سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد...
"روى أهل السير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش، وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين.
وكان رسول الله كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم)، فقال: (سمعاً وطاعة)، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فمضوا كلهم.
فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيياً وأدماً وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة.
فتشاور المسلمون وقالوا: (نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم)، ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام.
وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: (قد أحل محمد الشهر الحرام)، واشتد على المسلمين ذلك حتى أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... الآية}" [1].
دور المهاجرين:
المتفحص في طبيعة السرايا في مهد الدولة الإسلامية يجد أن أكثر عبئها وقع على كاهل المهاجرين، إن لم يكن كله، ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسند هذه المهمة ابتداءً للمهاجرين لسياسة حكيمة ومصلحة عظيمة.
ولعل من تلك الحكم؛ أن الأنصار حينما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة قالوا: (يارسول الله إنَّا برآؤا من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وهذا الذي جعله يكرر في غزوة بدر قوله: (أشيروا عليَّ أيها الناس)، يريد بذلك الأنصار [2].
ولعل من تلك الحكم أيضاً أن قضية القتال مع قريش - خصوصاً - كانت تمس المهاجرين مساساً مباشراً، وكان الغيظ على كفار قريش يعتمل في صدورهم، فهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم أشد الإيذاء، فكان من الحكمة أن يتصدر هذه القضية أهلها الذين تهيأت في نفوسهم مفاتيح الصراع، وقد أشار القرآن إلى ذلك فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... الآية}.
ولذلك قالت بنو إسرائيل لما سألهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}.
فمن أعظم مفاتيح الصراع التي تهيج إرادة القتال؛ هو الظلم الواقع على الإنسان، فينبغي لطالب الظفر أن يستعمله في حربه، وأن يحسن استغلاله.
ولهذا نجد أعداءنا يحاولون أن يعزلوا الأمة عن كل قضية تلهب صدورها، ويجتهدون في أن يوهموا الأمة أن قضية العداوة محصورة بينهم وبين طائفة يسيرة من الأمة - كالقاعدة والطالبان - وتلك دسيسة ينبغي التنبه لها وفضحها ونشر ما يضادها.
ولعل من الحكم في الاعتماد على المهاجرين في تلك المرحلة؛ تحريض الأنصار على الجهاد، وإثبات المصداقية في التفاني من أجل هذا الدين، فإن النفس البشرية يعتريها من الهواجس والخواطر ما يؤثر فيها تأثيراً سلبياً بالغاً، فإن المدينة مدينة الأنصار، والمهاجرون نزلوا في جوارهم، وقضية القتال مع قريش – خاصة - أكثر مساساً بالمهاجرين والنفوس.
في مثل تلك الأحوال قد لا تتحمس لاستيفاء حقوق الأقوام الآخرين، وتضن بدمائها أن تهدر في سبيلهم، وربما يؤدي تقديم الأنصار في مثل تلك الأحوال إلى إيقاع الشكوك في نوايا المهاجرين، ويؤدي إلى زعزعة الثقة بهم مع ما يثيره المنافقون في هذا المضمار من الشبهات، وكون إسلام الأنصار حديثاً، فكان من الحكمة أن يتقدم المهاجرون ليزيلوا تلك الهواجس من الصدور ويقطعوا دابرها، وليوقدوا جذوة الجهاد في قلوب الأنصار شيئاً فشيئاً حتى تصير القضية قضيتهم، وحتى تصبح القضية قضية الدين، لا قضية المهاجرين فحسب.
السِّرِّية في العمل:
يستفاد من كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لعبد الله بن جحش رضي الله عنه وأمره له ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ يستفاد منه العمل بمبدأ السرية والاحتياط.
إن السرية من أنجح الأساليب في حسم نتائج الحروب، وكم من كتوم فيما يروم حالفه النجاح، وكم من متهاون في كتم الأسرار آب بالخيبة والبوار.
وليس الأخذ بسلاح السِّرِّية ضربا من الجبن والوهن كما يتوهم بعض من قصر باعه في التجارب، بل هو عين الحكمة والقوة، وأحد الأساليب الداخلة تحت باب الخدعة وحسن التدبير.
ولم يزل الموفقون يستعملونه في إنجاح مساعيهم، كما أخبر سبحانه عن موسى وابنتها في إخفاء موسى عليه السلام، وكما ذكر سبحانه عن أصحاب الكهف تخفيهم، وأمرهم بذلك من بعثوه بقولهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، وغير ذلك مما يطفح به الكتاب والسنة.
حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) [3].
ولمزية السرية وأهميتها؛ تحفظ النبي صلى الله عليه وسلم واحتاط لأمره حتى أخفاه عن أميره المرسل في تلك المهمة، وفيه جواز أن يخفي الأمير غرضه على من دونه إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك [4].
دور القائد الناجح:
استطاع عبد الله بن جحش رضي الله عنه بجرأته وإقدامه وحبه للشهادة؛ أن يلهب همم أصحابه، ويشحذ عزائمهم حتى تابعوه على عقدة رأيه.
إن أمير الجنود هو لب الجيش وأساسه، وقوة الأمير هي قوة للجيش، وضعف الأمير ضعف للجيش، ولذلك "يقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر" [5].
وقد قيل: ألف ثعلب يقودها أسد، خير من ألف أسد يقودها ثعلب!
والأمير الناجح هو الذي يكون أكثر ما يكون ثباتاً وأملاً حين تتبلبل الأحوال، وتتزلزل الرجال، ويلقي الناس بأيديهم، فيبعث روح الأمل في قلوب جنوده، ويعدهم النصر، ويتفنن في إظهار المضاء وقوة الجلد.
التركيز على الدافع الذاتي:
ثمت فائدة تفهم من خلال هذه القصة وغيرها من قصص السيرة؛ وهي أن الأمير ينبغي له أن يجعل الإقدام على القتال منبثقاً من دافع ذاتي، دون أن يشعر المأمور بأي ضغوط خارجية تجبره على ما لا يرغب.
فإن النفس البشرية تبدع إبداعاً كبيراً في الأمر الذي ينبعث من دافع ذاتي، ويستمر عطاؤها في ذلك الأمر، على حين أن النفس يقل نتاجها إذا أحست بمؤثر الجبر والإكراه، وربما عصت ابتداءً وأعرضت، وغالباً ما تتخلى عن العمل المكلفة به إذا شعرت بغياب عصا الإجبار.
والملاحظ؛ أن التركيز على هذا العامل كان في أول الأمر كبيراً، فالدولة الإسلامية إذ ذاك كانت في مهدها وطراوة عودها، ففي مثل تلك الأحوال عند ضعف المسلمين وعدم تمكن سلطانهم؛ ينبغي للأمير أن يكون حكيماً في سياسة أتباعه، فلا يشعرهم أنهم مجبورون فيما يأمرهم به ولا يتهددهم ويتوعدهم بأنواع العقوبات حتى لا تعلن نفوسهم بالتفلت والعصيان وليس في الحقيقة ثمت سلطان.
والسلطان كالقميص للإنسان فلا يلبس قميصاً أكبر من حجمه حتى لا يتعثر بطرفه فينكب على وجهه، وينكسر أنفه، وتتعرقل مسيرته.
ولا نعني بما نقول؛ أن المسلم لا يطيع أميره إلا فيما يجب، فهذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين الذين يطيعون في المنشط والمكره، بل مقصدنا أن يكون تركيز الأمير على إشعال المحرك الذاتي كبيراً ليضمن جودة العطاء واستمراره.
ويستطيع الأمير بأساليب كثيرة أن يحرك نفوس أصحابه إلى العمل، وأفضل هذه الأساليب القدوة الحسنة، بأن يتصدر الأمير بنفسه ما يأمر به.
نفاسة المسلم:
بعد أسر رجلين من قريش في تلك السرية بعثت قريش في فدائهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نفديكموهما حتى يقدم صاحباي - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإني أخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم)، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [6].
في هذا دلالة على جواز أخذ الفداء من الأسير الكافر - سواء كان الفداء مالاً أم غيره - كما تضافرت بذلك الأدلة.
وفيه؛ أن الحفاظ على المسلم أو استنقاذه مقدم على أخذ المال، فالمسلم لا يقدر بثمن، وسلامته مقدمة على كل مال.
وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم سبيلين لضمان سلامة صاحبيه سعد وعتبة:
السبيل الأول؛ الامتناع عن قبول الفداء حتى يقدما.
السبيل الثاني؛ التهديد بقتل الأسيرين إذا مسهما المكروه.
فيجب على المسلمين أن يبذلوا كل سبيل مشروع لضمان سلامة المسلمين، واستنقاذ أسراهم، فالمسلم لا يجوز أن يُسَلَّم بأي حال إلى الكفار ليعبثوا به بأنواع الأذى وألوان الفتنة، حتى لو أن مسلماً أخطأ في حق كافر - كما لو قتل كافراً ذمياً - فلا يقتص منه لأنه لا يقتل مسلم بكافر، لأن الكافر لا يكافئ المسلم، فهم كالأنعام بل هم أضل.
فتخلية الكافر ليبطش بمسلم لأنه أخطأ في حقه - جدلاً - جريمة فظيعة، أما إذا صدرت فتاوى بشرعية ذلك البطش ووجوب تسليم المسلمين للعدالة الدولية - زعموا - فتلك موالاة للكافرين صريحة، وتلك - والله - هي الفضيحة!
رجاء المؤمنين:
قال ابن إسحاق: (فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن؛ طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فوصفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء) [7].
لقد أسبغ الله عز وجل على تلك السرية وصف الإيمان والهجرة والجهاد، ورجَّاهم الله برحمته على رغم الهفوة التي جنوها، ففي هذا دلالة واضحة على أن المجاهد الذي عرف صدقه ونصيحته، وبذله لدين الله عز وجل يستحق وصف الجهاد وإن بدر منه بعض العثرات التي قد تصدر أحياناً عن حسن نية، ولا يسلب عنه ذلك الوصف ما دام يسدد ويقارب، ولا يُقَنَّط من رحمة الله بل يُرجَّى، فقد يكبو الجواد فيبقى جواداً، وقد ينبو السيف فيبقى اسمه سيفاً.
فما أظلم من يغض الطرف عن حسنات المجاهدين وعظيم بلائهم، وينبزهم بأشنع الألقاب، ولا ينتهي خطله إلى هذا الحد، بل يحكم ببطلان أعمالهم وبخسار سعيهم، وبأن دماءهم ذهبت هباءً منثوراً، بل إن بعضهم يفوه بأشنع من هذا فيحكم على من يقوم بالعمليات الاستشهادية - والتي هي من أرفع مراتب التضحية والجهاد - يحكم بأن فعلهم انتحار وبأنهم من أصحاب النار، فما لكم كيف تحكمون؟! وتظلمون ولا تعدلون وتقنِّطون ولا ترجُّون! فلا هم يجاهدون ولا يريدون من أحد أن يجاهد، فجمعوا بين وصف القعود والتخذيل، وعند الله تجتمع الخصوم.
العدل في الأحكام:
تضمنت هذه السرية وما نزل فيها من آيات؛ موازين جليلة في كيفية التعامل مع الخطأ، إذ أن الإنسان بطبعه خطاء، فإذا جهل الإنسان كيفية علاج خطأ ما فسيرتكب خطأ آخر ربما يكون أشنع من خطأ الأول، فيكون كمن أراد أن يكحل عينه فأعماها، وزاد الطين بلة!
وقبل أن نستجلي بعض تلك الموازين لابد أن نشير إلى الخطأ الذي أصابته تلك السرية، ثم نبين موقف الناس منه على اختلاف فئاتهم، ثم نذكر حكم الله عز وجل وفصله في تلك الواقعة.
الخطأ؛ كان في قتال الكفار في الأشهر الحرم، وكان القتال محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم فجاز القتال في كل الشهور، كما هو مذهب جماهير العلماء، وهو الصحيح [8].
وقد اختلف الناس في موقفهم من هذا الخطأ من حيث الصيغة والدافع؛
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أنكر ما فعلوه وقال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام) [9]، وفي هذا تبرئة لنفسه الكريمة من أن يكون قد أمرهم بمنكر، وتوقف في أخذ ما نتج عن هذا المنكر حتى يوحى إليه في شأنه، فوقف العير والأسيرين وأبى يأخذ من ذلك شيئاً [10].
وأما المسلمون؛ فكانوا فريقين، فمن كان في المدينة فقد عنَّفَ السرية فيما صنعوا، وأما من كانوا في مكة فقد تأولوا لإخوانهم والتمسوا لهم عذراً، فردوا على المشركين طعنهم فقالوا: (إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان) [11].
وأما كفار قريش؛ فقالوا: (قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال) [12].
وثمت طرف أقحم نفسه في تلك القضية حقداً وشماتةً، وهم اليهود، فقالت - تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم -: (عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو؛ عمرت الحرب، والحضرمي؛ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله؛ وقدت الحرب).
وعموماً فقد كان موقف الناس؛ بين متأول وشامت ومنكر، ولكن شتان بين إنكار المسلمين وإنكار الكافرين، فإنكار المسلمين كان بدافع الغضب لدين الله مع وجود روابط الإخوة والشفقة، على حين أن إنكار الكافرين كان منشؤه العداوة والغيظ والحقد، وبدافع الشماتة وتصيد الأخطاء، وإلا فكفار قريش أولى بالإنكار الشنيع لأنهم يرتكبون ما أنكروه بل أشد وأفظع.
فلذلك أنزل الله سبحانه وتعالى القول الفصل العدل في هذه القضية فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ... الآية}.
"يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيراً فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصد عن سبيله، وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به، أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام" [13].
إن العدو من عادته أن يختلق منكرات ليلصقها بأهل الإسلام، ويذيعها ليشوه صورة الإسلام المشرقة، فكيف إذا وقع على هفوة حقيقية، ولو كانت حبة خردل؟! فلا تسأل حينئذ عن فرحه وشماتته، ونشره وإذاعته بصورة تربو على حجمه الحقيقي أضعافاً مضاعفة.
واقتراف مثل تلك الشنائع ليس من الكافرين بمستغرب، فليس بعد الكفر ذنب، ولكن الذي لا ينقضي منه العجب أن ينحو بعض من ينسب إلى الإسلام بل إلى العلم نحوهم! ويرضى لنفسه أن يكون صدى لأبواقهم المنكرة، ويسبغ على تلك الجرائم الشنيعة أثواب العلم والشريعة فتكون نكايته بأهل الإسلام أشد.
فلا ريب أن هذا الذي صنعوه من أقبح القبائح، أن يكونوا سنداً للكافرين على إخوانهم المسلمين، على فرض أنهم أخطأوا فكيف إذا كانوا محقين ومع القرآن دائرين؟!
ولاشك أن أولئك الذين أساؤوا وما أحسنوا يفتقدون إلى أبسط قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كانوا لا يعلمون فليمسكوا حتى يعلموا، وإن كان يعلمون فإن لا نجد لهم من الشرع معولاً يعولون عليه، ولا مستنداً يستندون إليه، فما أعمى بصائرهم إلا غياهب الشهوات، وحطام الدنيا، ولولا وضوح ما هم عليه من الباطل لأسهبنا في هتك أستارهم، وكشف عوارهم، فالله حسيبهم.
ومما سبق يمكننا أن نستخلص طائفة من الدروس والعبر:
فمن ذلك أن أهل الجهاد كغيرهم من البشر قد يقعون في هفوات لأنهم غير معصومين، وليس من شرط المجاهد أو المتقي ألا يخطئ، كما وصف الله سبحانه وتعالى المتقين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
فهذه الآية بينت أنه ليس من شرط المتقي ألا يخطئ، ولكن من شرطه إذا فعل الخطأ أن يتوب منه، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
ومن الدروس المستفادة؛ أن المسلم إذا لم يعلم حكم الله في واقعة فعليه أن يتوقف حتى يعلم حكمها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق؛ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين [14].
ومما يستفاد؛ أن إنكار المسلمين على المسلمين يكون منشؤه الغضب لدين الله عز وجل مع بقاء روابط الإخوة، على حين أن إنكار الكافرين يكون منبعثاً من نار الحقد والشماتة.
ومن تأوُّلِ المسلمين في مكة لإخوانهم؛ نخرج بأن المسلم يتأول لأخيه المسلم إن أخطأ، ويلتمس له عذراً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
كما قال بعض السلف: (التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل؛ لعل لأخي عذراً لا أعلمه)، أو كما قال!
ويتأكد ذلك عند بُعد الناقد عن ملابسات ما وصف بكونه خطأ، وعند انعدام الثقة بناقل الخبر، وقد أمرنا الله عز وجل بالتثبت من خبر الناقل الفاسق فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، فكيف إذا كان الناقل كافراً يتوقد قلبه غيظاً على المسلمين؟!
وإننا لنأسف غاية الأسف حين نرى بعض المسلمين يستقي معلوماته التي تمس الإسلام عامة والجهاد - خاصة - من أفواه الكافرين وإذاعاتهم - ومنها إذاعات الدول المنتسبة إلى الإسلام - فيتلقفها مسلَّمة دون نقاش، ويرتب على ذلك أحكاماً جائرة، فالله يحكم بين عباده في الآخرة.
وعلم من موقف اليهود؛ أن الكفرة يتصيدون أخطاء المسلمين، حتى لو لم تكن القضية تمسهم، وذلك شماتة منهم وحسداً.
ومن أعظم ما يستحق أن يكتب بماء الذهب؛ ذلك الميزان العادل الذي وضعه الله عز وجل للحكم على أهل الخطأ الذين انغمر خطؤهم في بحر حسناتهم، والحكم على من أحاطت بهم سيئاتهم، فشتان ما بين الفريقين، {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}.
والمقصود؛ أن الله سبحانه وتعالى حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر، وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لاسيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما عند الله لهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيعِ
فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟! [15].
وللشعر دور:
قال ابن إسحاق: (فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش جواباً للمشركين فيما قال من إحلال الشهر الحرام، قال ابن هشام هي لعبد الله بن جحش:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشدُ
صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راءٍ وشاهدُ
وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجدُ
فإنَّا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقدُ
دماً وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القيد عاندُ)
اعلم؛ أن الجهاد باللسان واجب.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم).
ومن الجهاد باللسان قول الشعر.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان: (اهج المشركين).
وروى البخاري ومسلم وأحمد؛ أن كعباً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال: (المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل).
وعن عمار قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجاء المشركين، فقال: (اهجوهم كما يهجونكم).
فإن قال قائل: ما يغني الشعر في هذا الزمان مع انصراف الناس عن الاهتمام به، وكون أعدائنا لا يفقهونه؟!
فالجواب: أن الشعر تتحقق به مقاصد كثيرة، ومن هذه المقاصد؛ أن يؤدي المسلم ما عليه من جهاد واجب فإنه يجب الجهاد باللسان - كما قدمنا - ومنها؛ أن الشعر لا ينكر تأثيره في العدو.
والقول؛ بأنهم لا يفقهونه، غير مسلم به، لأن أعداءنا يهتمون بما نحاربهم به ونقوله فيهم ربما أكثر من بعض المسلمين، ولقد نُبئنا؛ أن بعض الكفرة يصيبه الرعب والفرق وهو يصغي إلى الأناشيد الإسلامية المصاحبة للعمليات الجهادية المصورة، ويعلم من نبرتها وشديد جرسها أنها تنذر بالحتوف وتحاكي أنغامها ضربات السيوف، وهذا من غير ترجمة فكيف إذا ترجمت له؟!
ويكفي أن يعلم العدو؛ أن طائفة من الأمة توجه سهامها إلى نحوره، فلا أقل من أن تجرحه في شعوره.
ومن مقاصد الشعر؛ الدفاع عن الإسلام والمسلمين وتحريض الأمة على الجهاد، وهو من فروع قوله تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقد لمسنا أثره في نفوس الشباب المنهمر على ساحات الجهاد.
ويبقى الشعر قلماً من أقلام تدوين التاريخ، وتخليد ذكرى المجد والماجدين.
ويظل الشعراء طبقة من طبقات الأمة المشرفة، لابد أن يضربوا بسهم في خندق الدفاع عن الإسلام، وكم يشعر العدو بالغيظ عندما يرى الشعراء يتبارون في نصرة الإسلام، فهم المعبرون عن شعور الأمة.
لذلك فنحن ندعو كل شاعر من أهل الإسلام أن يجيش شعره للدفاع عن الإسلام والتحريض على الجهاد وهجاء الأعداء، ويحتسب في ذلك كله، ومن فاته الجهاد بالسنان فلا يفوتنه الجهاد باللسان.
وأهتبل الفرصة هنا لأنبه إخواننا الذين يعانون صناعة الأناشيد الإسلامية - وهي عبارة عن شعر ملحَّن منغَّم - على أن يختاروا الشعر الذي غزرت فائدته ومعناه، ووضح لفظه ومبناه، وقوي جرسه ونبرته، وألهب لحنه ونغمته، مما يهيج نفوس المسلمين، ويوهن قلوب الكافرين، بأنغام الرجولة والفحولة، وليجتنبوا ضد ما ذكرناه، خصوصاً تلك الأنغام الرقيقة الناعمة التي يكون إلحاقها بأنغام النساء أولى من إلحاقها بأنغام الرجال، ولتكن أنغامنا متميزة كما هي أعمالنا.
والحمد لله رب العالمين
بقلم الشيخ؛ منصور الشامي
مجلة طلائع خراسان
العدد الثامن
ذو الحجة/1427 هـ
[1] زاد المعاد: ص354 ، دار الكتب العلمية.
[2] البداية والنهاية: 3/274، دار الكتب العلمية.
[3] صحيح الجامع: 973.
[4] انظر شرح السير الكبير: 1/116، والعمدة في إعداد العدة: 345.
[5] مجموع الفتاوى: 14/409.
[6] البداية والنهاية: 3/262.
[7] البداية والنهاية: 3/262، وفي ابن هشام عبارة: (فوضعهم الله من ذلك)، بدل قوله: (فوصفهم الله من ذلك).
[8] انظر تفسير الطبري والقرطبي لقوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... الآية}.
[9] البداية والنهاية: 3/261.
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
[13] زاد المعاد: 1/478، تحقيق عبد الرزاق المهدي.
[14] البداية والنهاية: 3/262.
[15] زاد المعاد: 1/478، تحقيق عبد الرزاق المه[/color]دي.[/b]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد...
"روى أهل السير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش، وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين.
وكان رسول الله كتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولما فتح الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم)، فقال: (سمعاً وطاعة)، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فمضوا كلهم.
فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيياً وأدماً وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة.
فتشاور المسلمون وقالوا: (نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم)، ثم أجمعوا على ملاقاتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام.
وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: (قد أحل محمد الشهر الحرام)، واشتد على المسلمين ذلك حتى أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... الآية}" [1].
دور المهاجرين:
المتفحص في طبيعة السرايا في مهد الدولة الإسلامية يجد أن أكثر عبئها وقع على كاهل المهاجرين، إن لم يكن كله، ولاشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أسند هذه المهمة ابتداءً للمهاجرين لسياسة حكيمة ومصلحة عظيمة.
ولعل من تلك الحكم؛ أن الأنصار حينما بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة قالوا: (يارسول الله إنَّا برآؤا من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وهذا الذي جعله يكرر في غزوة بدر قوله: (أشيروا عليَّ أيها الناس)، يريد بذلك الأنصار [2].
ولعل من تلك الحكم أيضاً أن قضية القتال مع قريش - خصوصاً - كانت تمس المهاجرين مساساً مباشراً، وكان الغيظ على كفار قريش يعتمل في صدورهم، فهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم أشد الإيذاء، فكان من الحكمة أن يتصدر هذه القضية أهلها الذين تهيأت في نفوسهم مفاتيح الصراع، وقد أشار القرآن إلى ذلك فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... الآية}.
ولذلك قالت بنو إسرائيل لما سألهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}.
فمن أعظم مفاتيح الصراع التي تهيج إرادة القتال؛ هو الظلم الواقع على الإنسان، فينبغي لطالب الظفر أن يستعمله في حربه، وأن يحسن استغلاله.
ولهذا نجد أعداءنا يحاولون أن يعزلوا الأمة عن كل قضية تلهب صدورها، ويجتهدون في أن يوهموا الأمة أن قضية العداوة محصورة بينهم وبين طائفة يسيرة من الأمة - كالقاعدة والطالبان - وتلك دسيسة ينبغي التنبه لها وفضحها ونشر ما يضادها.
ولعل من الحكم في الاعتماد على المهاجرين في تلك المرحلة؛ تحريض الأنصار على الجهاد، وإثبات المصداقية في التفاني من أجل هذا الدين، فإن النفس البشرية يعتريها من الهواجس والخواطر ما يؤثر فيها تأثيراً سلبياً بالغاً، فإن المدينة مدينة الأنصار، والمهاجرون نزلوا في جوارهم، وقضية القتال مع قريش – خاصة - أكثر مساساً بالمهاجرين والنفوس.
في مثل تلك الأحوال قد لا تتحمس لاستيفاء حقوق الأقوام الآخرين، وتضن بدمائها أن تهدر في سبيلهم، وربما يؤدي تقديم الأنصار في مثل تلك الأحوال إلى إيقاع الشكوك في نوايا المهاجرين، ويؤدي إلى زعزعة الثقة بهم مع ما يثيره المنافقون في هذا المضمار من الشبهات، وكون إسلام الأنصار حديثاً، فكان من الحكمة أن يتقدم المهاجرون ليزيلوا تلك الهواجس من الصدور ويقطعوا دابرها، وليوقدوا جذوة الجهاد في قلوب الأنصار شيئاً فشيئاً حتى تصير القضية قضيتهم، وحتى تصبح القضية قضية الدين، لا قضية المهاجرين فحسب.
السِّرِّية في العمل:
يستفاد من كتابة النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لعبد الله بن جحش رضي الله عنه وأمره له ألا ينظر فيه حتى يسير يومين؛ يستفاد منه العمل بمبدأ السرية والاحتياط.
إن السرية من أنجح الأساليب في حسم نتائج الحروب، وكم من كتوم فيما يروم حالفه النجاح، وكم من متهاون في كتم الأسرار آب بالخيبة والبوار.
وليس الأخذ بسلاح السِّرِّية ضربا من الجبن والوهن كما يتوهم بعض من قصر باعه في التجارب، بل هو عين الحكمة والقوة، وأحد الأساليب الداخلة تحت باب الخدعة وحسن التدبير.
ولم يزل الموفقون يستعملونه في إنجاح مساعيهم، كما أخبر سبحانه عن موسى وابنتها في إخفاء موسى عليه السلام، وكما ذكر سبحانه عن أصحاب الكهف تخفيهم، وأمرهم بذلك من بعثوه بقولهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، وغير ذلك مما يطفح به الكتاب والسنة.
حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به فقال: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) [3].
ولمزية السرية وأهميتها؛ تحفظ النبي صلى الله عليه وسلم واحتاط لأمره حتى أخفاه عن أميره المرسل في تلك المهمة، وفيه جواز أن يخفي الأمير غرضه على من دونه إذا رأى المصلحة تقتضي ذلك [4].
دور القائد الناجح:
استطاع عبد الله بن جحش رضي الله عنه بجرأته وإقدامه وحبه للشهادة؛ أن يلهب همم أصحابه، ويشحذ عزائمهم حتى تابعوه على عقدة رأيه.
إن أمير الجنود هو لب الجيش وأساسه، وقوة الأمير هي قوة للجيش، وضعف الأمير ضعف للجيش، ولذلك "يقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أميناً، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر" [5].
وقد قيل: ألف ثعلب يقودها أسد، خير من ألف أسد يقودها ثعلب!
والأمير الناجح هو الذي يكون أكثر ما يكون ثباتاً وأملاً حين تتبلبل الأحوال، وتتزلزل الرجال، ويلقي الناس بأيديهم، فيبعث روح الأمل في قلوب جنوده، ويعدهم النصر، ويتفنن في إظهار المضاء وقوة الجلد.
التركيز على الدافع الذاتي:
ثمت فائدة تفهم من خلال هذه القصة وغيرها من قصص السيرة؛ وهي أن الأمير ينبغي له أن يجعل الإقدام على القتال منبثقاً من دافع ذاتي، دون أن يشعر المأمور بأي ضغوط خارجية تجبره على ما لا يرغب.
فإن النفس البشرية تبدع إبداعاً كبيراً في الأمر الذي ينبعث من دافع ذاتي، ويستمر عطاؤها في ذلك الأمر، على حين أن النفس يقل نتاجها إذا أحست بمؤثر الجبر والإكراه، وربما عصت ابتداءً وأعرضت، وغالباً ما تتخلى عن العمل المكلفة به إذا شعرت بغياب عصا الإجبار.
والملاحظ؛ أن التركيز على هذا العامل كان في أول الأمر كبيراً، فالدولة الإسلامية إذ ذاك كانت في مهدها وطراوة عودها، ففي مثل تلك الأحوال عند ضعف المسلمين وعدم تمكن سلطانهم؛ ينبغي للأمير أن يكون حكيماً في سياسة أتباعه، فلا يشعرهم أنهم مجبورون فيما يأمرهم به ولا يتهددهم ويتوعدهم بأنواع العقوبات حتى لا تعلن نفوسهم بالتفلت والعصيان وليس في الحقيقة ثمت سلطان.
والسلطان كالقميص للإنسان فلا يلبس قميصاً أكبر من حجمه حتى لا يتعثر بطرفه فينكب على وجهه، وينكسر أنفه، وتتعرقل مسيرته.
ولا نعني بما نقول؛ أن المسلم لا يطيع أميره إلا فيما يجب، فهذه صفة المنافقين لا صفة المؤمنين الذين يطيعون في المنشط والمكره، بل مقصدنا أن يكون تركيز الأمير على إشعال المحرك الذاتي كبيراً ليضمن جودة العطاء واستمراره.
ويستطيع الأمير بأساليب كثيرة أن يحرك نفوس أصحابه إلى العمل، وأفضل هذه الأساليب القدوة الحسنة، بأن يتصدر الأمير بنفسه ما يأمر به.
نفاسة المسلم:
بعد أسر رجلين من قريش في تلك السرية بعثت قريش في فدائهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نفديكموهما حتى يقدم صاحباي - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإني أخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم)، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [6].
في هذا دلالة على جواز أخذ الفداء من الأسير الكافر - سواء كان الفداء مالاً أم غيره - كما تضافرت بذلك الأدلة.
وفيه؛ أن الحفاظ على المسلم أو استنقاذه مقدم على أخذ المال، فالمسلم لا يقدر بثمن، وسلامته مقدمة على كل مال.
وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم سبيلين لضمان سلامة صاحبيه سعد وعتبة:
السبيل الأول؛ الامتناع عن قبول الفداء حتى يقدما.
السبيل الثاني؛ التهديد بقتل الأسيرين إذا مسهما المكروه.
فيجب على المسلمين أن يبذلوا كل سبيل مشروع لضمان سلامة المسلمين، واستنقاذ أسراهم، فالمسلم لا يجوز أن يُسَلَّم بأي حال إلى الكفار ليعبثوا به بأنواع الأذى وألوان الفتنة، حتى لو أن مسلماً أخطأ في حق كافر - كما لو قتل كافراً ذمياً - فلا يقتص منه لأنه لا يقتل مسلم بكافر، لأن الكافر لا يكافئ المسلم، فهم كالأنعام بل هم أضل.
فتخلية الكافر ليبطش بمسلم لأنه أخطأ في حقه - جدلاً - جريمة فظيعة، أما إذا صدرت فتاوى بشرعية ذلك البطش ووجوب تسليم المسلمين للعدالة الدولية - زعموا - فتلك موالاة للكافرين صريحة، وتلك - والله - هي الفضيحة!
رجاء المؤمنين:
قال ابن إسحاق: (فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن؛ طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فوصفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء) [7].
لقد أسبغ الله عز وجل على تلك السرية وصف الإيمان والهجرة والجهاد، ورجَّاهم الله برحمته على رغم الهفوة التي جنوها، ففي هذا دلالة واضحة على أن المجاهد الذي عرف صدقه ونصيحته، وبذله لدين الله عز وجل يستحق وصف الجهاد وإن بدر منه بعض العثرات التي قد تصدر أحياناً عن حسن نية، ولا يسلب عنه ذلك الوصف ما دام يسدد ويقارب، ولا يُقَنَّط من رحمة الله بل يُرجَّى، فقد يكبو الجواد فيبقى جواداً، وقد ينبو السيف فيبقى اسمه سيفاً.
فما أظلم من يغض الطرف عن حسنات المجاهدين وعظيم بلائهم، وينبزهم بأشنع الألقاب، ولا ينتهي خطله إلى هذا الحد، بل يحكم ببطلان أعمالهم وبخسار سعيهم، وبأن دماءهم ذهبت هباءً منثوراً، بل إن بعضهم يفوه بأشنع من هذا فيحكم على من يقوم بالعمليات الاستشهادية - والتي هي من أرفع مراتب التضحية والجهاد - يحكم بأن فعلهم انتحار وبأنهم من أصحاب النار، فما لكم كيف تحكمون؟! وتظلمون ولا تعدلون وتقنِّطون ولا ترجُّون! فلا هم يجاهدون ولا يريدون من أحد أن يجاهد، فجمعوا بين وصف القعود والتخذيل، وعند الله تجتمع الخصوم.
العدل في الأحكام:
تضمنت هذه السرية وما نزل فيها من آيات؛ موازين جليلة في كيفية التعامل مع الخطأ، إذ أن الإنسان بطبعه خطاء، فإذا جهل الإنسان كيفية علاج خطأ ما فسيرتكب خطأ آخر ربما يكون أشنع من خطأ الأول، فيكون كمن أراد أن يكحل عينه فأعماها، وزاد الطين بلة!
وقبل أن نستجلي بعض تلك الموازين لابد أن نشير إلى الخطأ الذي أصابته تلك السرية، ثم نبين موقف الناس منه على اختلاف فئاتهم، ثم نذكر حكم الله عز وجل وفصله في تلك الواقعة.
الخطأ؛ كان في قتال الكفار في الأشهر الحرم، وكان القتال محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم فجاز القتال في كل الشهور، كما هو مذهب جماهير العلماء، وهو الصحيح [8].
وقد اختلف الناس في موقفهم من هذا الخطأ من حيث الصيغة والدافع؛
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أنكر ما فعلوه وقال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام) [9]، وفي هذا تبرئة لنفسه الكريمة من أن يكون قد أمرهم بمنكر، وتوقف في أخذ ما نتج عن هذا المنكر حتى يوحى إليه في شأنه، فوقف العير والأسيرين وأبى يأخذ من ذلك شيئاً [10].
وأما المسلمون؛ فكانوا فريقين، فمن كان في المدينة فقد عنَّفَ السرية فيما صنعوا، وأما من كانوا في مكة فقد تأولوا لإخوانهم والتمسوا لهم عذراً، فردوا على المشركين طعنهم فقالوا: (إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان) [11].
وأما كفار قريش؛ فقالوا: (قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال) [12].
وثمت طرف أقحم نفسه في تلك القضية حقداً وشماتةً، وهم اليهود، فقالت - تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم -: (عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو؛ عمرت الحرب، والحضرمي؛ حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله؛ وقدت الحرب).
وعموماً فقد كان موقف الناس؛ بين متأول وشامت ومنكر، ولكن شتان بين إنكار المسلمين وإنكار الكافرين، فإنكار المسلمين كان بدافع الغضب لدين الله مع وجود روابط الإخوة والشفقة، على حين أن إنكار الكافرين كان منشؤه العداوة والغيظ والحقد، وبدافع الشماتة وتصيد الأخطاء، وإلا فكفار قريش أولى بالإنكار الشنيع لأنهم يرتكبون ما أنكروه بل أشد وأفظع.
فلذلك أنزل الله سبحانه وتعالى القول الفصل العدل في هذه القضية فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ... الآية}.
"يقول سبحانه: هذا الذي أنكرتموه عليهم وإن كان كبيراً فما ارتكبتموه أنتم من الكفر بالله والصد عن سبيله، وعن بيته وإخراج المسلمين الذين هم أهله منه، والشرك الذي أنتم عليه، والفتنة التي حصلت منكم به، أكبر عند الله من قتالهم في الشهر الحرام" [13].
إن العدو من عادته أن يختلق منكرات ليلصقها بأهل الإسلام، ويذيعها ليشوه صورة الإسلام المشرقة، فكيف إذا وقع على هفوة حقيقية، ولو كانت حبة خردل؟! فلا تسأل حينئذ عن فرحه وشماتته، ونشره وإذاعته بصورة تربو على حجمه الحقيقي أضعافاً مضاعفة.
واقتراف مثل تلك الشنائع ليس من الكافرين بمستغرب، فليس بعد الكفر ذنب، ولكن الذي لا ينقضي منه العجب أن ينحو بعض من ينسب إلى الإسلام بل إلى العلم نحوهم! ويرضى لنفسه أن يكون صدى لأبواقهم المنكرة، ويسبغ على تلك الجرائم الشنيعة أثواب العلم والشريعة فتكون نكايته بأهل الإسلام أشد.
فلا ريب أن هذا الذي صنعوه من أقبح القبائح، أن يكونوا سنداً للكافرين على إخوانهم المسلمين، على فرض أنهم أخطأوا فكيف إذا كانوا محقين ومع القرآن دائرين؟!
ولاشك أن أولئك الذين أساؤوا وما أحسنوا يفتقدون إلى أبسط قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كانوا لا يعلمون فليمسكوا حتى يعلموا، وإن كان يعلمون فإن لا نجد لهم من الشرع معولاً يعولون عليه، ولا مستنداً يستندون إليه، فما أعمى بصائرهم إلا غياهب الشهوات، وحطام الدنيا، ولولا وضوح ما هم عليه من الباطل لأسهبنا في هتك أستارهم، وكشف عوارهم، فالله حسيبهم.
ومما سبق يمكننا أن نستخلص طائفة من الدروس والعبر:
فمن ذلك أن أهل الجهاد كغيرهم من البشر قد يقعون في هفوات لأنهم غير معصومين، وليس من شرط المجاهد أو المتقي ألا يخطئ، كما وصف الله سبحانه وتعالى المتقين بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
فهذه الآية بينت أنه ليس من شرط المتقي ألا يخطئ، ولكن من شرطه إذا فعل الخطأ أن يتوب منه، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
ومن الدروس المستفادة؛ أن المسلم إذا لم يعلم حكم الله في واقعة فعليه أن يتوقف حتى يعلم حكمها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق؛ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين [14].
ومما يستفاد؛ أن إنكار المسلمين على المسلمين يكون منشؤه الغضب لدين الله عز وجل مع بقاء روابط الإخوة، على حين أن إنكار الكافرين يكون منبعثاً من نار الحقد والشماتة.
ومن تأوُّلِ المسلمين في مكة لإخوانهم؛ نخرج بأن المسلم يتأول لأخيه المسلم إن أخطأ، ويلتمس له عذراً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
كما قال بعض السلف: (التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل؛ لعل لأخي عذراً لا أعلمه)، أو كما قال!
ويتأكد ذلك عند بُعد الناقد عن ملابسات ما وصف بكونه خطأ، وعند انعدام الثقة بناقل الخبر، وقد أمرنا الله عز وجل بالتثبت من خبر الناقل الفاسق فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، فكيف إذا كان الناقل كافراً يتوقد قلبه غيظاً على المسلمين؟!
وإننا لنأسف غاية الأسف حين نرى بعض المسلمين يستقي معلوماته التي تمس الإسلام عامة والجهاد - خاصة - من أفواه الكافرين وإذاعاتهم - ومنها إذاعات الدول المنتسبة إلى الإسلام - فيتلقفها مسلَّمة دون نقاش، ويرتب على ذلك أحكاماً جائرة، فالله يحكم بين عباده في الآخرة.
وعلم من موقف اليهود؛ أن الكفرة يتصيدون أخطاء المسلمين، حتى لو لم تكن القضية تمسهم، وذلك شماتة منهم وحسداً.
ومن أعظم ما يستحق أن يكتب بماء الذهب؛ ذلك الميزان العادل الذي وضعه الله عز وجل للحكم على أهل الخطأ الذين انغمر خطؤهم في بحر حسناتهم، والحكم على من أحاطت بهم سيئاتهم، فشتان ما بين الفريقين، {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}.
والمقصود؛ أن الله سبحانه وتعالى حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام، بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر، وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة، لاسيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات والهجرة مع رسوله صلى الله عليه وسلم وإيثار ما عند الله لهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيعِ
فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن؟! [15].
وللشعر دور:
قال ابن إسحاق: (فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش جواباً للمشركين فيما قال من إحلال الشهر الحرام، قال ابن هشام هي لعبد الله بن جحش:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة وأعظم منه لو يرى الرشد راشدُ
صدودكم عما يقول محمد وكفر به والله راءٍ وشاهدُ
وإخراجكم من مسجد الله أهله لئلا يرى لله في البيت ساجدُ
فإنَّا وإن عيرتمونا بقتله وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسدُ
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا بنخلة لما أوقد الحرب واقدُ
دماً وابن عبد الله عثمان بيننا ينازعه غل من القيد عاندُ)
اعلم؛ أن الجهاد باللسان واجب.
لقوله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم).
ومن الجهاد باللسان قول الشعر.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسَّان: (اهج المشركين).
وروى البخاري ومسلم وأحمد؛ أن كعباً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أنزل في الشعراء ما أنزل، فقال: (المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل).
وعن عمار قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجاء المشركين، فقال: (اهجوهم كما يهجونكم).
فإن قال قائل: ما يغني الشعر في هذا الزمان مع انصراف الناس عن الاهتمام به، وكون أعدائنا لا يفقهونه؟!
فالجواب: أن الشعر تتحقق به مقاصد كثيرة، ومن هذه المقاصد؛ أن يؤدي المسلم ما عليه من جهاد واجب فإنه يجب الجهاد باللسان - كما قدمنا - ومنها؛ أن الشعر لا ينكر تأثيره في العدو.
والقول؛ بأنهم لا يفقهونه، غير مسلم به، لأن أعداءنا يهتمون بما نحاربهم به ونقوله فيهم ربما أكثر من بعض المسلمين، ولقد نُبئنا؛ أن بعض الكفرة يصيبه الرعب والفرق وهو يصغي إلى الأناشيد الإسلامية المصاحبة للعمليات الجهادية المصورة، ويعلم من نبرتها وشديد جرسها أنها تنذر بالحتوف وتحاكي أنغامها ضربات السيوف، وهذا من غير ترجمة فكيف إذا ترجمت له؟!
ويكفي أن يعلم العدو؛ أن طائفة من الأمة توجه سهامها إلى نحوره، فلا أقل من أن تجرحه في شعوره.
ومن مقاصد الشعر؛ الدفاع عن الإسلام والمسلمين وتحريض الأمة على الجهاد، وهو من فروع قوله تعالى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقد لمسنا أثره في نفوس الشباب المنهمر على ساحات الجهاد.
ويبقى الشعر قلماً من أقلام تدوين التاريخ، وتخليد ذكرى المجد والماجدين.
ويظل الشعراء طبقة من طبقات الأمة المشرفة، لابد أن يضربوا بسهم في خندق الدفاع عن الإسلام، وكم يشعر العدو بالغيظ عندما يرى الشعراء يتبارون في نصرة الإسلام، فهم المعبرون عن شعور الأمة.
لذلك فنحن ندعو كل شاعر من أهل الإسلام أن يجيش شعره للدفاع عن الإسلام والتحريض على الجهاد وهجاء الأعداء، ويحتسب في ذلك كله، ومن فاته الجهاد بالسنان فلا يفوتنه الجهاد باللسان.
وأهتبل الفرصة هنا لأنبه إخواننا الذين يعانون صناعة الأناشيد الإسلامية - وهي عبارة عن شعر ملحَّن منغَّم - على أن يختاروا الشعر الذي غزرت فائدته ومعناه، ووضح لفظه ومبناه، وقوي جرسه ونبرته، وألهب لحنه ونغمته، مما يهيج نفوس المسلمين، ويوهن قلوب الكافرين، بأنغام الرجولة والفحولة، وليجتنبوا ضد ما ذكرناه، خصوصاً تلك الأنغام الرقيقة الناعمة التي يكون إلحاقها بأنغام النساء أولى من إلحاقها بأنغام الرجال، ولتكن أنغامنا متميزة كما هي أعمالنا.
والحمد لله رب العالمين
بقلم الشيخ؛ منصور الشامي
مجلة طلائع خراسان
العدد الثامن
ذو الحجة/1427 هـ
[1] زاد المعاد: ص354 ، دار الكتب العلمية.
[2] البداية والنهاية: 3/274، دار الكتب العلمية.
[3] صحيح الجامع: 973.
[4] انظر شرح السير الكبير: 1/116، والعمدة في إعداد العدة: 345.
[5] مجموع الفتاوى: 14/409.
[6] البداية والنهاية: 3/262.
[7] البداية والنهاية: 3/262، وفي ابن هشام عبارة: (فوضعهم الله من ذلك)، بدل قوله: (فوصفهم الله من ذلك).
[8] انظر تفسير الطبري والقرطبي لقوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ... الآية}.
[9] البداية والنهاية: 3/261.
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] المرجع السابق.
[13] زاد المعاد: 1/478، تحقيق عبد الرزاق المهدي.
[14] البداية والنهاية: 3/262.
[15] زاد المعاد: 1/478، تحقيق عبد الرزاق المه[/color]دي.[/b]