محب الشهادة



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

محب الشهادة

محب الشهادة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشهادة في سبيل الله هي ((اكرم وسيلة لعبادة الله))


    {فالله أحق أن تخشوه}

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 942
    نقاط : 2884
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 47
    الموقع : https://achahada-123.ahladalil.com

    {فالله أحق أن تخشوه} Empty {فالله أحق أن تخشوه}

    مُساهمة من طرف Admin الأحد مايو 16, 2010 6:30 pm

    سلسلة محاضرات؛ "لا يضرهم من خذلهم"

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، والصلاة والسلام على من أعلى الله منار الإسلام بسيفه.

    أما بعد...

    فإن المتأمل في أحوال أولي الأمر من العلماء والأمراء؛ ليجد أن مراتبهم في نفوس الخلق تتفاوت، سموا ورفعة، وخفضا وضعة، بحسب اقتران فعالهم بأقوالهم، فإن النفوس فطرت على تعظيم وتقدير من أتبع قوله فعله، والعكس بالعكس.

    ولذا كان "اقتضاء القول العمل"؛ أحد الأسس التي تقوم عليه الدعوة عند أهل الطائفة المنصورة، إذ هو دليل صدق الدعوة، ودليل صدق أصحابها، وعلامة يقينهم في ما يدعون الناس إليه، بل هو ذاته؛ دعوة أبلغ من دعوة القول، إذ قد فطر الله النفوس على أن تستجيب للسان الحال أعظم من استجابتها للسان المقال، ولذا فكل ما اتسعت مسافة الخُلف بين القول والعمل كلما قل تأثير القول في المدعوين، فكان عي الفعال كعي المقال، بل هو أشد.

    وقد نهى الله تعالى عن مخالفة العمل للقول، فقال سبحانه: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.

    قال القرطبي: (هذا استفهام معناه التوبيخ، والمراد في قول أهل التأويل؛ علماء اليهود، قال ابن عباس: "كان يهود المدينة يقول الرجل منهم لصهره ولذي قرابته ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين؛ اثبت على الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل - يريدون محمدا صلى الله عليه وسلم - فإن أمره حق، فكانوا يأمرون الناس بذلك، ولا يفعلونه") انتهى كلامه.

    وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.

    قال السعدي: (أي؛ لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به، وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر، وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون متصفون به، فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير؛ أن يكون أول الناس مبادرة إليه، والناهي عن الشر؛ أن يكون أبعد الناس عنه) انتهى كلامه.

    قال ابن مسعود رضي الله عنه: (فمن وافق قوله فعله؛ فذاك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله؛ فذاك إنما يوبخ نفسه).

    ومن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون؛ أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

    وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي رجالا تُقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون).

    وقد ترجم ابن حبان رحمه الله لهذا الحديث بقوله: (ذكر وصف الخطباء الذين يتكلون على القول دون العمل، حيث رآهم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به).

    فكان مثل من خالف عمله قوله؛

    كحامل لثياب الناس يغسلها وثوبه غارق في الرجس والدنس

    ولقد كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام يدعون الناس بأفعالهم قبل دعوتهم إياهم بأقوالهم، فكانوا عليهم السلام أول مبادر لما يأمرون به، وأول منته عما ينهون عنه.

    قال تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.

    قال ابن جرير: (يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعل خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه) انتهى كلامه.

    وتأمل مليا قوله تعالى في قصة نبيه الكريم ابن الكريم ابن الكريم - يوسف عليه السلام -: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}، فرؤيتهما له عليه السلام من المحسنين هي التي دعتهما للركون إليه والثقة في قوله، فكان حاله عليه السلام أسبق وأسرع وأشد في التأثير في نفسهما من مقاله، بل كان هذا الحال هو الأساس الذي قامت عليه دعوة المقال بعد ذلك.

    إن للفعل تأثيرا في النفوس يفوق تأثير القول المجرد، مما يجعل استجابتها للفعل أكثر من استجابتها للقول، وقد قامت الدلائل الكثيرة على ذلك.

    منها؛ ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني اتخذت خاتما من ذهب)، فنبذه، وقال: (إني لن ألبسه أبدا)، فنبذ الناس خواتيمهم.

    وقد استنبط أهل العلم من هذا الحديث؛ أن الفعل أبلغ من القول.

    ومما يدل على ذلك أيضا؛ ما جاء في قصة صلح الحديبية، وفيها: فلما فُرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا، ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: (يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج ولا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك)، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا.

    وقد انتزع بعض أهل العلم من هذا الحديث؛ أن البيان بالفعل أقوى من البيان بالقول.

    وقال الإمام مالك: بلغني أن القاسم بن محمد كان يقول: (أدركت الناس وما يُعجبون بالقول)، قال مالك: (يريد بذلك العمل، إنما يُنظر إلى عمله ولا يُنظر إلى قوله) انتهى كلامه.

    ومن المعلوم؛ أن مخالفة العمل للقول مما يؤدي إلى أعظم ما يكون من الفساد والفتنة في الدين، حيث يختلط عند الناس الحق بالباطل، بل ويهون الدين في أعينهم بصورة شديدة من جراء ما يرونه من مفارقة العمل للقول في واقع حملة الدين ورجاله المتحدثين باسمه.

    وما أفقه قول وُهيف حيث قال: (ضُرب مثل لعلماء السوء فقيل؛ إنما مثل عالم السوء كمثل الحجر بالساقية، فلا هو يشرب الماء، ولا هـو يخل الماء إلى الشجرة فتحيا به) اهـ.

    قال ابن القيم: (علماء السوء؛ جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس؛ هلموا، قالت أفعالهم؛ لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع الطرق) انتهى كلامه.

    ولذا فإن أبصار المدعوين شاخصة نحو الدعاة، تحصي عليهم كل شيء وإن دق، إذ لما نصّبوا أنفسهم لدعوة الناس؛ نصّب الناس إليهم وجوههم.

    وقد قال تعالى في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا}، وما ذاك إلا لأنهن قدوات - مع ما فيه من صيانة لجنابهن وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلما كانت مكانتهن رفيعة؛ ناسب أن يجعل الله الذنب الواقع منهم عقوبته مغلظة، فأفاد ذلك؛ أن من عظمت منزلته وشخصت الأبصار إليه ليس كغيره من الخاملين الذين لا يأبه لهم، إذ الأول محل النظر والاقتداء دون الثاني.

    قال ابن القيم: (فقواعد الشرع تقتضي أن يُسامح الجاهل بما لا يُسامح به العالم، وأنه يُغفر له ما لا يُغفر للعالم، فإن حجة الله عليه أقوم منها على الجاهل، وعلمه بقبح المعصية وبغض الله لها وعقوبته عليها أعظم من علم الجاهل، ونعمة الله عليه بما أودعه من العلم أعظم من نعمته على الجاهل، وقد دلت الشريعة على أن من حُبي بالإنعام وخُص بالفضل والإكرام ثم أسام نفسه مع ميل الشهوات فأرتعها في مراتع الهلكات، وتجرأ على انتهاك المحرمات، واستخف بالتبعات والسيئات؛ أنه يُقابل من الانتقام والعتب بما لا يقابل به من ليس في مرتبته) انتهى كلامه.

    فالقاعدة هنا؛ أنه كلما كانت الدرجة أعلى، كان العذاب عند المخالفة أعظم، لخصوصية المنزلة والمحل.

    وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء؛ جمع أهله فقال: (إني نهيت الناس عن كذا... وكذا... وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدا فيكم فعله إلا أضعفت فيه العقوبة).

    بل إن الداعية قد لا يسعه ما يسع الناس لخصوص منزلته، وخصوص ما نصّب نفسه له، وعلى هذا جرى الدعاة الهداة.

    قال الإمام الأوزاعي: (كنا نضحك ونمزح، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم) انتهى كلامه.

    وقال القاضي عياض: (لا ينبغي لمن يُقتدى به إذا ترخص في أمر لضرورة، أو تشدد فيه بوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهبا شذ به عن الناس؛ أن يفعله بحضرة العامة الجهلة، لئلا يترخصوا برخصته لغير ضرورة أو يعتقدوا أن ما تشدد فيه هو الفرض اللازم) انتهى كلامه.

    فكيف بما هو فوق ذلك من المخالفات الظاهرة المُنادى عليها، وقد قيل: "إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال؛ صار العوام أكلة الشبهة، وإذا صار العلماء أكلة الشبهة؛ صار العوام أكلة الحرام، وإذا صار العلماء أكلة الحرام؛ صار العوام كفارا".

    ومن ثم فالظالم لنفسه بمخالفة عمله لقوله لا يكون إماما يقتدى به أبدا، وهو ما يدل عليه عموم قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.

    عن مجاهد أنه قال في الآية السابقة: (لا أجعل إماماً ظالماً يُقتدى به) انتهى كلامه.

    وإنما لا يكون من خالف عمله قوله إماما؛ لأن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتدائهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة، وقد قيل:

    يا واعظ الناس قد أصبحت متهما إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها

    ومن هذا القبيل قول الإمام عبد الله بن المبارك في إسماعيل بن علية - رحمهما الله جميعا - لما تولى ولاية للصدقة عند الرشيد، حيث كتب له يقول:

    يا جاعل العلم له بازيا يصطاد أموال المساكين
    احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين
    فصرت مجنونا بها بعدما كنت دواء للمجانين
    أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين
    ودرسك العلم بآثاره في ترك أبواب السلاطين
    تقول أكرهت فماذا كذا زل حمار العلم في الطين
    لا تبع الدين بالدنيا كما يفعل ضلال الرهابين

    هذا وابن علية؛ ابن علية، والرشيد؛ الرشيد.

    وعن سفيان الثوري قال: (المال داء هذه الأمة، والعالم طبيب هذه الأمة، فاذا جر العالم الداء إلى نفسه فمتى يبرؤ الناس).

    قال المناوي: (فانظر إذا كنت إماما أي إمام تكون، فربما نجت الأمة بالإمام الواحد، وربما هلكت بالإمام الواحد، وإنما هما إمامان: إمام هدى، قال الله عز وجل: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا}، يعني على الدنيا، وإنما صاروا أئمة حين صبروا عن الدنيا، ولا يكون إمام هدى حجة لأهل الباطل، فإنه قال: {يهدون بأمرنا}، لا بأمر أنفسهم، ولا بأمور الناس، وإمام آخر؛ قال الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار}، ولا تجد أحدا يدعو إلى النار، ولكن الدعاة إلى معصية الله، فهذان إمامان هما مثل من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) انتهى كلامه.

    ومتى خالف العمل القول؛ فقد القول مصداقيته، وشك المدعوون في يقين قائله فيه، إذ لو كان القائل على يقين من صحة وصدق ما يدعوا إليه لكان أول مبادر إليه مستمسك به.

    قال المناوي: (منزلة الواعظ من الموعوظ كالمداوي من المداوى، فكما أن الطبيب إذا قال للناس لا تأكلوا كذا فإنه سم ثم رأوه يأكله؛ عُد سخرية وهزؤا، كذا الواعظ إذا أمر بما لم يعمله، ومن ثم قيل؛ يا طبيب طبب نفسك، فالواعظ من الموعوظ يجري مجرى الطابع من المطبوع، فكما يستحيل انطباع الطين من الطابع بما ليس منتقشا فيه، فمحال أن يحصل في نفس الموعوظ ما ليس في نفس الواعظ) انتهى كلامه.

    لا تنهى عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
    ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم
    فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم

    إن أهل الطائفة المنصورة - وإن كانوا يحفظون لأهل العلم الذين اتبعوا أفعالهم أقوالهم؛ قدرهم ومكانتهم - إلا أنه ليس في ميزان أهل الطائفة المنصورة؛ أن يعرفوا الحق بهم، وإنما هم يعرفون الرجال بالحق، فالرجال ما هم إلا وسيلة لمعرفة الحق ببيان دليله وما يقوم عليه، لا أن الحق يُعرف بهم فيُدار معهم في جميع أقوالهم وأفعالهم، إذ اتباع الرجال - أيا كان شأنهم من الدين علماُ وعملاُ بغير حجة قائمة - من أوسع أودية الباطل، ومن أعظم أسباب الضلال، فضلا عن كونه سبيل ضعاف العقول.

    وقد اتفق أهل العلم كافة؛ على أن معرفة الحق بالرجال - وهو التقليد - خارج عن طرق العلم وسبله، مما هو دال على كون من عرف الحق بالرجال يسير على غير بصيرة من أمره وإنما هو لم يزل بعد في ظلمات الجهل يتخبط.

    قال ابن القيم: (لا خلاف بين الناس؛ أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم) انتهى كلامه.

    ولما كان العلم ما قام عليه الدليل، وكانت معرفة الحق بالرجال خارجة عن طرق العلم وسبله؛ كان من عدل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل - مع تمكنه منه - إلى التقليد، كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكاة.

    فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل، إلا عند الضرورة - كما قال ابن القيم عليه رحمة الله -

    وقد ذم أتباع الرجال بغير حجة قائمة غاية الذم، بل وجعل ذلك من أظهر أسباب الإعراض عن دينه الذي أنزله وارتضاه، قال تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آبائهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون * ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لا يعقلون}.

    قال القرطبي: (قال علمائنا؛ وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، ونظيرها؛ {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا}).

    قال الشوكاني في قولهم: ({حسبنا ما وجدنا عليه آبائنا}، وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ لهم صارخ الكتاب والسنة، فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله، مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله، هو كقول هؤلاء وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية، لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والإستفادة).

    وقال الشوكاني في قوله؛ {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}: (ما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه وأوخم عاقبته وأشئم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير) انتهى كلامه.

    وهذه الآيات السابقة وإن كانت قد نزلت أساسا في الكفار، إلا أنها تشمل بعمومها كل من عرف الحق بالرجال موافقة لهم وتقليدا بغير حجة من الله وبرهان، أيا كان محل التقليد وموضعه، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، مع اختلاف الحكم تبعا لمحل التقليد وموضعه.

    قال ابن عبد البر: (ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء، وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الإحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل فكفر، وقلد آخر فأذنب، فقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يُشبه بعضه بعضا، وإن اختلفت الآثام فيه) انتهى كلامه.

    ومعرفة الحق بالرجال، موافقة لهم وتقليدا بغير حجة؛ هو دين أهل الكتاب الذي حذرنا الله تعالى من الوقوع فيه، وهو مما كان سبب خروجهم عن الملة التي أنزلها الله إليهم، قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}.

    عن عدي بن حاتم رضي الله عنه - وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نصراني - فسمعه يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}، قال: فقلت: (يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم)، قال صلى الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم فتحلونه؟)، قال: قلت: (بلى)، فقال صلى الله عليه وسلم: (فتلك عبادتهم).

    قال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: (كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا لقولهم، فاستنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم).

    ومن لطيف ما يُنشد هنا في بيان حال أمثال هؤلاء ممن يعرف الحق بالرجال، وقوفا عندهم وإعراضا عن الكتاب والسنة، قول المنذر بن سعيد البلوطي حيث قال:

    عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلا؛ هكذا قال مالك
    فإن عدت قالوا؛ هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك
    فإن زدت قالوا؛ قال سحنون قبله ومن لم يقل مقاله فهو آفك
    فإن قلت؛ قال الله ضجوا واعكروا وقالوا جميعا؛ أنت قرن مماحك
    وإن قلت؛ قد قال الرسول فقولهم؛ أتت مالك في ذلك المسالك

    وهذا لسان حال، بل ولسان مقال؛ كل من عرف الحق بالرجال؛ "أتت فلان في ذلك المسالك"، وهي شبهة لرد الحق واهية، ومفادها تعطيل الدين بالكلية وتفريغ النصوص من محتواها.

    ومن المقطوع به عند الجميع؛ أن الحق لا يدور مع معين إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال، فحال المقلد في الباطل:

    وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

    وقد رسم أئمة الطائفة المنصورة - عبر تاريخها المتصل - هذا المعلم الهام من معالم الحق، وأمروا به ونهوا عن ضده.

    فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - حين قال له الحارث بن عبد الله الأعور: أتظن أن طلحة والزبير رضي الله عنهما كانا على الباطل؟! - قال علي رضي الله عنه: (يا حارث، إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

    وعن أبي مليكة رحمه الله: أن عروة بن الزبير رحمه الله قال لابن عباس: (أضللت الناس)، قال وما ذاك يا عُرية؟! قال: (تأمر بالعمرة في هؤلاء العشر، وليست فيهن عمرة)، فقال: (أولا تسأل أمك في ذلك؟)، فقال عروة: (فإن أبا بكر وعمر لم يفعلا ذلك)، فقال بن عباس رضي الله عنهما: (هذا الذي أهلككم، والله ما أرى إلا سيعذبكم، إني أحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتجيئونني بأبي بكر وعمر).

    وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه لله إلى الناس: (إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    ودخل القعنبي رحمه الله على مالك، فرآه يبكي فسأله؛ ما الذي يبكيك؟ فقال الإمام مالك: (يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، وما الأحق بالبكاء مني، لوددت أني أضرب سوطا وقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفتي بالرأي).

    وما أحسن كلمة الشافعي رحمه الله لتلميذه المزري حيث قال له: (يا أبا إبراهيم لاتقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك، فإنه دين).

    وقيل للإمام أحمد رحمه الله: إن قوما يدّعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال رحمه الله: (أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته، ويدعونه، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهوائهم إلى الرأي) انتهى كلامه.

    فأهل الطائفة المنصورة يتلمسون الحق من مظانه، فما أعياهم من حكم أو نزل بهم من نازلة؛ طلبوا الحق من أصوله المستقرة، لغير نظر منهم لما عليه الرجال من ذلك - أحياءا كانوا أوأمواتا -

    وأهل الطائفة المنصورة أول ما يحاكمون إلى هذا الأصل؛ أنفسهم، قبل أن يحاكموا غيرهم، فحاشاهم أن يكونوا أصحاب دعوى هم أول من يخالفها، وهم لذلك يضعون على هذا المحك أقوال وأفعال أقرب الناس وأحبهم إليهم من شيخ أو عالم أو أمير وزعيم أو غيره أو غير ذلك من كل مطاع لهم ومتبع.

    قال ابن رجب: (وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له؛ وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا، ويكون مجتهدا فيه مأجور على اجتهاده فيه، موضوعا عنه خطأه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق، بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه كان قصده الإنتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا يُنسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الإنتصار للحق، فافهم هذا، فإنه مهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) انتهى كلامه.

    إن أهل الطائفة المنصورة - وإن كانوا يحيطون أهل العلم العاملين بهالة من الإجلال والتقدير - إلا أنهم مع ذلك يوقنون بأن العصمة منتفية عن غير الأنبياء عليهم السلام.

    ولذا فإذا بدا من أحد هؤلاء العلماء زلة أو ظهر منه خطأ، فإنهم يدعون إلى اجتناب زلته وعدم متابعته على خطأه، وإن كان صاحبها قد يكون معذورا، بل مأجورا إن كان مجتهدا.

    قال ابن عبد البر: (وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه) انتهى كلامه.

    وقد حذر أئمة الطائفة المنصورة من زلة العالم، وبينوا خطرها ووجوب اجتنابها وطرحها وعدم متابعته فيها.

    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين؛ زلة عالم، وجدال منافق، وأئمة مضلون).

    وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة ضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق)، قيل له: وكيف زيغة الحكيم؟! قال رضي الله عنه: (هي الكلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون ما هذه؟! فاحذروا زيغته).

    وقد قيل؛ "زلة العالم يضرب بها الطبل، وزلة الجاهل يخفيها الجهل"، وذلك لأن الجاهل غير محتج به، غير متبع في أمره.

    ولله در القائل:

    العيب في الجاهل المغمور مغمور وعيب ذي الشرف المذكور مذكور
    كفوفة الظفر تخفى من حقارتها ومثلها في سواد العين مشهور

    فالعالم منظور إليه، محتج به، متبع في أمره، ولذا كانت زلة العالم زلة له ولمن يقتدي به، فأثرها متعد، لا لازم.

    فأمر العلماء خطر، وعليهم وظيفتان؛ ترك الذنب ثم إخفاءه إن وقع، وكما يتضاعف ثوابهم على الحستات، فيضاعف عقابهم على الذنوب والسيئات، إذ اتبعوا، فحركات العلماء - في طوري الزيادة والنقصان - تتضاعف آثارها إما بربح أو خسران.

    وقد روي عن عيسى عليه السلام؛ أنه سئل من أشد الناس فتنة؟ فقال: (زلة عالم، إذ زل؛ زل بزلته عالم).

    وأهل العلم بعد أن حذروا من زلة العالم وأمروا بطرحها واجتنابها، بينوا موقعها من دبن الله، فنصوا على كونها خارجة عن موارد الإجتهاد المعتبرة، منقطعة الصلة بمدارك الحق ومسالكه، ولذا كانت باطلة النسبة لدين الله وشرعه.

    ولكأن أبناء الأمة في هذه الأزمان أحوج ما يكونون للإستفادة من كلام هؤلاء الأئمة في تحذيرهم من زلة العالم ودعوتهم إلى اجتنابها، ولا سيما في هذه الأزمان حيث كثرت فيه زلات أهل العلم، ولا سيما في موقفهم من الجهاد وأهله.

    وفي الآونة الأخيرة؛ بدت من بعض إخواننا أهل العلم الذين كان لهم سابقة في الدعوة إلى الله؛ هنات وأخطاء، كان سببها بعدهم عن ساحات الجهاد وعدم ممارستهم الفعلية للجهاد، فضربت بزلاتهم الطبول وطارت بها وسائل الإعلام المسيرة كل مطار، كل ذلك بغية شق الصفوف وتفريق الكلمة وصد الناس عن الجهاد وتنفيرهم من المجاهدين، فكان لزاما علينا التنبيه على زلات إخواننا، حتى لا يقتدي بهم فيها، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما).

    إن مصطلح "منظري التيار الجهادي"؛ مصطلح دخيل، كثر ذكره وامتهانه في الآونة الأخيرة، ولاسيما من قبل وسائل الإعلام، ليصدوا أبناء الأمة عن الجهاد، وهذا المصطلح في حقيقته؛ هو فصام نكد بين القول والفعل.

    فإن أهل العلم على مر العصور وكر الدهور كانوا في مقدمة ركب الجهاد - كما سبق ذكره بشواهده غير مرة - ولم نسمع أن أحدا منهم نَظّر للأمة أحكام الجهاد ثم هو قعد وتخلف عن الجهاد الواجب المتعين عليه وكأنه ليس معنيا بهذا الخطاب.

    وإن المتأمل اللبيب ليلحظ أن هذا المصطلح في حقيقته؛ ذم وطعن في أصحابه، حيث يدخلهم في قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم لا تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند أن تقولوا ما لا تفعلون}.

    إن المقرر عند أهل العلم؛ أن الذي يُفتي في مسألة ما، لابد أن يكون عنده علم بالحكم الشرعي وعلم بالواقع الذي يُطبق عليه هذا الحكم، وإلا كانت فتواه مجانبة للصواب.

    قال ابن القيم: (ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما؛ فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علما، والنوع الثاني؛ فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر) انتهى كلامه.

    ولذا كان المجاهدون هم أسعد الناس بالدليل، لجمعهم بين الأمرين، حيث جمعوا بين الحكم الشرعي المبني على الكتاب والسنة وأقوال أئمة السلف، وعلمهم بالواقع - الذي هم في الأصل يعايشونه -

    قال سفيان بن عيينة لابن المبارك عليهما رحمة الله: (إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: {لنهدينهم سبلنا}).

    وقال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل عليهما رحمة الله: (إذا اختلف الناس في شيء؛ فانظروا ماذا عليه أهل الثغور، فإن الحق معهم، لأن الله يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}).

    فمنظروا التيار الجهادي؛ هم الذين حملوا الكتاب والسيف بأيديهم وتقدموا الصفوف وقادوا الجموع وهجروا لذائذ الدنيا الفانية وآثروا ثواب الآخرة الباقية، وتركوا القصور والدور لهم مأوى، واختاروا الكهوف والجبال لهم سكنى، حفاظا على دينهم، وتصديقا لأقوالهم بفعالهم.

    أما أن يبقى العالم بعيدا عن ساحات الجهاد والواقع الذي يعيشه المجاهدين، مقيما في بلاد الكفار، ثم يفتي الأمة في مسائل؛ أدنى ما يقال فيها إنها مسائل اجتهادية قابلة للنظر، يريد إلزام المجاهدين بها؛ فهذا لا يقبل... ولا كرامة.

    بل إن أهل العلم قرروا أنه لا إنكار في مسائل الإجتهاد التي لا تخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا.

    ذكر القاضي أبو الحسن الماوردي في "الأحكام السلطانية" خلافا بين العلماء في أن من قلده السلطان؛ الحسبة، هل له أن يحل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء، إذا كان المحتسب من أهل الإجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره، فقرر؛ أن الأصح أنه لا يغير، وأنه لم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا يُنكر محتسب ولا غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، والله أعلم.

    وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: عن حكم إلزام ولي الأمر الناس بمذهبه في مسائل الإجتهاد التي اختلف فيها العلماء، فأجاب: (ليس له منع من مثل ذلك ولا من مظاهره مما يسوغ فيه الإجتهاد، وليس معه بالمنع نص من الكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل.

    ولهذا لما استشار الرشيدُ مالكا في أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل؛ منعه من ذلك، قال: "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم".

    وصنف رجل كتابا في الإختلاف، فقال أحمد: "لا تسمه كتاب الإختلاف، ولكن سمه كتاب السعة".

    ولهذا كان بعض العلماء يقول؛ إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة.

    وكان عمر بن عبد العزيز يقول: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل؛ كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا؛ كان في الأمر سعة".

    وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.

    ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره: إن مثل هذه المسائل الإجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر؛ فلا إنكار عليه) انتهى كلامه.

    كما بين شيخ الإسلام؛ أن المسائل التي لا يعلم قطعا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هي من موارد الإجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بها بما بان له ولم يبن لهم.

    وعليه؛ فما ذهب المجاهدون إليه في بعض المسائل الإجتهادية - كالعمليات الإستشهادية، وضرب الكفار وتبييتهم في عقر دارهم ردعا لهم وكفا لشرهم عن المسلمين، وإن أدى تبعا إلى قتل من لا يجوز قتله استقلالا، كالنساء والأطفال - لا يجوز الإنكار عليهم في ذلك، فضلا عن الطعن والتشهير وإصدار الأحكام الجائرة بالتبديع والتفسيق والتضليل، فقد أمرنا الله تعالى بالعدل مطلقا، ولو مع أبغض الناس إلينا، قال تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}.

    قال ابن القيم رحمه الله: (فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله، فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول - تصيب وتخطئ - على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به؛ منه، علما وعملا، ودعوة إلى على بصيرة، وصبرا من قومهم على الأذى في الله وإقامة لحجة الله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل) انتهى كلامه.

    والمجاهدون - وإن خالفهم مخالف - فلهم من حقوق الإسلام بحسب ما هم عليه من الإيمان - علما وعملا - فكيف والقوم ما قاموا إلا بما أوجبه الشرع عليهم، وهم أسعد بالدليل، وأشد اتباعا له من المتكلم فيهم، كما أنهم ما خرجوا إلا لإعلاء كلمة الله والتمكين لدينه، وقد علم القاصي والداني؛ صدق نواياهم وخلوص قصدهم، ولنا ظاهرهم وحسابهم على الله، وهذا مع ما شهد به العدو قبل الصديق؛ من بذلهم أنفسهم وأموالهم نصرة لهذا الدين وإعزازا له وتحملهم في سبيل ذلك من الإبتلاء ما الله وحده به عليم.

    كما أن المتكلم في هؤلاء القوم - وإن خالفهم فيما ذهبوا إليه - يعلم يقينا أنهم يغيظون أعداء الله وهم شجى في حلوقهم، فكان الكلام فيهم؛ إعانة عليهم لمن لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة من أعداء الملة والأمة.

    وإن أراد المتكلم وجه الله بكلامه؛ فسبيله النصح، لا الطعن والتشهير والنبز والرمي بكل سوء وقبيح، والنصح قد علم طريقه كل عاقل - فضلا عن أهل العلم -

    فكان الكلام في هؤلاء القوم بالطعن والنقص والذم ونحوه؛ ليس له من معنى إلا أن يكون دخنا في الدين أو غلا للمؤمنين أو جهلا بالشرع أو انتصارا للنفس وأهوائها.

    ومن ذلك اتخادهم مطية لإظهار "الإعتدال" و "الوسطية" المزعومة، والله يعلم المفسد من المصلح، وقد قال تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون}.

    وليحذر العبد أن يأتي يوم القيامة وخصمائه المجاهدون في سبيل الله، المدافعون عن دينه، الباذلون مهجهم - حبا فيه وإرضاءا له - ولله در القائل:

    إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
    ستعلم في الحساب إذا التقينا غدا عند الإله من الملوم

    غير أن الطعن والتشهير والتجريح في هؤلاء القوم؛ هو المركب الأرغد والفراش الممهد والطريق المعبد، أما الدفاع عنهم وإنصافهم وإعطائهم حقهم من الموالاة؛ فذاك درب لا تؤمن غوائله ولا تحمد عواقبه.

    {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
    والحمد لله رب العالمين

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:05 pm