الحمد لله وحده، والصَّلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعده، وبعد.
لو تأملنا واقع طغاة الحكم المعاصرين .. العربية منها والعجمية .. لوجدنا أن الدين المرتضى لديهم، والمخدوم من قبلهم .. الذي يُروَّج له عبر مؤسساتهم ووسائل إعلامهم .. هي الصوفيَّة .. والتصوف .. فمن لم يأتِ معهم ـ من الشعوب ـ عن طريق الفسوق والمجون والتحلل، والفساد .. واستعصى عليهم تخديره من خلال هذا الطريق .. أتوا به عن طريق التصوف .. والصوفية .. فمن يختار ـ من الناس ـ الفسوق والفساد .. فالأبواب متاحة له .. وحرياته حينئذٍ محفوظة، ومُصَانة، ومُقدَّسة .. ومن أراد منهم التدين .. وأن يسير في طريق التدين .. فدين الصوفية .. جاهز .. وبابه مُشْرَعٌ لمن شاء الولوج منه .. والعكوف عليه .. فله الحرية التامة في أن يتعبد ويتدين عن طريق التصوف والصوفية لا غير؛ ذلك الدين المرتضى والمصطفى لدى طغاة الحكم، وذلك لأسباب عدة:
منها: أن الصوفية ـ بلسان الحال والمقال، وكما هو واقعها المعايش والمشاهَد ـ تفصل الدين عن الدولة والسياسة، وواقع الحياة .. فالسياسة .. وواقع الناس ومعاناتهم ومشاكلهم الخاصة والعامة في واد .. والصوفية في وادٍ آخر .. ولمن شاء أن يدخل في الصوفية .. ويسير في طريق التصوف عليه أن يتنبه لهذا الأمر .. وأن يتفرغ لحلقات الرقص، والغناء، والطرب .. والدوران والدوخان .. التي يسمونها زوراً بحلقات الذِّكر والتربية .. وأن ينأى بنفسه واهتماماته عن هموم ومشاكل، وقضايا الأمة .. وهذا مما يُثلج قلوب طغاة الحكم .. ويجعلهم في مأمن من نقمة الناس.
فالصوفية من هذا الوجه تقوم بدور المخدِّر الفعَّال للناس الذي يمنعهم من رؤية ومعايشة واقعهم على حقيقته .. فالأمة تُذبَح من الوريد إلى الوريد .. وتُنتهك حرماتها على يد أعدائها .. بينما هم يلهون ويعبثون في حلقات الرقص والغناء، والطرب .. والأهأهات .. ثم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .. فأي نتيجة أرضى لطغاة الحكم من هذه النتيجة؟!
ومنها: أن الصُّوفيَّة من خلال منهجها الذي يقوم على الخرق، والكشف .. والذوق .. ونبذ الورَق .. والعلم المسطور في الكتاب والسنَّة .. فإنها تعمل على تجهيل الناس بحقيقة الإسلام .. وبأهداف .. ومبادئ الإسلام .. والتي منها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله .. ومجاهدة الطغاة الآثمين .. وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. وهذا لا شك أنه يُفرح طغاة الحكم، ويُثلج قلوبهم .. ويجعلهم في مأمنٍ ومنأى من نقمة الشعوب .. التي لو فقهت الإسلام حقاً وصدقاً، وكما أنزله الله تعالى على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم .. لكان لهم مع هؤلاء الطغاة شأن آخر.
الإسلام الذي يحض على مجاهدة الطغاة الظالمين .. والإنكار عليهم .. والأخذ على أيديهم .. والأطر بهم إلى الحق ـ كما دلت على ذلك عشرات النصوص من الكتاب والسنة ـ لا يُرضي طغاة الحكم .. وهو دين يُخيفهم ويُقلقهم .. ويحذرون منه ومن انتهاجه .. وهم بحاجة ماسَّة إلى صرف الناس عن فهم الإسلام على حقيقته هذه، وبهذا المعنى المشار إليه أعلاه .. والصوفيَّة هي الطائفة التي تضمن وتحقق لهم هذه الخدمة العظيمة.
فالطغاة ـ لكي تسلم لهم عروشهم وأنظمتهم الفاسدة ـ يريدون إسلاماً مفرَّغاً من عقيدة الجهاد .. والصدع بالحق .. وعقيدة الولاء والبراء .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وفقه الواقع .. والصوفية هي التي تحقق لهم هذا المطلب الخبيث.
ومنها: أن الصوفية تقوم على تربية الناس على تقديس شيوخهم .. وعلى عقد الولاء والبراء في شيوخهم .. فالمريد لا يمكن أن يصل إلى الله إلا عن طريق شيخه .. وطاعة شيخه .. وبالتالي فعليه أن يكون بين يدي شيخه كما يكون المولود لحظة ولادته بين يدي مولدته .. وعلى مبدأ لا تعترض فتنطرد .. فشيوخ الصوفية بالنسبة لمريديهم وأتباعهم أحبار اتخذوا أرباباً من دون الله، كما قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ التوبة:31. وذلك بطاعتهم في الحق والباطل سواء، وكل ما يصدر عنهم.
وهذه نتيجة مرضية جداً لطغاة الحكم؛ وذلك أنهم عندما يضمنون أن يكون الشيخ الصوفي بصفهم وإلى جانبهم .. هذا معناه أن جميع أتباع ومريدي هذا الشيخ هم في صف طغاة الحكم وإلى جانبهم .. وبالتالي كلما توسعت قاعدة وشعبية الشيخ كلما كانوا في مأمنٍ من نقمة الناس عليهم؛ لعلمهم أنهم لا يمكن أن يعصوا الشيخ فيما يأمرهم به.
وإني لأعرف بعض الأنظمة الطاغية الحاكمة .. إذا أرادوا أن يعتقلوا جمعاً من شباب الإسلام .. ميزوا بين من ينتمي إلى شيخ صوفي، وبين غيره .. فمن يثبت لديهم أنه ينتمي إلى شيخ من شيوخ الصوفية .. والشيخ يوثق لهم ذلك، كانوا سرعان ما يُطلِقون سراحه.
ومنها: أن دين الصوفية يقوم على الخرق، والذوق، والكشف، والبدع، والإحداث في الدين ما لم يأذن به الله .. ودين هكذا وصفه يسر الطغاة .. إذ من السهولة أن يستخرجوا منه التزكيات .. والأعذار والمبررات.
فالشيخ يكفي لإقناع مريديه أن يقول لهم: قد هاتفني النبي صلى الله عليه وسلم .. أو حدثني قلبي عن ربي .. أن أطع ومن معك من التلاميذ والمريدين .. هذا الطاغية أو ذاك .. فهذا كافٍ كدليل على الإقناع .. والتلاميذ لا يمكن أن يجرأوا أن يسألوا شيخهم عن دليل أكثر من ذلك.
ومنها: قد علم الطغاة حاجة الناس إلى الدين .. وأنه لا بد لهم من دين يتدينون ويتعبدون به .. وهم إذا لم يتدينوا بدين الباطل فسوف يتدينون بدين الحق، وبالتالي يحصل لهم ما هم يخشونه ويفرون منه .. لذا فإن المرء الذي يعيش درويشاً صوفياً في زاوية من زوايا الصوفية .. منقطعاً عن قضايا الأمة وواقعها .. أقل عليهم ضرراً من أن يعيش مجاهداً، وموحداً .. وحراً كريماً .. فهم ينظرون إلى الصوفية على أنها الخيار الضروري الذي لا بد منه للناس .. والأقل عليهم ضرراً من التوجهات والمناهج الأخرى .. وبخاصّة منها المناهج التي تكون أقرب إلى منهج اتباع الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح.
ومنها: أن الصوفيّة بالنسبة لطغاة الحكم تُعتبر الجبهة الداخلية التي يُشغلون بها أهل السنة والتوحيد، والجهاد عن مقارعتهم والانشغال بهم .. وبأنظمتهم الفاسدة .. فمن أهداف الطغاة أن يزرعوا في جسد الصف الإسلامي بعض التورمات والأمراض .. التي يُشغلون بها الجسد العام الكلي عن أداء وظائفه ومهامه الأساسية التي ينبغي أن يتفرغ لها .. فالصوفية ـ من هذا الوجه ـ تحقق للطغاة مطلباً هاماً لا يُستهان به.
فإن قيل: ولكن هي طريقة إلى الزهد، والذكر، وتهذيب النفس .. والمسلم بحاجة إلى ذلك؟
أجيب عن هذا التساؤل والاعتراض من وجهين:
أحدهما: أن الزهد، والذكر، وتهذيب النفس، والتربية الروحية .. كل ذلك يُؤخذ على طريقة ومنهج المتابعة للسنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه .. وليس عن طريق الابتداع والإحداث في الدين .. والرقص والغناء .. والقفز .. والأهأهات التي ما أنزل الله بها من سلطان .. كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران:31. وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأحزاب:21. وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً النساء:115. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الحشر:7. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النور:63.
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.
وقيل له إن قوماً يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان! فقال: أعجبُ لقومٍ سمعوا الحديث وعرفوا الإسنادَ وصِحتَه يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ وتدري ما الفتنة؟ الكفر! قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ . فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي؟! ا-هـ[1].
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خذوا مناسككم عني ". وقال صلى الله عليه وسلم :" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو ردٌّ ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد ". وقال صلى الله عليه وسلم :" كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من رغب عن سنتي فليس مني ". وغيرها كثير من النصوص التي تحض على الاتباع، وتحذر من مغبة ومخاطر الابتداع.
ثانياً: لا يمكن تحت ذريعة الذكر، وتهذيب النفس .. أن نقبل بالصوفية على ما تندرج عليه من مخالفات ومزالق شرعية خطيرة، قد تقدم ذكر بعضها .. ومنها ممارسة الشرك، كالاستغاثة بالقبور والأموات .. وتقديس وعبادة شيوخهم الأحياء منهم والأموات .. والغلاة منهم يرون عقيدة الحلول ووحدة الوجود .. وأن الله تعالى والشيخ شيء واحد .. وفي جبة واحدة، كما يقول بعضهم:" ما في الجبة إلا الله " .. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .. وقاتلهم الله أنَّ يُؤفَكون.
عندما تكون الصوفية غطاء لكل هذا الشر .. فلم يعد من الممكن أن تُستساغ أو تقبل ـ حتى ككلمة ومصطلح ـ بحجة الذكر، والتربية الروحية .. فكم من كلمة حق أريد بها باطل .. وكانت غطاء لباطل.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
2/5/1431 هـ. 16/4/2010 م.
لو تأملنا واقع طغاة الحكم المعاصرين .. العربية منها والعجمية .. لوجدنا أن الدين المرتضى لديهم، والمخدوم من قبلهم .. الذي يُروَّج له عبر مؤسساتهم ووسائل إعلامهم .. هي الصوفيَّة .. والتصوف .. فمن لم يأتِ معهم ـ من الشعوب ـ عن طريق الفسوق والمجون والتحلل، والفساد .. واستعصى عليهم تخديره من خلال هذا الطريق .. أتوا به عن طريق التصوف .. والصوفية .. فمن يختار ـ من الناس ـ الفسوق والفساد .. فالأبواب متاحة له .. وحرياته حينئذٍ محفوظة، ومُصَانة، ومُقدَّسة .. ومن أراد منهم التدين .. وأن يسير في طريق التدين .. فدين الصوفية .. جاهز .. وبابه مُشْرَعٌ لمن شاء الولوج منه .. والعكوف عليه .. فله الحرية التامة في أن يتعبد ويتدين عن طريق التصوف والصوفية لا غير؛ ذلك الدين المرتضى والمصطفى لدى طغاة الحكم، وذلك لأسباب عدة:
منها: أن الصوفية ـ بلسان الحال والمقال، وكما هو واقعها المعايش والمشاهَد ـ تفصل الدين عن الدولة والسياسة، وواقع الحياة .. فالسياسة .. وواقع الناس ومعاناتهم ومشاكلهم الخاصة والعامة في واد .. والصوفية في وادٍ آخر .. ولمن شاء أن يدخل في الصوفية .. ويسير في طريق التصوف عليه أن يتنبه لهذا الأمر .. وأن يتفرغ لحلقات الرقص، والغناء، والطرب .. والدوران والدوخان .. التي يسمونها زوراً بحلقات الذِّكر والتربية .. وأن ينأى بنفسه واهتماماته عن هموم ومشاكل، وقضايا الأمة .. وهذا مما يُثلج قلوب طغاة الحكم .. ويجعلهم في مأمن من نقمة الناس.
فالصوفية من هذا الوجه تقوم بدور المخدِّر الفعَّال للناس الذي يمنعهم من رؤية ومعايشة واقعهم على حقيقته .. فالأمة تُذبَح من الوريد إلى الوريد .. وتُنتهك حرماتها على يد أعدائها .. بينما هم يلهون ويعبثون في حلقات الرقص والغناء، والطرب .. والأهأهات .. ثم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .. فأي نتيجة أرضى لطغاة الحكم من هذه النتيجة؟!
ومنها: أن الصُّوفيَّة من خلال منهجها الذي يقوم على الخرق، والكشف .. والذوق .. ونبذ الورَق .. والعلم المسطور في الكتاب والسنَّة .. فإنها تعمل على تجهيل الناس بحقيقة الإسلام .. وبأهداف .. ومبادئ الإسلام .. والتي منها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله .. ومجاهدة الطغاة الآثمين .. وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .. وهذا لا شك أنه يُفرح طغاة الحكم، ويُثلج قلوبهم .. ويجعلهم في مأمنٍ ومنأى من نقمة الشعوب .. التي لو فقهت الإسلام حقاً وصدقاً، وكما أنزله الله تعالى على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم .. لكان لهم مع هؤلاء الطغاة شأن آخر.
الإسلام الذي يحض على مجاهدة الطغاة الظالمين .. والإنكار عليهم .. والأخذ على أيديهم .. والأطر بهم إلى الحق ـ كما دلت على ذلك عشرات النصوص من الكتاب والسنة ـ لا يُرضي طغاة الحكم .. وهو دين يُخيفهم ويُقلقهم .. ويحذرون منه ومن انتهاجه .. وهم بحاجة ماسَّة إلى صرف الناس عن فهم الإسلام على حقيقته هذه، وبهذا المعنى المشار إليه أعلاه .. والصوفيَّة هي الطائفة التي تضمن وتحقق لهم هذه الخدمة العظيمة.
فالطغاة ـ لكي تسلم لهم عروشهم وأنظمتهم الفاسدة ـ يريدون إسلاماً مفرَّغاً من عقيدة الجهاد .. والصدع بالحق .. وعقيدة الولاء والبراء .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وفقه الواقع .. والصوفية هي التي تحقق لهم هذا المطلب الخبيث.
ومنها: أن الصوفية تقوم على تربية الناس على تقديس شيوخهم .. وعلى عقد الولاء والبراء في شيوخهم .. فالمريد لا يمكن أن يصل إلى الله إلا عن طريق شيخه .. وطاعة شيخه .. وبالتالي فعليه أن يكون بين يدي شيخه كما يكون المولود لحظة ولادته بين يدي مولدته .. وعلى مبدأ لا تعترض فتنطرد .. فشيوخ الصوفية بالنسبة لمريديهم وأتباعهم أحبار اتخذوا أرباباً من دون الله، كما قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ التوبة:31. وذلك بطاعتهم في الحق والباطل سواء، وكل ما يصدر عنهم.
وهذه نتيجة مرضية جداً لطغاة الحكم؛ وذلك أنهم عندما يضمنون أن يكون الشيخ الصوفي بصفهم وإلى جانبهم .. هذا معناه أن جميع أتباع ومريدي هذا الشيخ هم في صف طغاة الحكم وإلى جانبهم .. وبالتالي كلما توسعت قاعدة وشعبية الشيخ كلما كانوا في مأمنٍ من نقمة الناس عليهم؛ لعلمهم أنهم لا يمكن أن يعصوا الشيخ فيما يأمرهم به.
وإني لأعرف بعض الأنظمة الطاغية الحاكمة .. إذا أرادوا أن يعتقلوا جمعاً من شباب الإسلام .. ميزوا بين من ينتمي إلى شيخ صوفي، وبين غيره .. فمن يثبت لديهم أنه ينتمي إلى شيخ من شيوخ الصوفية .. والشيخ يوثق لهم ذلك، كانوا سرعان ما يُطلِقون سراحه.
ومنها: أن دين الصوفية يقوم على الخرق، والذوق، والكشف، والبدع، والإحداث في الدين ما لم يأذن به الله .. ودين هكذا وصفه يسر الطغاة .. إذ من السهولة أن يستخرجوا منه التزكيات .. والأعذار والمبررات.
فالشيخ يكفي لإقناع مريديه أن يقول لهم: قد هاتفني النبي صلى الله عليه وسلم .. أو حدثني قلبي عن ربي .. أن أطع ومن معك من التلاميذ والمريدين .. هذا الطاغية أو ذاك .. فهذا كافٍ كدليل على الإقناع .. والتلاميذ لا يمكن أن يجرأوا أن يسألوا شيخهم عن دليل أكثر من ذلك.
ومنها: قد علم الطغاة حاجة الناس إلى الدين .. وأنه لا بد لهم من دين يتدينون ويتعبدون به .. وهم إذا لم يتدينوا بدين الباطل فسوف يتدينون بدين الحق، وبالتالي يحصل لهم ما هم يخشونه ويفرون منه .. لذا فإن المرء الذي يعيش درويشاً صوفياً في زاوية من زوايا الصوفية .. منقطعاً عن قضايا الأمة وواقعها .. أقل عليهم ضرراً من أن يعيش مجاهداً، وموحداً .. وحراً كريماً .. فهم ينظرون إلى الصوفية على أنها الخيار الضروري الذي لا بد منه للناس .. والأقل عليهم ضرراً من التوجهات والمناهج الأخرى .. وبخاصّة منها المناهج التي تكون أقرب إلى منهج اتباع الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح.
ومنها: أن الصوفيّة بالنسبة لطغاة الحكم تُعتبر الجبهة الداخلية التي يُشغلون بها أهل السنة والتوحيد، والجهاد عن مقارعتهم والانشغال بهم .. وبأنظمتهم الفاسدة .. فمن أهداف الطغاة أن يزرعوا في جسد الصف الإسلامي بعض التورمات والأمراض .. التي يُشغلون بها الجسد العام الكلي عن أداء وظائفه ومهامه الأساسية التي ينبغي أن يتفرغ لها .. فالصوفية ـ من هذا الوجه ـ تحقق للطغاة مطلباً هاماً لا يُستهان به.
فإن قيل: ولكن هي طريقة إلى الزهد، والذكر، وتهذيب النفس .. والمسلم بحاجة إلى ذلك؟
أجيب عن هذا التساؤل والاعتراض من وجهين:
أحدهما: أن الزهد، والذكر، وتهذيب النفس، والتربية الروحية .. كل ذلك يُؤخذ على طريقة ومنهج المتابعة للسنة، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه .. وليس عن طريق الابتداع والإحداث في الدين .. والرقص والغناء .. والقفز .. والأهأهات التي ما أنزل الله بها من سلطان .. كما قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ آل عمران:31. وقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً الأحزاب:21. وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً النساء:115. وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الحشر:7. وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ النور:63.
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.
وقيل له إن قوماً يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان! فقال: أعجبُ لقومٍ سمعوا الحديث وعرفوا الإسنادَ وصِحتَه يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ وتدري ما الفتنة؟ الكفر! قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ . فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي؟! ا-هـ[1].
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خذوا مناسككم عني ". وقال صلى الله عليه وسلم :" صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقال صلى الله عليه وسلم :" من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو ردٌّ ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد ". وقال صلى الله عليه وسلم :" كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من رغب عن سنتي فليس مني ". وغيرها كثير من النصوص التي تحض على الاتباع، وتحذر من مغبة ومخاطر الابتداع.
ثانياً: لا يمكن تحت ذريعة الذكر، وتهذيب النفس .. أن نقبل بالصوفية على ما تندرج عليه من مخالفات ومزالق شرعية خطيرة، قد تقدم ذكر بعضها .. ومنها ممارسة الشرك، كالاستغاثة بالقبور والأموات .. وتقديس وعبادة شيوخهم الأحياء منهم والأموات .. والغلاة منهم يرون عقيدة الحلول ووحدة الوجود .. وأن الله تعالى والشيخ شيء واحد .. وفي جبة واحدة، كما يقول بعضهم:" ما في الجبة إلا الله " .. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .. وقاتلهم الله أنَّ يُؤفَكون.
عندما تكون الصوفية غطاء لكل هذا الشر .. فلم يعد من الممكن أن تُستساغ أو تقبل ـ حتى ككلمة ومصطلح ـ بحجة الذكر، والتربية الروحية .. فكم من كلمة حق أريد بها باطل .. وكانت غطاء لباطل.
عبد المنعم مصطفى حليمة
" أبو بصير الطرطوسي "
2/5/1431 هـ. 16/4/2010 م.