل رد عدوان العدو إلا من جهة الترس، إذ لو وجد سبيلاً لرد عدوان العدو من جهات عدة غير جهة الترس، لا يجوز حينئذٍ قتل الترس وتعريضه للخطر، ولا مواجهة العدو من جهة الترس.
ومنها: أن يكون ترك العدو من أجل الترس، أشد خطراً وضرراً على البلاد والعباد، من قتال وقتل العدو ورده من جهة الترس، أما إن كان قتله وقتاله من جهة الترس أشد ضرراً وخطراً مما لو تُرك - كأن تُقتل عشرات الأنفس المعصومة البريئة من أجل كافر محارب - لا يجوز حينئذٍ قتاله من جهة الترس، أو تعريض الترس للخطر؛ لأن قواعد الشريعة دلت وأجمعت على دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، وتقديم أقل الضررين والمفسدتين في حين كان لا بد من أحدهما.
ومنها: أن تكون المصلحة الراجحة من قتل الترس قطعية ويقينية؛ أي غير ظنية محتملة، فالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.
ومنها: أن يكون قتال العدو لا يحتمل التأخير ولا التواني، أو التربص، أما إن كان يحتمل التأخير أو التربص إلى حين نجاة المتترس بهم، أو ابتعادهم أو إبعادهم عن ساحات المواجهة - وبخاصة إن كان الترس متحركاً وهو لا يعلم أنه ترس كما هو مشاهد في كثير من الحالات - لا يجوز حينئذٍ قتال العدو واقتحامه من جهة المتترس بهم، وتعريض المتترس بهم للخطر؛ فلأن يتربص المجاهد ساعات، بل وأياماً حتى يظفر بعدوه مستقلاً عن الترس، خير له ألف مرة من أن يستعجل المواجهة على حساب الأنفس المعصومة البريئة، وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16.
ومنها: إن تحققت الشروط الآنفة الذكر، يجوز حينئذٍ للمجاهد أن يدفع العدو من جهة الترس، ونيته وقصده العدو وليس الترس، فإن أصيب الترس - بعد ذلك - بنوع أذى أو ضرر، فلا حرج إن شاء الله، وتكون إصابته حينئذٍ تبعاً لا قصداً!
قال القرطبي في التفسير [8/563]: (قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله؛ وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية؛ فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة؛ حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة، ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها؛ لأن الفرض أن الترس مقتول قطعاً؛ فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون، ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يُقتل الترس في هذه الصورة بوجه؛ لأنه تلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين) اهـ.
والسؤال الذي يطرح نفسه ويحتاج إلى جواب منصف وجريء: هل العمليات التي تُسمى بالاستشهادية تُراعي هذه الشروط والقيود - الآنفة الذكر - حتى يصح الاستدلال عليها بفقه وأدلة الترس والتترس؟!
4) من المحاذير التي تُذكر كذلك، أن الأخ المجاهد الذي يصل إلى درجة أن يضحي بنفسه وماله، وكل ما يملك في سبيل الله، قيمة عظمى، وعملة نادرة في هذا الزمان، لا يُقدر بقيمة ولا ثمن، ولا بألف من العدو، لا يصح أن يُحكم عليه بالإعدام - بعملية تفجيرية - من أول خطوة يخطوها نحو ساحات الجهاد، فهذا - والله - أول ما يُثلج قلوب الأعداء!
لا يجوز التهاون والتساهل بأعظم طاقات وكوادر الأمة؛ وزجهم في عمل محدود متشابه غير مأمون النتائج والآثار، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة: 128. والنبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون قدوتنا في ذلك.
لا يجوز أن نستعجل - بأيدينا - قدوم هذا الشاب الفريد المميز - على الله، خشية أن يُقال له يوم القيامة بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه وعلى من استعجل قدومه عليَّ الجنة!
لا بد من أن يُعطى هذا الشاب الفرصة الكافية ليمارس جهاده بصورة صحيحة ومحكمة بعيدة عن ساحات الشبهات والمتشابهات، عسى أن يكتب الله له عمراً مديداً في الجهاد، فيغيظ الله به الكفار، ويحقق على يديه النكاية في العدو أضعاف أضعاف ما يُمكن أن يحققه من جراء عمليته الوحيدة التي تُسمى بالاستشهادية!
قد بلغني أن بعض ساحات الجهاد المعاصرة التي يقصدها الشباب المسلم المجاهد من جميع الأمصار، أول ما يُخيَّر الشاب الذي يصل إلى تلك الساحات بخيارين لا ثالث لهما: إما أن يرضى أن يكون مشروعاً استشهادياً تفجيرياً، جهاده كله بل وحياته كلها محصورة في عملية واحدة لا غير، قد تصيب وقد تخيب، وما أكثر العمليات التي تخيب، وإما أن يعود من حيث أتى، وذلك بعد أن يكون قد كابد قمة المخاطر والمعاناة لكي يصل إلى تلك الساحات!
وهذا خطأ وفق جميع الاعتبارات والمقاييس، خطأ شرعي؛ لأن إكراه الأخ وحمله على أن يقتل نفسه بعمليته التفجيرية الوحيدة، وهو غير مقتنع بشرعيتها، أو في نفسه نوع ريب أو شك حول مدى شرعيتها وجوازها، أو أنها عنده أقرب للانتحار منها إلى الاستشهاد، فحينئذٍ لو أطاعهم في تفجير نفسه، يكون قد أطاعهم في معصية الله، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو قُتِل وهو على هذا الاعتقاد والشك والريب، حكمه حكم المنتحر القاتل لنفسه بنفسه، وجميع نصوص الوعيد ذات العلاقة بكبيرة الانتحار تُحمل عليه.
وهو خطأ عسكري استراتيجي، لأن ذلك معناه ذج المجاهد في معركة واحدة لا ثاني لها، قد تصيب وقد تخيب، ويعني كذلك تنفير عدد كبير من شباب الأمة ممن يودون اللحاق بساحات الجهاد في سبيل الله!
وهو خطأ كذلك بحق الأخ، وتفريط بقيمته، وأمنه وسلامته، بعد أن جازف وكابد المخاطر، وهذا لا يجوز!
مجموع هذه المحاذير الأربعة الآنفة الذكر - بعضها مع بعض - هي التي حملتني على القول بحرمة هذا العمل، وأنه لا يجوز.
فإن قال جاهل أو مجهول: أنت تريد جهاداً وردياً، فكيف إذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى العدو إلا من خلال تلك العمليات الاستشهادية التفجيرية؟!
أقول: كذبت، المجاهدون الذين يُحسنون التربص، وأن يقعدوا للعدو كل مرصد، يصلون إلى العدو بفضل من الله، ويُنزلون به - من حيث الكم والنوع - أعظم نكاية وخسارة، من تلك التي تحصل بسبب العمليات الانتحارية التفجيرية المتشابهة، المثيرة للجدل بين المسلمين وعلمائهم!
ثم أن الغايات - في ديننا وشريعتنا - لا تبيح الوسائل الباطلة الغير مشروعة، فالمباح لا يُدفَع ولا يُجلب بالمعصية، ولو حصل العجز فعلاً عن إدراك العدو، فالبديل حينئذٍ الإعداد، والصبر، والتربص، وأن يُقعَد للعدو كل مرصد، والتقوى، والدعاء، وإن طال الزمن، لا أن يستعجل المرء قتل نفسه بنفسه، أو أن يَقتل من عصم الشارع دماءهم وحرماتهم، متذرعاً بقلة الصبر ونفاد الحيلة، فأمر الجهاد لا يُتقنه إلا الرجل المكِّيث، قليل الأنفاس، شديد الصبر!
فإن قيل: هل يُفهم من قولك بعدم جواز تلك العمليات التفجيرية، وأنها عندك أقرب للانتحار وقتل النفس منها للاستشهاد، أن الذين فجروا أنفسهم - ولا يزالون يفجرون أنفسهم - في تلك العمليات هم منتحرون وهم من أهل الوعيد والنار، تُحمل عليهم النصوص الدالة على عقوبة المنتحر القاتل لنفسه بنفسه؟!
أقول: في المسألة قولان معروفان ومشهوران: فريق من أهل العلم يعتبر فاعليها - قولاً واحداً - منتحرين قاتلين لأنفسهم بأنفسهم، وأنهم من أهل الوعيد والعذاب!
وفريق من أهل العلم يعتبرهم شهداء، وأنهم - قولاً واحداً - من أهل الوعد، والنعيم والجنان!
وكلا القولين عندي ضعيفان ومرجوحان، وبيان ذلك: رغم قولي بحرمة هذه العمليات، وأنها لا تجوز، وهي عندي أقرب للانتحار وقتل النفس بالنفس إلا أن صاحبها إن كان متؤولاً، قد اعتمد على أدلة المجيزين لها، واعتقد أنها هي الراجحة، والتزم بشروطهم وقيودهم، أرجو أن يكون شهيداً ومن أهل الوعد، والنعيم والجنان، وأن يغفر الله له إن شاء الله.
أما إن كان يعلم بحرمتها، وكان معتقداً بأن الأدلة التي تُفيد التحريم هي الراجحة، أو كان في شك وريب من حلها وجوازها، ثم هو مع ذلك أقدم على فعلها - لسبب من الأسباب - فهذا منتحر، وقاتل لنفسه بنفسه، وهو من أهل الوعيد والعذاب، تُحمل عليه جميع النصوص ذات العلاقة بعقوبة المنتحر القاتل لنفسه بنفسه، والله تعالى أعلم.
هذا إذا كان فعله لا ينعكس إلا على نفسه، أما إن أدى فعله إلى إزهاق الأنفس المعصومة البريئة بغير حق، فحينئذٍ يمتد الحديث عن حقوق العباد، وعن الكفارات ودفع الديات، وتفصيل ذلك يطول، وهو مدون في كتب الفقه لمن يريد مراجعتها.
هذا الذي قلته، وهذا الذي أقوله وأفتي به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
20/7/1426 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد.
فقد تكلمت مراراً عن حكم العمليات الاستشهادية أو الانتحارية - قبل أكثر من خمس سنوات - وفي مواضع عدة من المسائل المتفرقة، وإلى الساعة لا تزال تتكرر علي نفس الأسئلة من الإخوان، وعذرهم أنهم لا يستطيعون أن يقفوا على قولي في المسألة المتناثر بين أكثر من ألف سؤال وجواب، لذا رأيت أن أعيد ما قلته في تلك الفتاوى المتناثرة المتفرقة في مقال واحد، وبشيء من التفصيل، ليسهل مراجعته والوقوف عليه لمن يشاء.
فقد قلت، وأقول:
هذه العمليات هي أقرب عندي للانتحار منها للاستشهادية، وهي حرام لا تجوز، للمحاذير التالية:
1) أهمها أنها تعني بالضرورة قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا مخالف لعشرات النصوص الشرعية المحكمة في دلالتها وثبوتها، التي تُحرم على المرء أن يقتل نفسه بنفسه أيَّاً كان السبب الباعث على فعل ذلك، والتي منها قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} النساء: 29-30. وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} البقرة: 195.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مَن قتل نفسه بحيدةٍ فحديدتُه في يده يتوجَّأُ بها في بطنه في نار جهنَّمَ خالداًَ مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سَمَّاً فقتل نفسه فهو يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردَّى من جبلٍ فقتلَ نفسه فهو يتردى في نار جهنَّم خالداً فيها أبداً) [مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتلَ نفسه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة) [مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرحٌ، فجزِعَ، فأخذَ سكيناً فحزَّ بها يدَه، فما رقأ الدمُ حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة) [البخاري].
وما استُدل به على جواز أن يقتل المرء نفسه بنفسه لغرض إنزال النكاية بالعدو، كالأدلة الدالة على جواز الإقدام والانغماس في صفوف العدو، وقصة الغلام مع الملك، ومسألة قتل الترس، فهي أولاً لا تعني أن يقتل المرء نفسه بنفسه، وإنما تعني أن يُقتلَ على يد عدوه أو غيره لا بيد نفسه، وهي ثانياً متشابهة في دلالتها على جواز قتل المرء لنفسه بنفسه لغرض النكاية بالعدو، حمَّالة أوجه ومعانٍ، يُمكن صرفها إلى أكثر من معنى، وإلى أكثر من وجه، غير معنى ووجه قتل النفس بالنفس، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون دليلاً في المسألة، ولا تُرد بمثله الأدلة المحكمة القطعية في دلالتها وثبوتها، ولا يقوى على دفعها ومعارضتها، وقد تقدم ذكر بعض هذه الأدلة.
2) العمل بمقتضى الأدلة المتشابهة في هذه المسألة، يعني نسخ وتعطيل العمل بالأدلة المحكمة القطعية التي تُفيد تحريم قتل المرء لنفسه بنفسه، وهذا لا يجوز اللجوء إليه، لأوجه عدة:
منها: أن المحكم في دلالته وثبوته لا يُرد ولا يُنسخ بالمتشابه.
ومنها: أن المتشابه يُفسَّر ويُفهم على ضوء المحكم، وليس العكس، وأن المحكم حكَمٌ على المتشابه وليس العكس.
ومنها: أن قواعد الشريعة تُلزم العمل بمجموع النصوص، وعدم اللجوء إلى القول بالنسخ، أو التعطيل، أو تقييد المطلق إلا في حالة استحالة التوفيق بين مجموع النصوص، وفي مسألتنا منعدمة هذه الاستحالة؛ إذ لا يوجد تعارض بين نصوصها، ويُمكن التوفيق فيما بينها، والعمل بمجموعها، ومن دون تعطيل أي نص من نصوص المسألة؛ فمن وجه يُعمل بالأدلة والنصوص التي تُرغب بالشجاعة، والاقتحام، والانغماس في صفوف العدو، من غير تهور، وإن أدى ذلك لأن يُقتل المرء على يد عدوه، ما دام في انغماسه مصلحة راجحة للجهاد والإسلام والمسلمين، ومن وجه آخر يُعمل بالأدلة والنصوص التي تمنع من أن يقتل المرء نفسه بنفسه، فالتوفيق ممكن وسهل، لا حاجة البتة للجوء إلى التقييد أو النسخ أو التعطيل!
خلاصة القول:
أن قولي في المسألة مؤداه العمل بمجموع النصوص ذات العلاقة بالمسألة، بينما العمل بقول المخالف مؤداه ولا بد إلى تعطيل العمل بالنصوص الشرعية المحكمة التي تفيد حرمة المرء أن يقتل نفسه بنفسه، وهذه مجازفة لا تؤمَن عواقبها!
3) ومن محاذير هذا العمل أنه في الغالب - كما هو مشاهد - مؤداه إلى قتل الأنفس البريئة المعصومة شرعاً بغير وجه حق، سواء كانت هذه الأنفس المعصومة من المسلمين أم من غيرهم، وهذا محذور لا ينبغي الاستهانة به، بل ينبغي الاحتراز له كثيراً كثيراً؛ فالمرء لا يزال دينه بخير ما لم يُصب دماً حراماً، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} النساء: 93. وقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} الإسراء: 33. وقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الفتح: 25.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبعَ الموبقات)، منها: (قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، و (المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم)؛ مفهوم المخالفة يقتضي أن الذي لا يأمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم، ولا يسلمون من لسانه ويده، فهو ليس بمسلم ولا مؤمن، وهذا وعيد شديد ينبغي الحذر منه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعِرضه...).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقتل مؤمنٍ أعظم عند الله من زوال الدنيا)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد في فسحةٍ من دينه ما لم يصب دماً حراماً)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من آذى مؤمناً فلا جهاد له)؛ هذا فيمن يؤذي مؤمناً - مجرد أذى - فكيف فيمن يقتله، ويتعمد قتله؟!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل رجلاً من أهل الذمة، لم يجد ريحَ الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً)!
وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفساً معاهدة بغير حِلها، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها).
هذه أدلة محكمة قطعية في دلالتها وفي ثبوتها، لا يُمكن ردها أو تعطيلها، أو الاستهانة بها بأدلة متشابهة حمالة أوجه، أو لذرائع واهية ضعيفة لا تقوى على الوقوف أمام تلك النصوص المحكمة الآنفة الذكر؛ كذريعة التترس، إذ يكثر الاستدلال بها في هذا الزمان!
التترس - الذي يُبيح قتل الأنفس المعصومة - له صفات وشروط؛ لو انتُقص شرط واحد منها، بطل العمل بفقه التترس، وكذلك الاستدلال بأدلة التترس!
منها: أن يستحيل رد عدوان العدو إلا من جهة الترس، إذ لو وجد سبيلاً لرد عدوان العدو من جهات عدة غير جهة الترس، لا يجوز حينئذٍ قتل الترس وتعريضه للخطر، ولا مواجهة العدو من جهة الترس.
ومنها: أن يكون ترك العدو من أجل الترس، أشد خطراً وضرراً على البلاد والعباد، من قتال وقتل العدو ورده من جهة الترس، أما إن كان قتله وقتاله من جهة الترس أشد ضرراً وخطراً مما لو تُرك - كأن تُقتل عشرات الأنفس المعصومة البريئة من أجل كافر محارب - لا يجوز حينئذٍ قتاله من جهة الترس، أو تعريض الترس للخطر؛ لأن قواعد الشريعة دلت وأجمعت على دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، وتقديم أقل الضررين والمفسدتين في حين كان لا بد من أحدهما.
ومنها: أن تكون المصلحة الراجحة من قتل الترس قطعية ويقينية؛ أي غير ظنية محتملة، فالظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.
ومنها: أن يكون قتال العدو لا يحتمل التأخير ولا التواني، أو التربص، أما إن كان يحتمل التأخير أو التربص إلى حين نجاة المتترس بهم، أو ابتعادهم أو إبعادهم عن ساحات المواجهة - وبخاصة إن كان الترس متحركاً وهو لا يعلم أنه ترس كما هو مشاهد في كثير من الحالات - لا يجوز حينئذٍ قتال العدو واقتحامه من جهة المتترس بهم، وتعريض المتترس بهم للخطر؛ فلأن يتربص المجاهد ساعات، بل وأياماً حتى يظفر بعدوه مستقلاً عن الترس، خير له ألف مرة من أن يستعجل المواجهة على حساب الأنفس المعصومة البريئة، وهذا مما يدخل في معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} التغابن: 16.
ومنها: إن تحققت الشروط الآنفة الذكر، يجوز حينئذٍ للمجاهد أن يدفع العدو من جهة الترس، ونيته وقصده العدو وليس الترس، فإن أصيب الترس - بعد ذلك - بنوع أذى أو ضرر، فلا حرج إن شاء الله، وتكون إصابته حينئذٍ تبعاً لا قصداً!
قال القرطبي في التفسير [8/563]: (قد يجوز قتل الترس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله؛ وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية؛ فمعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية: أنها قاطعة لكل الأمة؛ حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة، ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها؛ لأن الفرض أن الترس مقتول قطعاً؛ فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون، ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يُقتل الترس في هذه الصورة بوجه؛ لأنه تلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين) اهـ.
والسؤال الذي يطرح نفسه ويحتاج إلى جواب منصف وجريء: هل العمليات التي تُسمى بالاستشهادية تُراعي هذه الشروط والقيود - الآنفة الذكر - حتى يصح الاستدلال عليها بفقه وأدلة الترس والتترس؟!
4) من المحاذير التي تُذكر كذلك، أن الأخ المجاهد الذي يصل إلى درجة أن يضحي بنفسه وماله، وكل ما يملك في سبيل الله، قيمة عظمى، وعملة نادرة في هذا الزمان، لا يُقدر بقيمة ولا ثمن، ولا بألف من العدو، لا يصح أن يُحكم عليه بالإعدام - بعملية تفجيرية - من أول خطوة يخطوها نحو ساحات الجهاد، فهذا - والله - أول ما يُثلج قلوب الأعداء!
لا يجوز التهاون والتساهل بأعظم طاقات وكوادر الأمة؛ وزجهم في عمل محدود متشابه غير مأمون النتائج والآثار، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} التوبة: 128. والنبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون قدوتنا في ذلك.
لا يجوز أن نستعجل - بأيدينا - قدوم هذا الشاب الفريد المميز - على الله، خشية أن يُقال له يوم القيامة بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه وعلى من استعجل قدومه عليَّ الجنة!
لا بد من أن يُعطى هذا الشاب الفرصة الكافية ليمارس جهاده بصورة صحيحة ومحكمة بعيدة عن ساحات الشبهات والمتشابهات، عسى أن يكتب الله له عمراً مديداً في الجهاد، فيغيظ الله به الكفار، ويحقق على يديه النكاية في العدو أضعاف أضعاف ما يُمكن أن يحققه من جراء عمليته الوحيدة التي تُسمى بالاستشهادية!
قد بلغني أن بعض ساحات الجهاد المعاصرة التي يقصدها الشباب المسلم المجاهد من جميع الأمصار، أول ما يُخيَّر الشاب الذي يصل إلى تلك الساحات بخيارين لا ثالث لهما: إما أن يرضى أن يكون مشروعاً استشهادياً تفجيرياً، جهاده كله بل وحياته كلها محصورة في عملية واحدة لا غير، قد تصيب وقد تخيب، وما أكثر العمليات التي تخيب، وإما أن يعود من حيث أتى، وذلك بعد أن يكون قد كابد قمة المخاطر والمعاناة لكي يصل إلى تلك الساحات!
وهذا خطأ وفق جميع الاعتبارات والمقاييس، خطأ شرعي؛ لأن إكراه الأخ وحمله على أن يقتل نفسه بعمليته التفجيرية الوحيدة، وهو غير مقتنع بشرعيتها، أو في نفسه نوع ريب أو شك حول مدى شرعيتها وجوازها، أو أنها عنده أقرب للانتحار منها إلى الاستشهاد، فحينئذٍ لو أطاعهم في تفجير نفسه، يكون قد أطاعهم في معصية الله، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولو قُتِل وهو على هذا الاعتقاد والشك والريب، حكمه حكم المنتحر القاتل لنفسه بنفسه، وجميع نصوص الوعيد ذات العلاقة بكبيرة الانتحار تُحمل عليه.
وهو خطأ عسكري استراتيجي، لأن ذلك معناه ذج المجاهد في معركة واحدة لا ثاني لها، قد تصيب وقد تخيب، ويعني كذلك تنفير عدد كبير من شباب الأمة ممن يودون اللحاق بساحات الجهاد في سبيل الله!
وهو خطأ كذلك بحق الأخ، وتفريط بقيمته، وأمنه وسلامته، بعد أن جازف وكابد المخاطر، وهذا لا يجوز!
مجموع هذه المحاذير الأربعة الآنفة الذكر - بعضها مع بعض - هي التي حملتني على القول بحرمة هذا العمل، وأنه لا يجوز.
فإن قال جاهل أو مجهول: أنت تريد جهاداً وردياً، فكيف إذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى العدو إلا من خلال تلك العمليات الاستشهادية التفجيرية؟!
أقول: كذبت، المجاهدون الذين يُحسنون التربص، وأن يقعدوا للعدو كل مرصد، يصلون إلى العدو بفضل من الله، ويُنزلون به - من حيث الكم والنوع - أعظم نكاية وخسارة، من تلك التي تحصل بسبب العمليات الانتحارية التفجيرية المتشابهة، المثيرة للجدل بين المسلمين وعلمائهم!
ثم أن الغايات - في ديننا وشريعتنا - لا تبيح الوسائل الباطلة الغير مشروعة، فالمباح لا يُدفَع ولا يُجلب بالمعصية، ولو حصل العجز فعلاً عن إدراك العدو، فالبديل حينئذٍ الإعداد، والصبر، والتربص، وأن يُقعَد للعدو كل مرصد، والتقوى، والدعاء، وإن طال الزمن، لا أن يستعجل المرء قتل نفسه بنفسه، أو أن يَقتل من عصم الشارع دماءهم وحرماتهم، متذرعاً بقلة الصبر ونفاد الحيلة، فأمر الجهاد لا يُتقنه إلا الرجل المكِّيث، قليل الأنفاس، شديد الصبر!
فإن قيل: هل يُفهم من قولك بعدم جواز تلك العمليات التفجيرية، وأنها عندك أقرب للانتحار وقتل النفس منها للاستشهاد، أن الذين فجروا أنفسهم - ولا يزالون يفجرون أنفسهم - في تلك العمليات هم منتحرون وهم من أهل الوعيد والنار، تُحمل عليهم النصوص الدالة على عقوبة المنتحر القاتل لنفسه بنفسه؟!
أقول: في المسألة قولان معروفان ومشهوران: فريق من أهل العلم يعتبر فاعليها - قولاً واحداً - منتحرين قاتلين لأنفسهم بأنفسهم، وأنهم من أهل الوعيد والعذاب!
وفريق من أهل العلم يعتبرهم شهداء، وأنهم - قولاً واحداً - من أهل الوعد، والنعيم والجنان!
وكلا القولين عندي ضعيفان ومرجوحان، وبيان ذلك: رغم قولي بحرمة هذه العمليات، وأنها لا تجوز، وهي عندي أقرب للانتحار وقتل النفس بالنفس إلا أن صاحبها إن كان متؤولاً، قد اعتمد على أدلة المجيزين لها، واعتقد أنها هي الراجحة، والتزم بشروطهم وقيودهم، أرجو أن يكون شهيداً ومن أهل الوعد، والنعيم والجنان، وأن يغفر الله له إن شاء الله.
أما إن كان يعلم بحرمتها، وكان معتقداً بأن الأدلة التي تُفيد التحريم هي الراجحة، أو كان في شك وريب من حلها وجوازها، ثم هو مع ذلك أقدم على فعلها - لسبب من الأسباب - فهذا منتحر، وقاتل لنفسه بنفسه، وهو من أهل الوعيد والعذاب، تُحمل عليه جميع النصوص ذات العلاقة بعقوبة المنتحر القاتل لنفسه بنفسه، والله تعالى أعلم.
هذا إذا كان فعله لا ينعكس إلا على نفسه، أما إن أدى فعله إلى إزهاق الأنفس المعصومة البريئة بغير حق، فحينئذٍ يمتد الحديث عن حقوق العباد، وعن الكفارات ودفع الديات، وتفصيل ذلك يطول، وهو مدون في كتب الفقه لمن يريد مراجعتها.
هذا الذي قلته، وهذا الذي أقوله وأفتي به.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
20/7/1426 هـ