الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد...
فإن من أعظم نعم الله علينا أن أرسل إلينا رسولاً بشيراً ونذيراً يهدينا إلى الصراط المستقيم، ويحذرنا من سبيل الجحيم، كما قال تعالى: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [1].
لقد كان رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم - ولا يزال - نبراساً للهداية وسراجاً منيراً في كل جزء من أجزاء حياته؛ في أقواله وأفعاله، في حركاته وسكناته.
ولم يأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهداً في دلالة الأمة على كل خير وتحذيرها من كل شر، نشهد أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
والإيمان به صلى الله عليه وسلم؛ أحد ركني كلمة التوحيد التي لا يقبل إيمان أحد إلا بقولها والعلم بمعناها، والإذعان والقبول لها، والعمل بما دلت عليه واقتضته؛ عمل مخلص موقن بها.
ولذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم علينا حقوق وواجبات عظيمة تليق بمنزلته صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم تلك الواجبات؛ محبته واتباعه، والتسليم لما جاء به تسليماً مطلقاً لا يشوبه ذرة حرج؛ فضلاً عن بادرة تردد أو اعتراض!
وفي مقام المحبة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) [2].
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) [3].
ولا يستطيع تحقيق هذه المحبة على وجهها الأكمل إلا القليل من الناس الذين صدقوا وسلموا لله تسليماً مطلقاً، وهؤلاء هم أهل التوحيد الخالص الذين لهم الدرجات العلى.
ولاشك أن كل دعوى معوزة إلى برهان يثبت صدقها، والمحبة صفة تقوم في القلب، ومن أعظم دلائلها ولوازمها اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً مطلقاً لا يقيده هوى ولا عقل؛ كما قال سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [4].
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه؛ تستلزم معرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أوصافه الخُلُقية والخَلْقية ومعرفة ما جرى له في حياته، وما كان يسلكه في السلم والحرب، وفي الشدة والرخاء، وفي دعوته وجهاده، ومعرفة ملابسات بعثته من نسبه وحاله وحال قومه، والأرض التي بعث فيها، وكيفية نشأته.
والذي نعني بدراسته هنا هو السيرة بمعناها الاصطلاحي المشهور الذي يعتني بنقل مشاهد حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ نشأته إلى موته صلى الله عليه وسلم، وما تنطوي عليه تلك الحياة الكريمة من أحوال وحوادث وغزوات، ويدخل في ذلك ملابسات بعثته.
وأما أحكامه وشمائله؛ فمحلها كتب أخرى.
وإن الإنسان كلما تبحر في سيرة أحد من الناس ينسب إلى الخير والفضل ازداد محبة له وإجلالاً ومسارعة في التأسي به - هذا لو كان من آحاد الناس - فكيف إذا كان سيد ولد آدم وخيرهم صلى الله عليه وسلم؟!
والمؤمن الصادق تدفعه محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة اتباعه أن يتعرف على سيرته العطرة، وإن من أعظم القصور والتقصير أن يجهل المسلم حال نبيه صلى الله عليه وسلم فإن هذا ولاشك له أثر على محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه!
وإذا كان المسلم العادي محتاجاً إلى معرفة سيرته صلى الله عليه وسلم؛ فإن الطائفة المنصورة - أهل الجهاد - أحوج ما تكون إلى السيرة؛ كيف لا وهي المنافحة عن دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالسنان والبيان؟!
كيف لا وهي تخوض الآن أكبر صراع يشهده التاريخ، وتواجه العقبات تلو العقبات، وتكابد الويلات من القريب والبعيد على حد سواء؛ فهي تعيش محنة عظيمة، وهي المخاض الذي يسبق النصر إن شاء الله.
وفي هذا الطريق الشائك تحتاج إلى الزاد الذي يقيم صلبها، وتحتاج إلى القدوة الذي يشد أزرها، ويوضح لها السبيل.
وفي طريقها المزحوم بالابتلاءات؛ تواجه ضروباً من العوائق وألواناً من المكر، فتارة تواجه بالحديد والنار، وتارة يبسط لها بساط الإغراء لتسلم قيادها وتترك مبادئها، وأحياناً يطلب منها أن تنخرط في سلك الباطل وتستر سوأتها بزي الحكمة والمصلحة، وقد تدعى إلى المداهنة باسم "المداراة".
وتواجه كل يوم في طريقها شباكاً من المكر ينسجها شياطين الإنس والجن.
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تجد الطائفة المنصورة - حفظها الله - ما يشد أزرها، ويصبرها على اللأواء، وتجد القدوة الصادقة في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين وترى هناك مشاهد الصبر والثبات والتضحية في سبيل إعزاز هذا الدين، وتجد الدواء الناجع والسيف القاطع لكل عقبة كؤود، ومكر مرصود.
والمراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم من الضعف وقلة العدد والعدة، وقلة النصير، وكثرة المعارض والخاذل والمحارب؛ ثم انعكاس الحال وانقلاب الموازين وعلو كلمة الدين، وحصول الفتح المبين؛ كما قال سبحانه وتعالى: {واذكروا إذ كنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} [5].
كل هذه المجريات تنفخ روح الأمل في الطائفة المنصورة في هذا الزمان الذي قل فيه العدد والعدة والنصير، وكثر المخالف والخاذل والمحارب، ورماهم الكفار عن قوس واحدة.
فلابد أن ينجز الله وعده للمؤمنين الصادقين كما أنجزه للأولين.
وفي ظلال السيرة؛ يصحب المؤمن نبيه صلى الله عليه وسلم صحبة روحية، كأنه أحد أصحابه؛ يتفاعل مع أحداثها، ويعيش أفراحها وأتراحها، وأكثر الناس شعوراً بهذا هم أهل الجهاد لأنهم يحيون مشاهد سيرته حياة حقيقية لا مجرد خيال؛ فهم نسخة أصلية عن سيرة النبي وصحبه؛ فقد كانت السيرة مشحونة بمشاهد الصبر والابتلاء والمعاناة في سبيل الله عز وجل؛ وغنية بوقائع الهجرة والجهاد، كانت مكدسة بأجساد الشهداء والجرحى والأسرى وألوان العذاب.
بينما تجد سواهم من القاعدين لا يستطيع أن يدرك حقيقة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى إدراكه للسيرة ناقصاً مبتوراً؛ بل ربما يصير مسخاً مشوهاً! وكيف يحس من ركن إلى الدنيا وكره الموت، وآثر السلامة؛ كيف يحس بمعاني الصبر والثبات، والصدق واليقين، والولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين؛ التي هي حقيقة التوحيد، وأبرز معالم السيرة المباركة؟!
ألا فليعلم هؤلاء القاعدون - من كانوا وأينما كانوا - أنهم لن يدركوا حقيقة حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتركوا ما فيه من التثاقل والإخلاد إلى الأرض، وحتى يسلكوا الطريق الشائك الذي تتبين فيه معادنهم، وتصلب فيه أعوادهم... كفاهم كذباً على أنفسهم وعلى الناس، بادعائهم أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الطريق الواضح، طريق التوحيد لقد كانت سيرته تحقيقاً للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وليس التوحيد خطباً تلقى أو كتباً تدرس - فحسب -؛ بل هو الحياة لله مهما كانت النتائج والضرائب؛ {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
ولذلك فإننا نقدم بين يدي القارئ الكريم سلسلة من سيرة النبي العطرة، وقد جعلنا في هذه الحلقة مقدمة لما بعدها؛ تذكرة للمسلمين، وتحفيزاً لهم على صحبتنا في هذه الحلقات، التي سنحاول فيها - إن شاء الله - أن نربطها بالواقع ربطاً وثيقاً حيث يكون متحققاً، ونجتهد في حشد الأدلة الشرعية والنقولات الواقعية مما له مساس بحديثنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
وهدفنا في ذلك هو تبصير المسلم بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإبراز القيم الفاضلة التي تصقل نفسيته، وتبصيره بواقعه، وبما يدور حوله من المكر، وكيفية مواجهته، ونضع معالم في طريقه ليسير على بصيرة وهدى، ويتجنب الضلالة والردى.
ولا نقصد في هذه الحلقات أن نسرد جميع مجريات السيرة، ولا أن نوعب في تفصيلها، وإنما نقف فيها على محطات لها مساس بالواقع المعاصر وجهادنا المبارك، لنتفيأ بظلال أشجارها، ونجتني من ثمارها، ونتزود من موائدها الطيبة، ونرتشف من سلسبيلها، لعل الله أن يجعلنا من سالكي سبيلها.
والحمد لله رب العالمين
بقلم الشيخ؛ منصور الشامي
عن مجلة؛ طلائع خرسان
تعنى بشؤون الجهاد والمجاهدين في أفغانستان
جمادى الآخرة / 1426 هـ
[1] سورة آل عمران: 164.
[2] أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان: 14، ومسلم في الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد رقم: 44.
[3] أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كتاب الإيمان: باب حلاوة الإيمان: 16، ومسلم في الإيمان:باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان رقم: 43.
[4] سورة النساء: 65.
[5] سورة الأنفال: 26.
وبعد...
فإن من أعظم نعم الله علينا أن أرسل إلينا رسولاً بشيراً ونذيراً يهدينا إلى الصراط المستقيم، ويحذرنا من سبيل الجحيم، كما قال تعالى: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [1].
لقد كان رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم - ولا يزال - نبراساً للهداية وسراجاً منيراً في كل جزء من أجزاء حياته؛ في أقواله وأفعاله، في حركاته وسكناته.
ولم يأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جهداً في دلالة الأمة على كل خير وتحذيرها من كل شر، نشهد أنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
والإيمان به صلى الله عليه وسلم؛ أحد ركني كلمة التوحيد التي لا يقبل إيمان أحد إلا بقولها والعلم بمعناها، والإذعان والقبول لها، والعمل بما دلت عليه واقتضته؛ عمل مخلص موقن بها.
ولذلك كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم علينا حقوق وواجبات عظيمة تليق بمنزلته صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم تلك الواجبات؛ محبته واتباعه، والتسليم لما جاء به تسليماً مطلقاً لا يشوبه ذرة حرج؛ فضلاً عن بادرة تردد أو اعتراض!
وفي مقام المحبة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) [2].
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) [3].
ولا يستطيع تحقيق هذه المحبة على وجهها الأكمل إلا القليل من الناس الذين صدقوا وسلموا لله تسليماً مطلقاً، وهؤلاء هم أهل التوحيد الخالص الذين لهم الدرجات العلى.
ولاشك أن كل دعوى معوزة إلى برهان يثبت صدقها، والمحبة صفة تقوم في القلب، ومن أعظم دلائلها ولوازمها اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً مطلقاً لا يقيده هوى ولا عقل؛ كما قال سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [4].
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه؛ تستلزم معرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أوصافه الخُلُقية والخَلْقية ومعرفة ما جرى له في حياته، وما كان يسلكه في السلم والحرب، وفي الشدة والرخاء، وفي دعوته وجهاده، ومعرفة ملابسات بعثته من نسبه وحاله وحال قومه، والأرض التي بعث فيها، وكيفية نشأته.
والذي نعني بدراسته هنا هو السيرة بمعناها الاصطلاحي المشهور الذي يعتني بنقل مشاهد حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ نشأته إلى موته صلى الله عليه وسلم، وما تنطوي عليه تلك الحياة الكريمة من أحوال وحوادث وغزوات، ويدخل في ذلك ملابسات بعثته.
وأما أحكامه وشمائله؛ فمحلها كتب أخرى.
وإن الإنسان كلما تبحر في سيرة أحد من الناس ينسب إلى الخير والفضل ازداد محبة له وإجلالاً ومسارعة في التأسي به - هذا لو كان من آحاد الناس - فكيف إذا كان سيد ولد آدم وخيرهم صلى الله عليه وسلم؟!
والمؤمن الصادق تدفعه محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة اتباعه أن يتعرف على سيرته العطرة، وإن من أعظم القصور والتقصير أن يجهل المسلم حال نبيه صلى الله عليه وسلم فإن هذا ولاشك له أثر على محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه!
وإذا كان المسلم العادي محتاجاً إلى معرفة سيرته صلى الله عليه وسلم؛ فإن الطائفة المنصورة - أهل الجهاد - أحوج ما تكون إلى السيرة؛ كيف لا وهي المنافحة عن دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالسنان والبيان؟!
كيف لا وهي تخوض الآن أكبر صراع يشهده التاريخ، وتواجه العقبات تلو العقبات، وتكابد الويلات من القريب والبعيد على حد سواء؛ فهي تعيش محنة عظيمة، وهي المخاض الذي يسبق النصر إن شاء الله.
وفي هذا الطريق الشائك تحتاج إلى الزاد الذي يقيم صلبها، وتحتاج إلى القدوة الذي يشد أزرها، ويوضح لها السبيل.
وفي طريقها المزحوم بالابتلاءات؛ تواجه ضروباً من العوائق وألواناً من المكر، فتارة تواجه بالحديد والنار، وتارة يبسط لها بساط الإغراء لتسلم قيادها وتترك مبادئها، وأحياناً يطلب منها أن تنخرط في سلك الباطل وتستر سوأتها بزي الحكمة والمصلحة، وقد تدعى إلى المداهنة باسم "المداراة".
وتواجه كل يوم في طريقها شباكاً من المكر ينسجها شياطين الإنس والجن.
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تجد الطائفة المنصورة - حفظها الله - ما يشد أزرها، ويصبرها على اللأواء، وتجد القدوة الصادقة في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين وترى هناك مشاهد الصبر والثبات والتضحية في سبيل إعزاز هذا الدين، وتجد الدواء الناجع والسيف القاطع لكل عقبة كؤود، ومكر مرصود.
والمراحل التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم من الضعف وقلة العدد والعدة، وقلة النصير، وكثرة المعارض والخاذل والمحارب؛ ثم انعكاس الحال وانقلاب الموازين وعلو كلمة الدين، وحصول الفتح المبين؛ كما قال سبحانه وتعالى: {واذكروا إذ كنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} [5].
كل هذه المجريات تنفخ روح الأمل في الطائفة المنصورة في هذا الزمان الذي قل فيه العدد والعدة والنصير، وكثر المخالف والخاذل والمحارب، ورماهم الكفار عن قوس واحدة.
فلابد أن ينجز الله وعده للمؤمنين الصادقين كما أنجزه للأولين.
وفي ظلال السيرة؛ يصحب المؤمن نبيه صلى الله عليه وسلم صحبة روحية، كأنه أحد أصحابه؛ يتفاعل مع أحداثها، ويعيش أفراحها وأتراحها، وأكثر الناس شعوراً بهذا هم أهل الجهاد لأنهم يحيون مشاهد سيرته حياة حقيقية لا مجرد خيال؛ فهم نسخة أصلية عن سيرة النبي وصحبه؛ فقد كانت السيرة مشحونة بمشاهد الصبر والابتلاء والمعاناة في سبيل الله عز وجل؛ وغنية بوقائع الهجرة والجهاد، كانت مكدسة بأجساد الشهداء والجرحى والأسرى وألوان العذاب.
بينما تجد سواهم من القاعدين لا يستطيع أن يدرك حقيقة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى إدراكه للسيرة ناقصاً مبتوراً؛ بل ربما يصير مسخاً مشوهاً! وكيف يحس من ركن إلى الدنيا وكره الموت، وآثر السلامة؛ كيف يحس بمعاني الصبر والثبات، والصدق واليقين، والولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين؛ التي هي حقيقة التوحيد، وأبرز معالم السيرة المباركة؟!
ألا فليعلم هؤلاء القاعدون - من كانوا وأينما كانوا - أنهم لن يدركوا حقيقة حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتركوا ما فيه من التثاقل والإخلاد إلى الأرض، وحتى يسلكوا الطريق الشائك الذي تتبين فيه معادنهم، وتصلب فيه أعوادهم... كفاهم كذباً على أنفسهم وعلى الناس، بادعائهم أنهم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم.
هذا هو الطريق الواضح، طريق التوحيد لقد كانت سيرته تحقيقاً للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وليس التوحيد خطباً تلقى أو كتباً تدرس - فحسب -؛ بل هو الحياة لله مهما كانت النتائج والضرائب؛ {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}.
ولذلك فإننا نقدم بين يدي القارئ الكريم سلسلة من سيرة النبي العطرة، وقد جعلنا في هذه الحلقة مقدمة لما بعدها؛ تذكرة للمسلمين، وتحفيزاً لهم على صحبتنا في هذه الحلقات، التي سنحاول فيها - إن شاء الله - أن نربطها بالواقع ربطاً وثيقاً حيث يكون متحققاً، ونجتهد في حشد الأدلة الشرعية والنقولات الواقعية مما له مساس بحديثنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
وهدفنا في ذلك هو تبصير المسلم بسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم وإبراز القيم الفاضلة التي تصقل نفسيته، وتبصيره بواقعه، وبما يدور حوله من المكر، وكيفية مواجهته، ونضع معالم في طريقه ليسير على بصيرة وهدى، ويتجنب الضلالة والردى.
ولا نقصد في هذه الحلقات أن نسرد جميع مجريات السيرة، ولا أن نوعب في تفصيلها، وإنما نقف فيها على محطات لها مساس بالواقع المعاصر وجهادنا المبارك، لنتفيأ بظلال أشجارها، ونجتني من ثمارها، ونتزود من موائدها الطيبة، ونرتشف من سلسبيلها، لعل الله أن يجعلنا من سالكي سبيلها.
والحمد لله رب العالمين
بقلم الشيخ؛ منصور الشامي
عن مجلة؛ طلائع خرسان
تعنى بشؤون الجهاد والمجاهدين في أفغانستان
جمادى الآخرة / 1426 هـ
[1] سورة آل عمران: 164.
[2] أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان: 14، ومسلم في الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد رقم: 44.
[3] أخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه: كتاب الإيمان: باب حلاوة الإيمان: 16، ومسلم في الإيمان:باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان رقم: 43.
[4] سورة النساء: 65.
[5] سورة الأنفال: 26.