بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد...
كل جماعة وارد بحقها الخطأ والصواب.
فمن حقها - بل والواجب عليها -؛ أن تصحح الخطأ، وتعتذر عنه، فالاعتذار عن الخطأ والإقلاع عنه فضيلة تُذكر للمرء لا عليه، فالاستمرار بالخطأ مع العلم به، هو ضرب من ضروب العناد في الباطل، الذي قد يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عُقباها.
كما من حقها - بين فترة وأخرى -؛ أن تراجع مواقفها وتقف مع الذات موقف الناقد البصير المتجرد للحق، فتنظر إلى الجوانب الإيجابية فتعززها وتنميها، وتنظر إلى الجوانب السلبية فتعتزلها وتتفاداها قدر الإمكان.
فهذا التجديد في التقييم والنقد، ومراجعة النفس كلما دعت الضرورة لذلك هو علامة من علامات حياة وقوة هذه الجماعة، وأنها أبعد ما تكون عن التآكل والذوبان.
من حقها على ضوء ما يستجد عليها وعلى الأمة من أحداث، أن تقدم ورقة كانت قد أخرتها أو تأخر ورقة كانت قد قدمتها، تستدعي السياسة الشرعية، وضرورة استمرارية العمل الدعوي هذا التقديم وهذا التأخير.
من حقها أن تنوع بالوسائل، مادامت هذه الوسائل كلها مشروعة ومأذون بها، وتتوسع بوسائل دون وسائل بحسب الحاجة والضرورة، وما تسمح به الظروف والمعطيات.
فهذا من حق كل جماعة أن تقوم به، وبخاصة منها الجماعات الجهادية الجادة الراشدة التي تعمل من أجل استئناف حياة إسلامية راشدة على مستوى الأمة.
لكن هذا الحق لا ينبغي - بل لا يجوز -؛ أن يحمل الجماعة على التوسع في الاعتذار، فتعتذر عما كانت عليه من الحق، وما يُعد من ثوابت وكليات هذا الدين.
هذا الحق، لا يجوز أن يحملها على إقرار وسائل وطرق ومناهج غير شرعية، أو إلغاء وإنكار وسائل شرعية قد أمر الله بها ورسوله.
هذا الحق، لا يبرر لها مطلقاً الاعتراف بشرعية الطواغيت الظالمين الخارجين على عقيدة وثوابت الأمة، أو الركون إليهم، أو الدخول في موالاتهم.
وأيما جماعة تفعل ذلك، تخرج مباشرة عن وصفها كجماعة إسلامية تعمل من أجل الإسلام، ومن أجل قضاياه، وإعلاء كلمته.
فهي بذلك، ومنذ الخطوة الأولى التي يخطونها نحو قصور الطواغيت الظالمين ليستجدوا منهم الاعتراف، تفقد الجماعة مبررات وجودها كجماعة إسلامية تجاهد في سبيل الله، بل وكجماعة تعمل من أجل الإسلام.
الآلام والجراح مهما تعاظمت وتراكمت، تبرر التربص، والراحة، والسكون، والهدنة، لالتقاط الأنفاس، وتضميد الجراح، وإعداد العدة، لاستئناف الجهاد من جديد، ولكنها لا تبرر تنكب طريق الجهاد، والانتكاس على الأعقاب، والوقوع في أحضان الطواغيت الظالمين، لكي يُستجدى منهم العطاء والفُتات، أو الاعتراف بشرعية الحق بالوجود والحياة.
الذي حملنا على الإشارة إلى ذلك أن من الجماعات الجهادية المعاصرة؛ تجاهد على طريقة حاطب ليل، فلا تميز في جهادها بين المهم والأهم، وبين الجائز وغير الجائز، وبين الصعلوك الذي لا زبر له يزبره وبين أئمة الكفر والطغيان، وبين فقه قتال الجبهات وبين فقه قتال الشوارع والأزقة وما يقتضيه من حذر واحتراز، وبين ما يجوز لذاته لكنه محرم لغيره، وبين ما يجوز لذاته ولغيره، فتقع بسبب ذلك في أخطاء جسيمة يثقل كاهلها، ويُضعف من قوتها، وربما يهدد وجودها بالبقاء كجماعة تعمل لقضية الإسلام والمسلمين.
فيحملها ذلك على التخلي عن طريق الجهاد في سبيل الله، وعلى الإعلان أن هذا الطريق لا يُجدي نفعاً، وأنه لا يجر على العمل الإسلامي إلا مزيداً من الانتكاسات والتأخر.
فتكون بذلك كشاهد زور على أمر قد شرعه الله تعالى للعباد وفرضه عليهم، وصوتاً جديداً من جملة الأصوات الكثيرة التي تندد بالجهاد وتستهجنه، ليتحولوا بعد ذلك - هم وتجربتهم - إلى دليل سوء وزور يستدل به الناس على بطلان شرعية الجهاد أو عدم جدواه، وعلى شرعية سبل وطرق باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، حتى إذا ما قيل لهم {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}، قالوا: أتريد أن يحصل لنا كما حصل لجماعة كذا... وكذا... وفي بلد كذا... وكذا... أتريدون أن تكرروا المأساة الفلانية، كما حصل للجماعة الفلانية، وفي البلد الفلاني، سمعنا من هذه الاعتراضات الكثير الكثير، ولعل هذا أقوى حجج من يرفضون نهج طريق الجهاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
والحقيقة تكون أن ما أصابهم من سوء هو من عند أنفسهم، وبما كسبت أيديهم، ولكونهم لم يُراعوا العمل بالسُّنَن، وليس لكونهم نهجوا طريق الجهاد في سبيل الله، الذي أمرهم الله تعالى به، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ال عمران: 165].
فالإنصاف يقتضي منا؛ أن نتهم أنفسنا لا أن نتهم الله، وأن نرد السيئات إلى أنفسنا، وإلى ما اقترفته أيدينا من الأخطاء، وليس إلى شرع الله تعالى المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولعل من أسباب ظلم هؤلاء الناس لمبدأ الجهاد في سبيل الله، أن أكثرهم لا يفرق بين الجهاد كشريعة ودين وبين المجاهد الذي يعمل على إحياء فريضة الجهاد، فإذا أخطأ المجاهد - والخطأ وارد بحقه - قالوا: أخطأ الجهاد، وخطأه ناتج عن كون أن الجهاد خطأ.
ولهؤلاء نقول:
الجهاد في سبيل الله؛ حق مطلق، وصواب مطلق لا يجوز افتراض الخطأ فيه، لأنه دين الله، وحكم الله، وشريعة الله.
والمجاهد؛ وارد في حقه الصواب والخطأ، والخطأ وارد بحقه بقدر ما يبتعد عن الالتزام بقواعد الشريعة وأصولها وبخاصة منها ما يتعلق بفقه الجهاد وما يتعلق به من أحكام ومسائل، كما أن الصواب وارد بحقه بقدر ما يلتزم بقواعد وأحكام الجهاد الشرعية.
فالمجاهد إذا أخطأ قيل أخطأ، وإذا أصاب قيل أصاب، من دون رمي مبدأ الجهاد بعبارات الطعن، والغمز واللمز.
فالجهاد شيء، والمجاهد شيء آخر، لا يخلط بينهما إلا جاهل ظالم.
وكنت قد ذكَرت في أكثر من موضع من أبحاثي جملَةً من القواعد والضوابط التي ينبغي لأي عمل جهادي جاد وهادف أن ينضبط بها، ويراعها وهو في مسيره نحو أهدافه وغاياته السامية والرفيعة، والتي تقلل من ظاهرة الانتكاس والارتداد عن الجهاد، على مستوى الجماعات والأفراد سواء.
أعيد تلخيصها هنا في النقاط التالية طمعاً بالأجر، وتعميم النفع لعامة المسلمين، وبخاصة منهم المجاهدين، والله المستعان:
1) التفقه قبل العمل والانطلاق للجهاد:
إذ الجاهل لا تؤمَن عليه الفتنة والمخالفة، والوقوع في أخطاء جسام، تتنافى مع أخلاق ومبادئ الجهاد في سبيل الله.
مبدأ "اضرب واعمل، ثم ابحث عن دليل شرعي عما قمت به، وعن عالم يجيز لك ما فعلت"؛ مبدأ خاطئ ومرفوض، ومنطق قاصر لا يليق بالحركات الجادة والواعية التي تعمل من أجل رفعة هذا الدين العظيم، وعلى مستوى الأمة.
والصواب أن يُقال: اعرف الدليل الشرعي المحكم فيما تريد القيام به قبل أن تقوم به، لكي تكون على بصيرة من دينك وأمرك قبل أن تقدم على العمل، وقبل أن تُرغم على الاعتذار وتقع في الندم، ولات حين مندم.
فالعلم دائماً يتقدم العمل، وهو شرط لصحته وقبوله، لا يجوز أن يكون العكس.
فإن قيل: فما بال الصحابي الذي أسلم، فقاتل، فقُتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (عمل قليلاً وأجر كثيراً)، فكيف نوفق بين ذلك وبين ما تقدم عن ضرورة العلم قبل العمل؟
أقول: أولاً؛ أن هذا الصحابي المسؤول عنه، قد تعلم العلم الضروري الذي ينفعه في وقته، ويحتاجه قبل بدء المعركة؛ وهو أنه لم يؤجل إسلامه إلى ما بعد انتهاء القتال، وإنما عمل بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم له: (أسلم ثم قاتل)، فأسلم، فقاتل، فقُتِل، فنفعه إسلامه، ولله الحمد.
ثانياً؛ وجود واحد أو عشرة ممن يجهلون غايات وأحكام الجهاد على وجه التفصيل، في جيش يتواجد فيه كبار الصحابة والعلماء، وعلى رأسهم سيدنا وقائدنا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يضر شيئاً ولا يمكن أن يضر بشيء.
وهكذا الجيش أو الجماعة التي يقودها العلماء، ويتخلل في صفوفها العلماء الناصحين، فإن أخطاءها تقل كثيراً مهما كثر فيها الأفراد الذين لا يُحيطون علماً بمسائل الجهاد على وجه التفصيل والتدقيق، والله تعالى أعلم.
لكن لا يجوز افتراض الجهل بمقاصد وغايات هذا الدين، على مستوى القيادة والأفراد سواء، ثم نعتبر ذلك ظاهرة صحية، أو تجربة يُمكن أن يُكتب لها النجاح والاستمرار، أو يتحقق على يديها نصراً لهذا الدين، فجاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يمكن أن يُعطيه.
2) أن لا يؤخذ المرء بجريرة غيره:
فلا يُعامل بذنب غيره، وبما لم يفعل، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤخذ المرء بجريرة أبيه أو أخيه).
وبالتالي ظاهرة التوسع في قتل الأبرياء بغير حق، بحجة أن الذي يجالسهم أو يسكن معهم يستحق القتل، فيُقتلون معه؛ ظاهرة خاطئة، وهي مرفوضة عقلاً وشرعاً.
3) التثبت والتبين قبل القتل والقتال وإصدار الأحكام:
إذ لا يجوز أن تُنتهك حرمات العباد بالظن، فإن الظن لا يُغني من الحق شيئاً، أو بما لا يوجب القتل والقتال شرعاً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 94].
4) عدم قصد النساء والأطفال، والشيوخ، ومن كان على شاكلتهم؛ ممن لا حول لهم ولا قوة من مستضعفي أهل الكفر، إلا من باشر منهم الحرب والقتال، لورود النص الذي ينهى عن قصدهم بالحرب والقتال، أو بشيء من أنواع الأذى.
5) عدم القتال في ساحة المتشابهات، وترك الساحات والميادين المحكمة التي لا خلاف على وجوب القتال فيها:
من ذلك الانشغال بالصعاليك، وبمن لا زَبر له، ومن كان على شاكلتهم من الجند المجبرين على الخدمة، وترك أئمة الكفر والطغيان، يسيحون ويمرحون، ويحكمون.
فليس كل ما يجوز قتله وقتاله، جاز قتله وقتاله، لدخول عوامل أخرى تؤثر على الحكم وتمنع من قتله أو قتاله، والأمثلة على ذلك من السنة أكثر من أن تحصر في هذا الموضع، ولعلنا ذكرنا بعضها في أكثر من موضع من أبحاثنا ذات العلاقة بالموضوع.
6) عدم توسيع ساحات القتال والمواجهة أكثر مما هو مقدور عليه، ويكون تحت السيطرة، وعند الإقدام على أي عمل جهادي، لا بد من تقدير المصالح والمفاسد، وتقدير القدرة على احتواء المفاسد المترتبة والناتجة عن العمل، بحيث لا تأتي أكبر من المفاسد التي يُراد إزالتها ابتداءً.
7) التمييز بين فقه قتال الجبهات المتمايزة، وما يمكن أن يُقال فيه، وبين فقه قتال الشوارع التي تتداخل فيها مصالح الناس بعضهم مع بعض، الصالح منهم مع الطالح، وما يمكن أن يُقال فيه.
وبالتالي ليس كل ما يمكن أن يُقال في فقه قتال الجبهات يمكن أن يُقال ويُحمل على قتال الأزقة والشوارع، والله تعالى أعلم.
مراعاة مراحل الاستضعاف وما يُحمل عليها من أحكام، ومراحل القوة وما يُحمل عليها من أحكام، وعدم حمل أحكام مراحل القوة على مراحل ومواطن الاستضعاف أو العكس، حيث أن مراحل القوة لها أحكامها، ومراحل الضعف والاستضعاف لها أحكامها.
فالفقه الذي يُقال في عهد هارون الرشيد، وهو يُخاطب سحابة المطر في السماء بأن تهطل حيثما تشاء؛ فإن خراجها سيأتيه، لا يمكن أن يُقال في الزمن أو المكان الذي لا يستطيع المسلمون فيه أن يُظهروا دينهم، أو يقيموا الصلاة.
9) الأخذ بأسباب المنعة والقوة، وعدم التعامل مع قضايا الجهاد بروح التصوف والتواكل، حيث لا بد من تأمين الحد الأدنى من القوة والإعداد الذي يرقى بالجماعة إلى مستوى المواجهة والتحدي والثبات، ويصونها من عمليات الإبادة والاستئصال، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أن القوة الرمي...)، و (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى).
وقال صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك).
10) ضرورة احترام العهود والعقود التي يتم توثيقها بين المسلمين وغيرهم:
فمن دخل دارهم من المسلمين بأمان وعهد، وكلاجئ مستجير، يجب عليه الوفاء بأمانهم وعهدهم وأن لا يغدر بهم في شيء، مهما لاحت له المصلحة من وراء الغدر.
وكذلك من دخل منهم بلاد المسلمين بعهد وأمان، كسائح، أو عامل، أو مستجير، لا يجوز الغدر بعهده وأمانه أو الاعتداء عليه في شيء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل غادرٍ لواء يُعرف به يوم القيامة، يُرفع له بقدر غدرته).
وقال صلى الله عليه وسلم : (من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً).
11) اعلم يا عبد الله؛ أن الجهاد في الإسلام يختلف من حيث المقاصد والوسائل عن جميع أنواع القتال التي تمارسها الجاهليات على مختلف راياتها وصورها ومسمياتها.
فأنت لا تجاهد من أجل تعبيد العبيد للعبيد، أو من أجل استعلاء قوم على قوم، أو وطن على وطن، أو زعيم على زعيم، أو من أجل مصلحة دنيوية، لا، فالمجاهد الصادق لا يعرف شيئاً من ذلك، فهو إذ يُجاهد، يُجاهد في سبيل الله، يُجاهد لكي تكون كلمة الله هي العليا، لكي يُعبِّد العباد لرب العباد، ويحررهم من العبودية للعبيد، لكي يأطرهم من جور الأديان وأغلالها، إلى عدل الإسلام ورحمته، وكل ذلك مضبوط بضوابط الشرع وأحكامه، ليس للهوى أو النزوات في ذلك وجود يُذكر.
ليس لنفسك حظاً في القتال أو الجهاد؛ فالأمر كله لله، كما قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [ال عمران: 128].
بدليل لو أن الكافر - في ساحات القتال - قد قطع رجلك ويدك، ونال منك بجراحات عدة، ثم قدرت عليه، وقبل أن تقتله قال لك: "أشهد أن لا إله إلا الله"، لما جاز لك قتله، أو مسه بسوء، ولأصبح بعد نطقه لهذه الكلمة الطيبة المباركة "أخوك"، رغماً عن أنفك، مهما كان في نفسك عليه من الغل أو الغيظ... إنه الإسلام.
قد يكون هذا في عرف جيوش الآخرين، وفي عرف الأنظمة الجاهلية الأخرى؛ ضرب من الخيال أو المثالية الغير ممكنة، لكنه في الإسلام، دين الله، حق واقع، وأمر مجرَّب، لا يمكن مخالفته، وما أكثر الأمثلة على صدق ذلك لو أردنا الإحصاء.
هذه جملة من الضوابط الشرعية أذكِّر نفسي وإخواني بها، لما في العمل بها من خير كثير على ملة الإسلام بعامة، وعلى الجهاد والمجاهدين بخاصة.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود: 88].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
10/1/1423 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد...
كل جماعة وارد بحقها الخطأ والصواب.
فمن حقها - بل والواجب عليها -؛ أن تصحح الخطأ، وتعتذر عنه، فالاعتذار عن الخطأ والإقلاع عنه فضيلة تُذكر للمرء لا عليه، فالاستمرار بالخطأ مع العلم به، هو ضرب من ضروب العناد في الباطل، الذي قد يؤدي إلى نتائج لا تُحمد عُقباها.
كما من حقها - بين فترة وأخرى -؛ أن تراجع مواقفها وتقف مع الذات موقف الناقد البصير المتجرد للحق، فتنظر إلى الجوانب الإيجابية فتعززها وتنميها، وتنظر إلى الجوانب السلبية فتعتزلها وتتفاداها قدر الإمكان.
فهذا التجديد في التقييم والنقد، ومراجعة النفس كلما دعت الضرورة لذلك هو علامة من علامات حياة وقوة هذه الجماعة، وأنها أبعد ما تكون عن التآكل والذوبان.
من حقها على ضوء ما يستجد عليها وعلى الأمة من أحداث، أن تقدم ورقة كانت قد أخرتها أو تأخر ورقة كانت قد قدمتها، تستدعي السياسة الشرعية، وضرورة استمرارية العمل الدعوي هذا التقديم وهذا التأخير.
من حقها أن تنوع بالوسائل، مادامت هذه الوسائل كلها مشروعة ومأذون بها، وتتوسع بوسائل دون وسائل بحسب الحاجة والضرورة، وما تسمح به الظروف والمعطيات.
فهذا من حق كل جماعة أن تقوم به، وبخاصة منها الجماعات الجهادية الجادة الراشدة التي تعمل من أجل استئناف حياة إسلامية راشدة على مستوى الأمة.
لكن هذا الحق لا ينبغي - بل لا يجوز -؛ أن يحمل الجماعة على التوسع في الاعتذار، فتعتذر عما كانت عليه من الحق، وما يُعد من ثوابت وكليات هذا الدين.
هذا الحق، لا يجوز أن يحملها على إقرار وسائل وطرق ومناهج غير شرعية، أو إلغاء وإنكار وسائل شرعية قد أمر الله بها ورسوله.
هذا الحق، لا يبرر لها مطلقاً الاعتراف بشرعية الطواغيت الظالمين الخارجين على عقيدة وثوابت الأمة، أو الركون إليهم، أو الدخول في موالاتهم.
وأيما جماعة تفعل ذلك، تخرج مباشرة عن وصفها كجماعة إسلامية تعمل من أجل الإسلام، ومن أجل قضاياه، وإعلاء كلمته.
فهي بذلك، ومنذ الخطوة الأولى التي يخطونها نحو قصور الطواغيت الظالمين ليستجدوا منهم الاعتراف، تفقد الجماعة مبررات وجودها كجماعة إسلامية تجاهد في سبيل الله، بل وكجماعة تعمل من أجل الإسلام.
الآلام والجراح مهما تعاظمت وتراكمت، تبرر التربص، والراحة، والسكون، والهدنة، لالتقاط الأنفاس، وتضميد الجراح، وإعداد العدة، لاستئناف الجهاد من جديد، ولكنها لا تبرر تنكب طريق الجهاد، والانتكاس على الأعقاب، والوقوع في أحضان الطواغيت الظالمين، لكي يُستجدى منهم العطاء والفُتات، أو الاعتراف بشرعية الحق بالوجود والحياة.
الذي حملنا على الإشارة إلى ذلك أن من الجماعات الجهادية المعاصرة؛ تجاهد على طريقة حاطب ليل، فلا تميز في جهادها بين المهم والأهم، وبين الجائز وغير الجائز، وبين الصعلوك الذي لا زبر له يزبره وبين أئمة الكفر والطغيان، وبين فقه قتال الجبهات وبين فقه قتال الشوارع والأزقة وما يقتضيه من حذر واحتراز، وبين ما يجوز لذاته لكنه محرم لغيره، وبين ما يجوز لذاته ولغيره، فتقع بسبب ذلك في أخطاء جسيمة يثقل كاهلها، ويُضعف من قوتها، وربما يهدد وجودها بالبقاء كجماعة تعمل لقضية الإسلام والمسلمين.
فيحملها ذلك على التخلي عن طريق الجهاد في سبيل الله، وعلى الإعلان أن هذا الطريق لا يُجدي نفعاً، وأنه لا يجر على العمل الإسلامي إلا مزيداً من الانتكاسات والتأخر.
فتكون بذلك كشاهد زور على أمر قد شرعه الله تعالى للعباد وفرضه عليهم، وصوتاً جديداً من جملة الأصوات الكثيرة التي تندد بالجهاد وتستهجنه، ليتحولوا بعد ذلك - هم وتجربتهم - إلى دليل سوء وزور يستدل به الناس على بطلان شرعية الجهاد أو عدم جدواه، وعلى شرعية سبل وطرق باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، حتى إذا ما قيل لهم {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...}، قالوا: أتريد أن يحصل لنا كما حصل لجماعة كذا... وكذا... وفي بلد كذا... وكذا... أتريدون أن تكرروا المأساة الفلانية، كما حصل للجماعة الفلانية، وفي البلد الفلاني، سمعنا من هذه الاعتراضات الكثير الكثير، ولعل هذا أقوى حجج من يرفضون نهج طريق الجهاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
والحقيقة تكون أن ما أصابهم من سوء هو من عند أنفسهم، وبما كسبت أيديهم، ولكونهم لم يُراعوا العمل بالسُّنَن، وليس لكونهم نهجوا طريق الجهاد في سبيل الله، الذي أمرهم الله تعالى به، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ال عمران: 165].
فالإنصاف يقتضي منا؛ أن نتهم أنفسنا لا أن نتهم الله، وأن نرد السيئات إلى أنفسنا، وإلى ما اقترفته أيدينا من الأخطاء، وليس إلى شرع الله تعالى المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولعل من أسباب ظلم هؤلاء الناس لمبدأ الجهاد في سبيل الله، أن أكثرهم لا يفرق بين الجهاد كشريعة ودين وبين المجاهد الذي يعمل على إحياء فريضة الجهاد، فإذا أخطأ المجاهد - والخطأ وارد بحقه - قالوا: أخطأ الجهاد، وخطأه ناتج عن كون أن الجهاد خطأ.
ولهؤلاء نقول:
الجهاد في سبيل الله؛ حق مطلق، وصواب مطلق لا يجوز افتراض الخطأ فيه، لأنه دين الله، وحكم الله، وشريعة الله.
والمجاهد؛ وارد في حقه الصواب والخطأ، والخطأ وارد بحقه بقدر ما يبتعد عن الالتزام بقواعد الشريعة وأصولها وبخاصة منها ما يتعلق بفقه الجهاد وما يتعلق به من أحكام ومسائل، كما أن الصواب وارد بحقه بقدر ما يلتزم بقواعد وأحكام الجهاد الشرعية.
فالمجاهد إذا أخطأ قيل أخطأ، وإذا أصاب قيل أصاب، من دون رمي مبدأ الجهاد بعبارات الطعن، والغمز واللمز.
فالجهاد شيء، والمجاهد شيء آخر، لا يخلط بينهما إلا جاهل ظالم.
وكنت قد ذكَرت في أكثر من موضع من أبحاثي جملَةً من القواعد والضوابط التي ينبغي لأي عمل جهادي جاد وهادف أن ينضبط بها، ويراعها وهو في مسيره نحو أهدافه وغاياته السامية والرفيعة، والتي تقلل من ظاهرة الانتكاس والارتداد عن الجهاد، على مستوى الجماعات والأفراد سواء.
أعيد تلخيصها هنا في النقاط التالية طمعاً بالأجر، وتعميم النفع لعامة المسلمين، وبخاصة منهم المجاهدين، والله المستعان:
1) التفقه قبل العمل والانطلاق للجهاد:
إذ الجاهل لا تؤمَن عليه الفتنة والمخالفة، والوقوع في أخطاء جسام، تتنافى مع أخلاق ومبادئ الجهاد في سبيل الله.
مبدأ "اضرب واعمل، ثم ابحث عن دليل شرعي عما قمت به، وعن عالم يجيز لك ما فعلت"؛ مبدأ خاطئ ومرفوض، ومنطق قاصر لا يليق بالحركات الجادة والواعية التي تعمل من أجل رفعة هذا الدين العظيم، وعلى مستوى الأمة.
والصواب أن يُقال: اعرف الدليل الشرعي المحكم فيما تريد القيام به قبل أن تقوم به، لكي تكون على بصيرة من دينك وأمرك قبل أن تقدم على العمل، وقبل أن تُرغم على الاعتذار وتقع في الندم، ولات حين مندم.
فالعلم دائماً يتقدم العمل، وهو شرط لصحته وقبوله، لا يجوز أن يكون العكس.
فإن قيل: فما بال الصحابي الذي أسلم، فقاتل، فقُتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (عمل قليلاً وأجر كثيراً)، فكيف نوفق بين ذلك وبين ما تقدم عن ضرورة العلم قبل العمل؟
أقول: أولاً؛ أن هذا الصحابي المسؤول عنه، قد تعلم العلم الضروري الذي ينفعه في وقته، ويحتاجه قبل بدء المعركة؛ وهو أنه لم يؤجل إسلامه إلى ما بعد انتهاء القتال، وإنما عمل بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم له: (أسلم ثم قاتل)، فأسلم، فقاتل، فقُتِل، فنفعه إسلامه، ولله الحمد.
ثانياً؛ وجود واحد أو عشرة ممن يجهلون غايات وأحكام الجهاد على وجه التفصيل، في جيش يتواجد فيه كبار الصحابة والعلماء، وعلى رأسهم سيدنا وقائدنا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يضر شيئاً ولا يمكن أن يضر بشيء.
وهكذا الجيش أو الجماعة التي يقودها العلماء، ويتخلل في صفوفها العلماء الناصحين، فإن أخطاءها تقل كثيراً مهما كثر فيها الأفراد الذين لا يُحيطون علماً بمسائل الجهاد على وجه التفصيل والتدقيق، والله تعالى أعلم.
لكن لا يجوز افتراض الجهل بمقاصد وغايات هذا الدين، على مستوى القيادة والأفراد سواء، ثم نعتبر ذلك ظاهرة صحية، أو تجربة يُمكن أن يُكتب لها النجاح والاستمرار، أو يتحقق على يديها نصراً لهذا الدين، فجاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يمكن أن يُعطيه.
2) أن لا يؤخذ المرء بجريرة غيره:
فلا يُعامل بذنب غيره، وبما لم يفعل، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}.
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤخذ المرء بجريرة أبيه أو أخيه).
وبالتالي ظاهرة التوسع في قتل الأبرياء بغير حق، بحجة أن الذي يجالسهم أو يسكن معهم يستحق القتل، فيُقتلون معه؛ ظاهرة خاطئة، وهي مرفوضة عقلاً وشرعاً.
3) التثبت والتبين قبل القتل والقتال وإصدار الأحكام:
إذ لا يجوز أن تُنتهك حرمات العباد بالظن، فإن الظن لا يُغني من الحق شيئاً، أو بما لا يوجب القتل والقتال شرعاً، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 94].
4) عدم قصد النساء والأطفال، والشيوخ، ومن كان على شاكلتهم؛ ممن لا حول لهم ولا قوة من مستضعفي أهل الكفر، إلا من باشر منهم الحرب والقتال، لورود النص الذي ينهى عن قصدهم بالحرب والقتال، أو بشيء من أنواع الأذى.
5) عدم القتال في ساحة المتشابهات، وترك الساحات والميادين المحكمة التي لا خلاف على وجوب القتال فيها:
من ذلك الانشغال بالصعاليك، وبمن لا زَبر له، ومن كان على شاكلتهم من الجند المجبرين على الخدمة، وترك أئمة الكفر والطغيان، يسيحون ويمرحون، ويحكمون.
فليس كل ما يجوز قتله وقتاله، جاز قتله وقتاله، لدخول عوامل أخرى تؤثر على الحكم وتمنع من قتله أو قتاله، والأمثلة على ذلك من السنة أكثر من أن تحصر في هذا الموضع، ولعلنا ذكرنا بعضها في أكثر من موضع من أبحاثنا ذات العلاقة بالموضوع.
6) عدم توسيع ساحات القتال والمواجهة أكثر مما هو مقدور عليه، ويكون تحت السيطرة، وعند الإقدام على أي عمل جهادي، لا بد من تقدير المصالح والمفاسد، وتقدير القدرة على احتواء المفاسد المترتبة والناتجة عن العمل، بحيث لا تأتي أكبر من المفاسد التي يُراد إزالتها ابتداءً.
7) التمييز بين فقه قتال الجبهات المتمايزة، وما يمكن أن يُقال فيه، وبين فقه قتال الشوارع التي تتداخل فيها مصالح الناس بعضهم مع بعض، الصالح منهم مع الطالح، وما يمكن أن يُقال فيه.
وبالتالي ليس كل ما يمكن أن يُقال في فقه قتال الجبهات يمكن أن يُقال ويُحمل على قتال الأزقة والشوارع، والله تعالى أعلم.
مراعاة مراحل الاستضعاف وما يُحمل عليها من أحكام، ومراحل القوة وما يُحمل عليها من أحكام، وعدم حمل أحكام مراحل القوة على مراحل ومواطن الاستضعاف أو العكس، حيث أن مراحل القوة لها أحكامها، ومراحل الضعف والاستضعاف لها أحكامها.
فالفقه الذي يُقال في عهد هارون الرشيد، وهو يُخاطب سحابة المطر في السماء بأن تهطل حيثما تشاء؛ فإن خراجها سيأتيه، لا يمكن أن يُقال في الزمن أو المكان الذي لا يستطيع المسلمون فيه أن يُظهروا دينهم، أو يقيموا الصلاة.
9) الأخذ بأسباب المنعة والقوة، وعدم التعامل مع قضايا الجهاد بروح التصوف والتواكل، حيث لا بد من تأمين الحد الأدنى من القوة والإعداد الذي يرقى بالجماعة إلى مستوى المواجهة والتحدي والثبات، ويصونها من عمليات الإبادة والاستئصال، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أن القوة الرمي...)، و (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى).
وقال صلى الله عليه وسلم : (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك).
10) ضرورة احترام العهود والعقود التي يتم توثيقها بين المسلمين وغيرهم:
فمن دخل دارهم من المسلمين بأمان وعهد، وكلاجئ مستجير، يجب عليه الوفاء بأمانهم وعهدهم وأن لا يغدر بهم في شيء، مهما لاحت له المصلحة من وراء الغدر.
وكذلك من دخل منهم بلاد المسلمين بعهد وأمان، كسائح، أو عامل، أو مستجير، لا يجوز الغدر بعهده وأمانه أو الاعتداء عليه في شيء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
وفي الحديث؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل غادرٍ لواء يُعرف به يوم القيامة، يُرفع له بقدر غدرته).
وقال صلى الله عليه وسلم : (من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً).
11) اعلم يا عبد الله؛ أن الجهاد في الإسلام يختلف من حيث المقاصد والوسائل عن جميع أنواع القتال التي تمارسها الجاهليات على مختلف راياتها وصورها ومسمياتها.
فأنت لا تجاهد من أجل تعبيد العبيد للعبيد، أو من أجل استعلاء قوم على قوم، أو وطن على وطن، أو زعيم على زعيم، أو من أجل مصلحة دنيوية، لا، فالمجاهد الصادق لا يعرف شيئاً من ذلك، فهو إذ يُجاهد، يُجاهد في سبيل الله، يُجاهد لكي تكون كلمة الله هي العليا، لكي يُعبِّد العباد لرب العباد، ويحررهم من العبودية للعبيد، لكي يأطرهم من جور الأديان وأغلالها، إلى عدل الإسلام ورحمته، وكل ذلك مضبوط بضوابط الشرع وأحكامه، ليس للهوى أو النزوات في ذلك وجود يُذكر.
ليس لنفسك حظاً في القتال أو الجهاد؛ فالأمر كله لله، كما قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [ال عمران: 128].
بدليل لو أن الكافر - في ساحات القتال - قد قطع رجلك ويدك، ونال منك بجراحات عدة، ثم قدرت عليه، وقبل أن تقتله قال لك: "أشهد أن لا إله إلا الله"، لما جاز لك قتله، أو مسه بسوء، ولأصبح بعد نطقه لهذه الكلمة الطيبة المباركة "أخوك"، رغماً عن أنفك، مهما كان في نفسك عليه من الغل أو الغيظ... إنه الإسلام.
قد يكون هذا في عرف جيوش الآخرين، وفي عرف الأنظمة الجاهلية الأخرى؛ ضرب من الخيال أو المثالية الغير ممكنة، لكنه في الإسلام، دين الله، حق واقع، وأمر مجرَّب، لا يمكن مخالفته، وما أكثر الأمثلة على صدق ذلك لو أردنا الإحصاء.
هذه جملة من الضوابط الشرعية أذكِّر نفسي وإخواني بها، لما في العمل بها من خير كثير على ملة الإسلام بعامة، وعلى الجهاد والمجاهدين بخاصة.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود: 88].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
10/1/1423 هـ