منذ زمن وأنا أحدث نفسي بالكتابة في ظاهرة غزت أوساط الصحوة الإسلامية وتسربت لتصبح ظاهرة ملحوظة في بعض الأوساط الجهادية، ألا وهي ظاهرة كثرة الرؤى والأحلام وكثرة المهتمين بها، وما تبع ذلك من كثرة المؤولين - الهواة طبعاً - ثم محاولة ربط تلك الرؤى والأحلام بما يجري في الواقع، والقفز إلى التخطيط للمستقبل على أساسها... إلى آخر تفاعلات هذه الظاهرة التي تستوجب الوقوف عندها، والتنبيه على مترتباتها.
إبتداء أقول:
إن من عقيدتنا الأخذ بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الرؤى جزء من عالم الوحي، وأنها من علامات آخر الزمان الذي أظلنا حيث توشك رؤيا المؤمن أن لا تخطىء، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا والرؤيا جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة)( )، مع علمنا بورود الآثار بإهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بالرؤى والتأويل، وتأويله صلى الله عليه وسلم، وتأويل الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه، ثم اشتهار بعضهم وبعض السلف بالتأويل... إلى آخر ما هو معروف ومعتقد لدينا، ولله الحمد.
ولكن لفت نظري وأنا أعيش في منزل فيه مكتبة متوسطة الحجم نسبياً، نظراً لقلة المكتبات والكتب في ظروفنا الحالية، لفت نظري؛ أن يكون كتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للشيخ النابلسي رحمه الله، وملحقه المنسوبة إلى الإمام ابن سيرين رحمه الله، أكثر الكتب تداولاً وإستعمالاً! رغم أن المكتبة تتوفر فيها - ولله الحمد - عدد كبير من كتب العلم الشرعي بأنواعها، والعلوم السياسية والعسكرية والحركية والأمنية، وغير ذلك من الكتب، التي تعاني من تصلب مفاصلها لقلة متناويلها، ولو نطقت لنادت لهفةً وغيرةً من طول عناق الأخوة لذلك المجلد المحظوظ: (يا عبد الله أما لنا فيك نصيب)؟!
حتى لقد خرج هذا الكتاب الموقر من رفوف المكتبة، وصار جليسنا في صالة الجلوس والطعام، على مر الساعات ومدار الليل والنهار، بحيث صار "أحد أفراد المنزل"، تجده فوق الفرش وبجانب الوسائد أحياناً، وقرب سفرة الطعام، وعلى جلسات الشاي.
هذا في حال لم يشهد الجلسة بعض المؤولين "غير المرخصين" أو "غير المأذونين"، وهذا نادر على كل حال! حيث يريحون صفحات الكتاب المسكين، التي بدأت تعاني من إقتراب مفارقتها لجلد المجلدن لكثرة التداول والبحث والدراسة.
فهل ترى نحن أمام رؤى وأحلام؟ أما أمام خيالات وآمال وأوهام؟ وهل نحن أمام مؤولين على هدي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونور البصيرة المؤمنة؟ أم أمام بعض الهواة "العابثين بالوحي"؟
كما قال الإمام مالك رحمه الله عندما سمع أن بعض الناس تأول من غير علمٍ وأهلية، فقال رحمه الله: (سبحان الله ما ظننت أن يعبث بالوحي!)، متأولاً الحديث الآنف الذكر.
فما القصة؟ ولماذا في أوساط الإعداد والجهاد والمجاهدين؟
وأحب أن أسجل على هذه الظاهرة الطريفة عدة ملاحظات:
أولاً:
أني أعتقد - كما مازحت بعض الإخوة عدة مرات - أن أكثر أصحاب المنامات - وأقول منامات حتى نفرق بينها وبين رؤى الحق - يرونها من قبيل العمل في الليل، لقلة العمل والإنتاج في النهار!
ثانياً:
يلاحظ أن أغلب الرؤى منصرفة من بعض الإخوة لمن تعلق قلبه بحبهم، وتعلقت آماله بهم سواءً كان فرداً أو جماعة.
كما ذكر بعض الإخوة؛ كثرة "منامات" المجاهدين العرب أيام الجهاد الأفغاني في "سياف"، وكيف أنه الخليفة القادم! وكيف أنه سيدخل المسجد الأقصى بالمجاهدين العرب والأفغان والرايات السود!
في حين توزعت بعض "المنامات" على باقي قادة الجهاد الأفغاني كلاً بحسب "فتى أحلامه"، فهذا يطير بلا محركات! وثاني يقدم على حصان أبلق بثوب أخضر! وثالث يضع في جيبه الشيكات فيتسع لكل ما وضع فيه رغم صغر الجيب... إلى آخر قصص العرض المتواصل ليلياً!
وكما كانت في الماضي تتكرر القصة اليوم، فقد "تعددت المنامات، والوهم واحدُ".
ثالثا:
يلاحظ أن معظم المنامات متعلق موضوعها برغبات الخلاص والفرج مما يعانيه الرائي من معاناة، فكم قتل رئيس دولة في المنامات! وكم فتحت بلاد وسقطت حصون! وكم حرر من أسرى! وكم أقتص فيه من جلاد ظالم! وكم أطلق فيه من سجين... إلخ.
في حين تتعلق رؤى بعض العزاب بزواج قريب، وبعض المتأهلين في تعدد الزوجات، وبعض أصحاب الحاجات بصرّة مال تسقط من فتحة المدفأة... وهكذا، كلً بحسب حديث نفسه وآماله الصعبة التحقق نهاراً ويقظة، فيحققها عبر فيلم ممتع دون تكلف ثمن التذكرة.
رابعا:
يلاحظ أن أكثر منامات هذا الوقت؛ منصرفة إلى علامات الساعة وآخر الزمان وما يجري فيه، وعلى اعتبار أننا في أفغانستان؛ حيث تخرج الرايات السود، وحيث مظنة قرب خروج المهدي، فإن نسبة كبيرة من تلك الرؤى متعلق بهذا الموضوع.
ونظراً إلى أن بعض المنامات لا تأتي أحياناً على حسب المقاس من الرغبات، عندها يتولى المؤول الهاوي إعادتها إلى هذا الموضوع.
وما أكثر ما سمعت من تأويلات عجيبة، أذكر أن إحداها كانت عبارة عن سيارة واقفة في باب معسكر، فسأل المؤول صاحب المنام: (ما لون غطائها؟)، قال: (أسود)، قال: (كيف كانت تقف؟)، فأتفق أنها على شكل الباب المتجه قدراً للغرب، فقال المؤول: (هي الرايات السود تخرج من المشرق)! وبالطبع كبر بعض الحاضرين!
وباعتبار أن الأمة تعيش الأيام السود، فلا غرابة أن تكون كل الرؤى بانتظار الرايات السود!
وما أكثر التفاصيل طبعاً؛ فمع التهديدات الأمريكية؛ تكثر الرؤى عن النوازل والضيق والحصار، ومع المواقف الطيبة لبعض المجاهدين ورؤوسهم؛ ترتفع معنويات المنامات... وهكذا.
الظاهرة الطريفة ضمن هذا الموضوع؛ أن بعض الرؤى المحلية لم تعد تكفي للاستمتاع بما يمكن أن يخبئه لنا عالم الغيب مما لم نحققه في عالم الشهادة، فظهرت ظاهرة الرؤى المستوردة، ولا سيما من الجزيرة - ومن بعض أوساط الصحوة الإسلامية في الخارج -
فإذا كان السبب - حسب رأي البعض - هو كثرة المنامات ليلاً وقلة العمل نهاراًَ، فلا عجب إذن أن ترتفع نسبتها هناك، وفي بعض بلاد المهجر؛ حيث الاحتلال الصليبي والكفر الحكومي والظلم والقهر في السجون، وعلى اعتبار أننا ولله الحمد من قبل المشرق فمن الطبيعي أن تتجه آمال وأحلام أهل المغرب إلينا هنا... وهكذا.
إلى هذا الحد والظاهرة طبيعية، مفسرة ضمن المفهوم الشرعي للرؤى والأحلام - كما قال العلماء - إما رؤيا حق من الله تعالى، وإما حديث نفسٍ من رغبات الرائي، وإما رؤى شيطانية - والعياذ بالله - وبناءً على هذا يمكن فهم كثير من الرؤى، والمنامات هنا تحت البند الثاني، والله أعلم.
إلا أن الغريب والذي يدفع للتنبيه على عدة أمور، هي ما يلي:
1) أن كثيرا من هذه الرؤى بدأت تدفع أصحابها إلى الخمول والإتكال، وإنتظار الفرج من تحقق منامات المشاهدين، وتأويلات هواة المؤولين حسب نظام ما يطلبه النائمون.
2) إن البعض - وبينهم بعض الكبار والعاقلين - بدأ يميل لرسم خططه وتصرفاته بحسب تلك المنامات.
3) إن البعض يريد إسقاط الرؤى والمنامات المتعلقة بأحداث وأشخاص أبناء الملاحم والفتن على بعض الناس - مثل المهدي وغيره - بحيث تتداول الآن روايات عن احتمال أكثر من مهدي في أكثر من مكان.
4) المستوى الأغرب؛ هو رغبة بعض أصحاب المنامات، وطلبهم من الجمهور تصديق وإعتقاد فحوى آراء المؤولين، وهكذا مطالب بتصديق أحداث منام لم نشهده، وأوهام لسنا نحن الحالمين بها!
والذي أريد أن أذكر به إخواني، وأنصحه في ختام هذه المقالة الحالمة، ما يلي:
1) قراءة فهم السلف لقضية الرؤى والأحلام وأنواعها ومواصفات الرؤى الصحيحة، والتفريق بينها وبين حديث النفس... ناهيك عن رؤى الشياطين التي ليس بالضرورة أن تكون من قبيل الكوابيس المفزعة، وإنما قد يلقي الشيطان أوهاماً ونزغات ومفاهيم وإفتراضات، تجعل الرائي يتحرك في وحي فحواها، أو يتخذ بسببها بالإيماء النفسي موقفاً من أحد أو من قضية، أو حتى يجعله الشيطان - إن كان من هواة التخطيط للمستقبل في ضوء الرؤى والأحلام - يتوجه توجهاً غير صحيح، مما قد يُحدث له، أو لمن حوله؛ كوابيس مفزعة، ولكن في عالم الواقع والحقيقة.
2) نصيحة إلى بعض هواة المؤولين الذين يستجرهم الشيطان من جهة، وإستدراجات الحالمين من جهة أخرى؛ إلى التشدق بما لا يعلمون، لا سيما وأن الرؤى جزء من عالم الوحي - كما قدمنا - وهو أمر مقدس يجب الحيطة معه.
وقد مر معنا غضب الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقوله لمثل هذه الظاهرة: (سبحان الله ما ظننت أن يعبث بالوحي!).
ومن نفس المنطلق؛ ننصح الإخوة أصحاب الرؤى والمنامات أن لا يقصدوا إلا الثقة المشهود لهم بالتأويل، علماً أن من أوصافها - كما هو مذكور في بعض الكتب ذات العلاقة -؛ معرفة القرآن والسنة وحفظ قسط كبير منها، والإطلاع على علوم التأويل، وحسن الدين والتقوى والخشوع وصدق اللسان والكسب الحلال وسلامة الصدر وكثرة التنسك والعبادة... إلى آخر ما ورد من الأوصاف المعهودة لمن شهد لهم بالتأويل.
وألا يستدرجوا غير المؤهلين، لأنهم سوف يضحكون عليهم، ويكسبون الوزر والإثم مقابل ذلك، والله أعلم.
3) أن الأصل في الرؤى المبشرة؛ هو الإستئناس والبشرى من باب الأمل والأنس، وأما تحقق حصولها؛ فهو بعد الحصول، أو ما دلت عليه الوقائع، ولا يجب التعامل معها - لا سيما حينما تنبئ عن وقوع أشياء - على سبيل الجزم، فضلا عن التخطيط على أساسها.
4) يجب أن نتعامل مع الواقع والمستقبل في ضوء التكاليف الشرعية، وخاصة فيما يتعلق بوجوب الإعداد في سبيل الله، ووجوب دفع الصائل عن بلادنا وعن المسلمين، مثل قتال الكفار والمرتدين والمحاربين لدين الله، مع كل ما يقتضيه الواجب الشرعي من الجد وعدم الركون - بسبب الأحلام والأماني - إلى الكسل والدعة والتواكل المذموم، بدعوى التوكل.
5) أن ما يتعلق بأحداث الملاحم والفتن وعلامات الساعة - ولاسيما الأحداث الكبرى مثل خروج الرايات السود والمهدي والدجال ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والأحداث الأخرى من قبيل ما ذكر مجملاً في إفتتاحية هذا العدد "مثلث البشائر" -:
يجب أن نتعامل معه من منظور الدليل الشرعي وما ثبت منه، والإستئناس لضعيفه من خلال أصحاب الفهم في ترتيبه وحيثياته، وما يعضده من روايات آخرى.
يجب أن نتعامل معه من منظور الفهم الصحيح للواقع، ولاسيما وأن هذه الأحداث المعينة - إن صح ورودها - ليست قضية يوم وليلة، والله أعلم، بل في ثناياها ما يدل على حصول أحداث تقتضي مجموعها - منطقاً وعقلاً - سنوات كثيرة، الله أعلم بطولها ووقت شروعها، ولا سيما أن بدايتها هي مقدمة قيام الساعة.
أن هذه النبوءات والبشائر؛ لا تلغي الفرائض الشرعية من العمل والجهاد والإعداد ولوازم ذلك وتوابعه، من السعي في طلب علوم الشريعة وعلوم السياسة والواقع والعلوم العسكرية والمادية اللازمة للاستخلاف في الأرض، وللجهاد في سبيل الله، فلا يجوز النظر إليها من منظور القعدة المعتزلين.
بل على العكس فإن هذه الأحداث - ولا سيما إنبعاث الرايات السود والمهدي ومن يصحب أهل الحق والظاهرين عليه في أخر الزمان - يقتضي من أحدنا العمل على إعداد نفسه، كي يتأهل لأن يكون في مستوى المستأهل لأن يكون في العاملين في ذاك الزمان.
أننا أمام فرائض شرعية متحققة، فعندما نقول الإعداد فرض عين، والجهاد فرض عين، فهو على صريح معناه؛ بمعنى إثم من لا يقوم بالفريضة ويبذل الوسع والطاقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
نصيحة شرعية ومنطقية لأنفسنا وإخواننا؛ بأن يفهموا منطق التاريخ، وسير الأنبياء وسيرة نبينا المصطفى عليهم أفضل الصلاة والسلام، وصحبهم الكرام، وأتباعهم من سلفنا الصالح رحمهم الله... وبهذا يدركون سنن الله تعالى في الإستخلاف.
فإغتيال رؤوس الكفر وقطع دابرهم يكون بالعمل لا بالأحلام، وأستخراج الأسرى من سجون الأمريكان والإنكليز وكفار حكام العرب والعجم، هو من كرامات العاملين، وليس من أحلام النائمين... ناهيك عن أن يكون ببيانات الكتاب والخطباء والمؤلفين.
وإن الأقصى اليوم يستصرخ العاملين والبائعين لله أروحهم ودماءهم، وليس بحاجة إلى كثرة بشائر المؤولين، وفعلا كما قال الشاعر:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وإن كانت نصيحتنا لإخواننا المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين عامة، فهي أخص لمن كانوا رؤوساً يتبعون، بأن يعيشوا الواقع وطلباته، والأهداف وسائلها، مع التوكل على الله عز وجل والإستئناس بما كان من وحي البشائر.
فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
عن مجلة؛ قضايا الظاهرين على الحق
العدد؛ 2، ذو الحجة/1421 هـ
إبتداء أقول:
إن من عقيدتنا الأخذ بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الرؤى جزء من عالم الوحي، وأنها من علامات آخر الزمان الذي أظلنا حيث توشك رؤيا المؤمن أن لا تخطىء، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا والرؤيا جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة)( )، مع علمنا بورود الآثار بإهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام بالرؤى والتأويل، وتأويله صلى الله عليه وسلم، وتأويل الصحابة رضوان الله عليهم بين يديه، ثم اشتهار بعضهم وبعض السلف بالتأويل... إلى آخر ما هو معروف ومعتقد لدينا، ولله الحمد.
ولكن لفت نظري وأنا أعيش في منزل فيه مكتبة متوسطة الحجم نسبياً، نظراً لقلة المكتبات والكتب في ظروفنا الحالية، لفت نظري؛ أن يكون كتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للشيخ النابلسي رحمه الله، وملحقه المنسوبة إلى الإمام ابن سيرين رحمه الله، أكثر الكتب تداولاً وإستعمالاً! رغم أن المكتبة تتوفر فيها - ولله الحمد - عدد كبير من كتب العلم الشرعي بأنواعها، والعلوم السياسية والعسكرية والحركية والأمنية، وغير ذلك من الكتب، التي تعاني من تصلب مفاصلها لقلة متناويلها، ولو نطقت لنادت لهفةً وغيرةً من طول عناق الأخوة لذلك المجلد المحظوظ: (يا عبد الله أما لنا فيك نصيب)؟!
حتى لقد خرج هذا الكتاب الموقر من رفوف المكتبة، وصار جليسنا في صالة الجلوس والطعام، على مر الساعات ومدار الليل والنهار، بحيث صار "أحد أفراد المنزل"، تجده فوق الفرش وبجانب الوسائد أحياناً، وقرب سفرة الطعام، وعلى جلسات الشاي.
هذا في حال لم يشهد الجلسة بعض المؤولين "غير المرخصين" أو "غير المأذونين"، وهذا نادر على كل حال! حيث يريحون صفحات الكتاب المسكين، التي بدأت تعاني من إقتراب مفارقتها لجلد المجلدن لكثرة التداول والبحث والدراسة.
فهل ترى نحن أمام رؤى وأحلام؟ أما أمام خيالات وآمال وأوهام؟ وهل نحن أمام مؤولين على هدي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونور البصيرة المؤمنة؟ أم أمام بعض الهواة "العابثين بالوحي"؟
كما قال الإمام مالك رحمه الله عندما سمع أن بعض الناس تأول من غير علمٍ وأهلية، فقال رحمه الله: (سبحان الله ما ظننت أن يعبث بالوحي!)، متأولاً الحديث الآنف الذكر.
فما القصة؟ ولماذا في أوساط الإعداد والجهاد والمجاهدين؟
وأحب أن أسجل على هذه الظاهرة الطريفة عدة ملاحظات:
أولاً:
أني أعتقد - كما مازحت بعض الإخوة عدة مرات - أن أكثر أصحاب المنامات - وأقول منامات حتى نفرق بينها وبين رؤى الحق - يرونها من قبيل العمل في الليل، لقلة العمل والإنتاج في النهار!
ثانياً:
يلاحظ أن أغلب الرؤى منصرفة من بعض الإخوة لمن تعلق قلبه بحبهم، وتعلقت آماله بهم سواءً كان فرداً أو جماعة.
كما ذكر بعض الإخوة؛ كثرة "منامات" المجاهدين العرب أيام الجهاد الأفغاني في "سياف"، وكيف أنه الخليفة القادم! وكيف أنه سيدخل المسجد الأقصى بالمجاهدين العرب والأفغان والرايات السود!
في حين توزعت بعض "المنامات" على باقي قادة الجهاد الأفغاني كلاً بحسب "فتى أحلامه"، فهذا يطير بلا محركات! وثاني يقدم على حصان أبلق بثوب أخضر! وثالث يضع في جيبه الشيكات فيتسع لكل ما وضع فيه رغم صغر الجيب... إلى آخر قصص العرض المتواصل ليلياً!
وكما كانت في الماضي تتكرر القصة اليوم، فقد "تعددت المنامات، والوهم واحدُ".
ثالثا:
يلاحظ أن معظم المنامات متعلق موضوعها برغبات الخلاص والفرج مما يعانيه الرائي من معاناة، فكم قتل رئيس دولة في المنامات! وكم فتحت بلاد وسقطت حصون! وكم حرر من أسرى! وكم أقتص فيه من جلاد ظالم! وكم أطلق فيه من سجين... إلخ.
في حين تتعلق رؤى بعض العزاب بزواج قريب، وبعض المتأهلين في تعدد الزوجات، وبعض أصحاب الحاجات بصرّة مال تسقط من فتحة المدفأة... وهكذا، كلً بحسب حديث نفسه وآماله الصعبة التحقق نهاراً ويقظة، فيحققها عبر فيلم ممتع دون تكلف ثمن التذكرة.
رابعا:
يلاحظ أن أكثر منامات هذا الوقت؛ منصرفة إلى علامات الساعة وآخر الزمان وما يجري فيه، وعلى اعتبار أننا في أفغانستان؛ حيث تخرج الرايات السود، وحيث مظنة قرب خروج المهدي، فإن نسبة كبيرة من تلك الرؤى متعلق بهذا الموضوع.
ونظراً إلى أن بعض المنامات لا تأتي أحياناً على حسب المقاس من الرغبات، عندها يتولى المؤول الهاوي إعادتها إلى هذا الموضوع.
وما أكثر ما سمعت من تأويلات عجيبة، أذكر أن إحداها كانت عبارة عن سيارة واقفة في باب معسكر، فسأل المؤول صاحب المنام: (ما لون غطائها؟)، قال: (أسود)، قال: (كيف كانت تقف؟)، فأتفق أنها على شكل الباب المتجه قدراً للغرب، فقال المؤول: (هي الرايات السود تخرج من المشرق)! وبالطبع كبر بعض الحاضرين!
وباعتبار أن الأمة تعيش الأيام السود، فلا غرابة أن تكون كل الرؤى بانتظار الرايات السود!
وما أكثر التفاصيل طبعاً؛ فمع التهديدات الأمريكية؛ تكثر الرؤى عن النوازل والضيق والحصار، ومع المواقف الطيبة لبعض المجاهدين ورؤوسهم؛ ترتفع معنويات المنامات... وهكذا.
الظاهرة الطريفة ضمن هذا الموضوع؛ أن بعض الرؤى المحلية لم تعد تكفي للاستمتاع بما يمكن أن يخبئه لنا عالم الغيب مما لم نحققه في عالم الشهادة، فظهرت ظاهرة الرؤى المستوردة، ولا سيما من الجزيرة - ومن بعض أوساط الصحوة الإسلامية في الخارج -
فإذا كان السبب - حسب رأي البعض - هو كثرة المنامات ليلاً وقلة العمل نهاراًَ، فلا عجب إذن أن ترتفع نسبتها هناك، وفي بعض بلاد المهجر؛ حيث الاحتلال الصليبي والكفر الحكومي والظلم والقهر في السجون، وعلى اعتبار أننا ولله الحمد من قبل المشرق فمن الطبيعي أن تتجه آمال وأحلام أهل المغرب إلينا هنا... وهكذا.
إلى هذا الحد والظاهرة طبيعية، مفسرة ضمن المفهوم الشرعي للرؤى والأحلام - كما قال العلماء - إما رؤيا حق من الله تعالى، وإما حديث نفسٍ من رغبات الرائي، وإما رؤى شيطانية - والعياذ بالله - وبناءً على هذا يمكن فهم كثير من الرؤى، والمنامات هنا تحت البند الثاني، والله أعلم.
إلا أن الغريب والذي يدفع للتنبيه على عدة أمور، هي ما يلي:
1) أن كثيرا من هذه الرؤى بدأت تدفع أصحابها إلى الخمول والإتكال، وإنتظار الفرج من تحقق منامات المشاهدين، وتأويلات هواة المؤولين حسب نظام ما يطلبه النائمون.
2) إن البعض - وبينهم بعض الكبار والعاقلين - بدأ يميل لرسم خططه وتصرفاته بحسب تلك المنامات.
3) إن البعض يريد إسقاط الرؤى والمنامات المتعلقة بأحداث وأشخاص أبناء الملاحم والفتن على بعض الناس - مثل المهدي وغيره - بحيث تتداول الآن روايات عن احتمال أكثر من مهدي في أكثر من مكان.
4) المستوى الأغرب؛ هو رغبة بعض أصحاب المنامات، وطلبهم من الجمهور تصديق وإعتقاد فحوى آراء المؤولين، وهكذا مطالب بتصديق أحداث منام لم نشهده، وأوهام لسنا نحن الحالمين بها!
والذي أريد أن أذكر به إخواني، وأنصحه في ختام هذه المقالة الحالمة، ما يلي:
1) قراءة فهم السلف لقضية الرؤى والأحلام وأنواعها ومواصفات الرؤى الصحيحة، والتفريق بينها وبين حديث النفس... ناهيك عن رؤى الشياطين التي ليس بالضرورة أن تكون من قبيل الكوابيس المفزعة، وإنما قد يلقي الشيطان أوهاماً ونزغات ومفاهيم وإفتراضات، تجعل الرائي يتحرك في وحي فحواها، أو يتخذ بسببها بالإيماء النفسي موقفاً من أحد أو من قضية، أو حتى يجعله الشيطان - إن كان من هواة التخطيط للمستقبل في ضوء الرؤى والأحلام - يتوجه توجهاً غير صحيح، مما قد يُحدث له، أو لمن حوله؛ كوابيس مفزعة، ولكن في عالم الواقع والحقيقة.
2) نصيحة إلى بعض هواة المؤولين الذين يستجرهم الشيطان من جهة، وإستدراجات الحالمين من جهة أخرى؛ إلى التشدق بما لا يعلمون، لا سيما وأن الرؤى جزء من عالم الوحي - كما قدمنا - وهو أمر مقدس يجب الحيطة معه.
وقد مر معنا غضب الإمام مالك بن أنس رحمه الله، وقوله لمثل هذه الظاهرة: (سبحان الله ما ظننت أن يعبث بالوحي!).
ومن نفس المنطلق؛ ننصح الإخوة أصحاب الرؤى والمنامات أن لا يقصدوا إلا الثقة المشهود لهم بالتأويل، علماً أن من أوصافها - كما هو مذكور في بعض الكتب ذات العلاقة -؛ معرفة القرآن والسنة وحفظ قسط كبير منها، والإطلاع على علوم التأويل، وحسن الدين والتقوى والخشوع وصدق اللسان والكسب الحلال وسلامة الصدر وكثرة التنسك والعبادة... إلى آخر ما ورد من الأوصاف المعهودة لمن شهد لهم بالتأويل.
وألا يستدرجوا غير المؤهلين، لأنهم سوف يضحكون عليهم، ويكسبون الوزر والإثم مقابل ذلك، والله أعلم.
3) أن الأصل في الرؤى المبشرة؛ هو الإستئناس والبشرى من باب الأمل والأنس، وأما تحقق حصولها؛ فهو بعد الحصول، أو ما دلت عليه الوقائع، ولا يجب التعامل معها - لا سيما حينما تنبئ عن وقوع أشياء - على سبيل الجزم، فضلا عن التخطيط على أساسها.
4) يجب أن نتعامل مع الواقع والمستقبل في ضوء التكاليف الشرعية، وخاصة فيما يتعلق بوجوب الإعداد في سبيل الله، ووجوب دفع الصائل عن بلادنا وعن المسلمين، مثل قتال الكفار والمرتدين والمحاربين لدين الله، مع كل ما يقتضيه الواجب الشرعي من الجد وعدم الركون - بسبب الأحلام والأماني - إلى الكسل والدعة والتواكل المذموم، بدعوى التوكل.
5) أن ما يتعلق بأحداث الملاحم والفتن وعلامات الساعة - ولاسيما الأحداث الكبرى مثل خروج الرايات السود والمهدي والدجال ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، والأحداث الأخرى من قبيل ما ذكر مجملاً في إفتتاحية هذا العدد "مثلث البشائر" -:
يجب أن نتعامل معه من منظور الدليل الشرعي وما ثبت منه، والإستئناس لضعيفه من خلال أصحاب الفهم في ترتيبه وحيثياته، وما يعضده من روايات آخرى.
يجب أن نتعامل معه من منظور الفهم الصحيح للواقع، ولاسيما وأن هذه الأحداث المعينة - إن صح ورودها - ليست قضية يوم وليلة، والله أعلم، بل في ثناياها ما يدل على حصول أحداث تقتضي مجموعها - منطقاً وعقلاً - سنوات كثيرة، الله أعلم بطولها ووقت شروعها، ولا سيما أن بدايتها هي مقدمة قيام الساعة.
أن هذه النبوءات والبشائر؛ لا تلغي الفرائض الشرعية من العمل والجهاد والإعداد ولوازم ذلك وتوابعه، من السعي في طلب علوم الشريعة وعلوم السياسة والواقع والعلوم العسكرية والمادية اللازمة للاستخلاف في الأرض، وللجهاد في سبيل الله، فلا يجوز النظر إليها من منظور القعدة المعتزلين.
بل على العكس فإن هذه الأحداث - ولا سيما إنبعاث الرايات السود والمهدي ومن يصحب أهل الحق والظاهرين عليه في أخر الزمان - يقتضي من أحدنا العمل على إعداد نفسه، كي يتأهل لأن يكون في مستوى المستأهل لأن يكون في العاملين في ذاك الزمان.
أننا أمام فرائض شرعية متحققة، فعندما نقول الإعداد فرض عين، والجهاد فرض عين، فهو على صريح معناه؛ بمعنى إثم من لا يقوم بالفريضة ويبذل الوسع والطاقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
نصيحة شرعية ومنطقية لأنفسنا وإخواننا؛ بأن يفهموا منطق التاريخ، وسير الأنبياء وسيرة نبينا المصطفى عليهم أفضل الصلاة والسلام، وصحبهم الكرام، وأتباعهم من سلفنا الصالح رحمهم الله... وبهذا يدركون سنن الله تعالى في الإستخلاف.
فإغتيال رؤوس الكفر وقطع دابرهم يكون بالعمل لا بالأحلام، وأستخراج الأسرى من سجون الأمريكان والإنكليز وكفار حكام العرب والعجم، هو من كرامات العاملين، وليس من أحلام النائمين... ناهيك عن أن يكون ببيانات الكتاب والخطباء والمؤلفين.
وإن الأقصى اليوم يستصرخ العاملين والبائعين لله أروحهم ودماءهم، وليس بحاجة إلى كثرة بشائر المؤولين، وفعلا كما قال الشاعر:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
وإن كانت نصيحتنا لإخواننا المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين عامة، فهي أخص لمن كانوا رؤوساً يتبعون، بأن يعيشوا الواقع وطلباته، والأهداف وسائلها، مع التوكل على الله عز وجل والإستئناس بما كان من وحي البشائر.
فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
عن مجلة؛ قضايا الظاهرين على الحق
العدد؛ 2، ذو الحجة/1421 هـ