الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد:
فقد كثر تساؤل الإخوان في هذا المنتدى وغيره من المنتديات حول مسألة تكفير المعين ، ومسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، ومسألة الخروج على الحاكم ، بعد نشر المقالة السابقة "لا .. لا لتكفير الحكام" ، وكان أن طلب بعض الإخوة زيادة البيان في هذه المسائل .. فأقول ، مستعيناً بالله:
هل يجوز تكفير المعيّن:
الجواب: يقول الشيخ الفقيه المفسر اللغوي علّامة عصره محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله وطيّب ثراه): يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر ، إذا تحققت فيه أسباب الكفر ، فلو أننا رأينا رجلاً ينكر الرسالة، أو رجلاً يبيح التحاكم إلى الطاغوت ، أو رجلاً يبيح الحكم بغير ما أنزل الله ، ويقول : إنه خير من حكم الله بعد أن تقوم الحجة عليه ، فإننا نحكم عليه بأنه كافر فإذا وجدت أسباب الكفر وتحققت الشروط وانتفت الموانع فإننا نكفر الشخص بعينه ونلزمه بالرجوع إلى الإسلام أو القتل [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 218]
وقال رحمه الله: ولو لم نقل بذلك ما انطبق وصف الردة على أحد، فيعامل معاملة المرتد في الدنيا ، هذا باعتبار أحكام الدنيا ، أما أحكام الآخرة فتذكر على العموم لا على الخصوص ولهذا قال أهل السنة:
لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي ، صلى الله عليه وسلم. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 219]
وللحكم بتكفير المعيّن شرطان (حيث قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله):
أحدهما : أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء (الذي فعله) مما يكفر.
الثاني : انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون: عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر. لقوله تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" . وقوله : "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" وقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين ، لم يعذر ، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ.
وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك ، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه ، كقول صاحب البعير الذي أضلها ، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه ، وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح.
لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك ، كما نص عليه أهل العلم. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 220]
وقال رحمه الله: ومن موانع التكفير أيضاً أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق ؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله تعالى "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم" . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله تعالى "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" ، قال في المغني (8/131) "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك –يعني يكون كافراً – وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين ، وأموالهم ، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى ، إلى أن قال "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم ، وأموالهم ، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم ، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 224]
أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله:
فقد قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فالحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله-تعالى-المتبوعين في غير ما أنزل الله -تعالى-أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" ، فسمى الله تعالى المتبوعين أرباباً حيث جعلوا مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يعبدوهم فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله ، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه ، وآيات بكفره وظلمه ، وفسقه.
والتحاكم إلى غير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين (كما قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله):
فأما القسم الأول:
فمثل قوله تعالى "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً.وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماُ.فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"
فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى :
أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ، وهو كل ما خالف حكم الله –تعالى – ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله وهو الله قال الله تعالى "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" .
الثانية: أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم ، ومنها أن يعثر على صنيعهم جاؤوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعماً منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.
ثم حذر -سبحانه- هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه-سبحانه- يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون ، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم - تعالى - بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته ، صلى الله عليه وسلم، أقسم بها قسماً مؤكداً أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث : أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.
وأما القسم الثاني:
فمثل قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، وقوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ، وقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم، فاسق ، لأن الله -تعالى- وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال تعالى "والكافرون هم الظالمون" . وقال تعالى "إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون" . فكل كافر ظالم فاسق ، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله؟ هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.
فنقول (والكلام للشيخ رحمه الله) : من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له ، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة ، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية ، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم عليه، أو انتقاماً منه لنفسه أو نحو ذلك ، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ، ولا احتقاراً ، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح ، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق ، وليس بكافر ، وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله : إنهم على وجهين:
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم ، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً.
الثاني:أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه - ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب . [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 227]
إذاً: الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين (كما قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله) :
أحدهما (والكلام له رحمه الله) : أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله تعالى بحيث يكون عالماً بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله ، أو أنه مساو لحكم الله ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه فمثل هذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لأن فاعله لم يرض بالله رباً ولا بمحمد رسولاً ولا بالإسلام ديناً وعليه ينطبق قوله تعالى "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" وقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
وقوله تعالى "ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم . فكيف إذ توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم" ولا ينفعه صلاة ، ولا زكاة ، ولا صوم ، ولا حج ؛ لأن الكافر ببعض كافر به كله قال الله تعالى "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".
وقال سبحانه : "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً . أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً"
الثاني: أن يستبدل بحكم الله – تعالى – حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات :
الأولى: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله-تعالى – معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد ، أو أنه مساو له ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لما سبق في القسم الأول.
الثانية : أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله معتقداً أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له ، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"
الثالثة : أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون"
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة –نسأل الله-تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم –كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 228]
[ملاحظة هامة: لقد فرّق الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بين الذي يضع قانوناً مخالفاً للشرع في الدستور فضلاً عن الذي يغير الدستور كله ويجعله مخالفاً للشريعة ومستنبطاً من القوانين الكفرية وبين الذي يحكم بغير ما أنزل الله في مسألة ضمن دستور شرعي إسلامي ، فالأول كافر بلا جدال ، والثاني هو الذي عليه الكلام والتفصيل الذي ذكره الله في سورة المائدة والذي يقع عليه قول ابن عباس رضي الله عنه (إن صح ، لأن بعض المحدثين ضّف الرواية ، وخالف هذه الرواية الكثير من العلماء) بأنه كفر دون كفر ، وهذا هو ما التبس على كثير من الناس الذين حملوا بعض أقوال العلماء على القسم الأول. (ولعلنا نذكر بعض أقوال العلماء في آخر المقالة لزيادة البيان)].
أما مسألة الخروج على الحاكم:
فقد قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فالحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله ، ولا تجب محاربته من أجل ذلك ، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر فحينئذ تجب منابذته ، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين :
الأول : أن يكون عالماً بحكم الله ورسوله ، فإن كان جاهلاً به لم يكفر بمخالفته.
الثاني : أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه ، وأنفع للعباد ، وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة لقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، وتبطل ولاية الحاكم ، ولا يكون له طاعة على الناس ، وتجب محاربته ، وإبعاده ، عن الحكم . [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 229]
الخلاصة:
أولاً: يجوز تكفير المعيّن (من قبل أهل العلم والإختصاص) إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع ، ويُنظر في الجهر به للمصلحة ، وتطبق عليه أحكام الردة ، وفي عدم التعيين تعطيل لأحكام الردة المنصوص عليها شرعاً.
ثانياً: من وضع قانوناً واحداً في الدستور (عالماً مختاراً غير متأوّل) يخالف شرع الله (فضلاً عن دستور كامل) فهو كافر خارج عن ملّة الإسلام (وان اعتقد بأن شرع الله أولى وأفضل [انظر رسالة "تحكيم القوانين" للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ورسالة: "وجوب تحكيم شرع الله" للعلامة ابن باز رحمه الله]) ، ومن أقرّه على ذلك أو رضي به فهو كافر مثله إذ أن الرضى بالكفر كفر ..
وإذا كان القانون والدستور في بلد ما هو الشريعة الإسلامية ولكن حكم الحاكم بغير الشرع في مسألة معيّنة فهذا يُحمل على التفصيل المبيّن أعلاه من الكفر والظلم والفسق ..
و موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله ، وتمكين الكفار من قتل المسلمين واحتلال بلادهم هو من الكفر الأكبر المُخرج من الملة باتفاق المسلمين سلفاً وخلفاً ، وفاعله – إن كان حاكما – فهو كافر يجب خلعه.
ثالثاً: مسألة الخروج على الحاكم الكافر من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى نظر في الواقع بعد النظر في الحكم الشرعي ، ويحتاج الخروج إلى رأي وإعداد وعلم وتأييد وقوة وغيرها من الأمور التي لا تتأتى لأي إنسان ، ومتى ما تعيّن الخروج على حاكم بعينه فيجب على المجتمع الإسلامي (بقيادة العلماء ووجهاء الناس) أن يعملوا جاهدين على إزالة الحاكم الكافر عن الحكم (بعد بذل النصح والإعذار والبيان) ، فإذا لم يتعض الحاكم ويرد عن كفره وجب إزالته (إجماعاً) بكل ما يستطيعه المسلمون لأنه لا يجوز لكافر أن يحكم المسلمين .. وإذا لم تكن في الشعوب قدرة على إزالته في الحال فعليهم الإعداء لذلك ، وقد تقرر عند أهل العلم أنه "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ، ولا يسع المسلمين السكوت عليه والرضى بالحال ، وكُلٌّ يعمل حسب طاقته.
وننقل هنا بعض أقوال أهل العلم في مسألة تكفير من لم يحكم شرع الله لزيادة البيان:
- قال الإمام ابن جَرير رحمه الله "... عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود رضي الله عنه عن الرشوة فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم ؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هُمُ الكافرونَ}.
-وقال ابن كثير: "قال السدي: يقول تعالى ومن لم يحكم بما أنزَلْتُ فتَرَكَه عمداً أو جارٍ وهو يعلم، فهو من الكافرين" .. أقول: وما يفعله كثير من الحكام اليوم هو من الجور بعد العلم.
- وقال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية {فأُولئك هم الكافرون} قال: "لفظ "مَن" مِن صنيع العموم، فيُفيد أنّ هذا غيرُ مختصٍ بطائفة معيّنة، بل بكل من ولي الحكم .. وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله [إذا] وقع استخفافاً أو استحلالاً أو جحداً" .. أقول: وأي استخفاف أعظم من تبديل شرع الله بغيره وجعله دستوراً للناس وإلزام الناس به !!
- وقال رحمه الله في رسالته "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل" «القسم الثاني: ... منها: أنهم يحكمون ويتحاكمون إلى من لا يعرف إلاّ الأحكام الطاغوتية منهم في جميع الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم... ولا شك أنّ هذا كفر بالله سبحانه وتعالى وبشريعته التي أمر بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم واختارها لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بل كفروا بجميع الشرائع من عند آدم عليه الصلاة والسلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب وقتالهم متعيّن حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية .. وقد تقرر في القواعد الإسلامية: أن منكر القطعيّ وجاحده، والعامل على خلافه، تمرداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً، كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله تعالى لعباده"
- وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "والطواغيت كثيرة وروؤسهم خمسة: الأول: الشيطان.. والثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله .. والثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله .. الرابع: الذي يدّعي علم الغيب من دون الله .. الخامس: الذي يُعبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة"
- قال الإمام السُدي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله}: "من تركه عمداً أو جارٍ وهو يعلم فهو من الكافرين"
- وقال الإمام ابن راهويه رحمه الله تعالى: «قد أجمع المسلمون أنّ من سبّ الله تعالى، أو سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو دفع شيئاً ممّا أنزل الله، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله، أنّه كافرٌ بذلك، وإن كان مقرّاً بما أنزل الله" (الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية) ..
- وقال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى "أمّا الذي يجتهد ويشرّع على قواعد خارجة عن قواعد الإسلام، فإنّه لا يكون مجتهداً ولا يكون مسلماً، إذا قصد إلى وضع ما يراه من الأحكام وافقت الإسلام أم خالفته... بل كانوا بها لا يقلون عن أنفسهم كفراً حين يخالفون" ..
- وقال ابن حزم رحمه الله (في الإحكام ج1 ص 73) : "فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى اللع عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالاً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يحل شيئا كان حراماً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يوجب حدا لم يكن واجباً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يشرّع شريعة لم تكن في حياته صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشركٌ حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق"..
- وقال أيضا: "لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه: إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعض حد الزنا أو حد القذف، أو إسقاط جميع ذلك، وإما زيادة في شيء منها، أو إحداث فرض جديد، وإما إحلال محرم كتحليل لحم ال***** والخمر والميتة، وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك، وأي هذه الوجوه كان فالقائل به كافر مشرك لاحق باليهود والنصارى، والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين لأنه مبدل لدينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " ومن الله تعالى نعوذ من غضبة لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك" (الإحكام : ج6 ص110).
- قال الشيخ الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في تعليقه على قول ابن حزم: "وهؤلاء المشرّعون ما لم يأذن به الله تعالى، إنما وضعوا تلك الأحكام الطاغوتية لاعتقادهم أنها أصلح وأنفع للخلق وهذه ردة عن الإسلام، بل إن اعتبار شيء من تلك الأحكام ولو في أقل القليل [يعتبر] عدم رضا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كفر ناقل عن الملة، إضافة إلى أن هذا التشريع يُعدّ تجويزاً وتسويغاً للخروج على الشرع المنزّل، ومن سوّغ الخروج على هذه الشريعة فهو كافرٌ بالإجماع".
- وقال الإمام أبو حيّان الأندلسي منكراً على من استدلّ على أنّ الكفر الوارد في الآية {فأولئك هم الكافرون} كفر أصغر: «وقيل المراد كفر النعمة، وضعف بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين، وقالها ابن الأنباري: فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار. وضعف بأنّه عدول عن الظاهر" (تفسير البحر المحيط : ج3 ص493)
- وقال الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] أن: "...في هذه الآيات دلائل على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهب الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة..." (التفسير الكبير)
- قال الإمام الجصاص رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفُسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]: «وفي هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواءً ردّهُ من جهة الشكِ فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأنّ الله تعالى حكم بأنّ من لم يسلِّم للنبيّ صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان" (أحكام القرآن : ج3)
- قال الإمام الجويني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر حال المستحلّ الذنوب: "وما أقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ من سنن الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدة الدين، ومن تشبث بهذا فقد انسل عن ربقة الدين انسلال الشعرة من العجين" (غياث الأمم)
- وقال الإمام البيضاوي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلاّ ليُطاع بإذن الله} [النساء: 64]: "وكأنّه احتجّ بذلك على أنّ الذي لم يرضَ بحكمه -وإن أظهر الإسلام- كان كافراً مستوجب القتل، وتقريره أنّ إرسال الرسول لمّا لم يكن إلاّ ليطاع، كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه، لم يقبل رسالتَه، ومن كان كذلك كان كافراً مستوجب القتل" (أنوار التنزيل)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه وحرَّم الحلال المجمعُ عليه أو بدَّل الشرع المجمعُ عليه كان كافراً مرتداً باتّفاق الفقهاء" (مجموع الفتاوى ج3 ص267) .. أقول: وهل هناك خلاف في تحريم الخمر والزنا والربا وموالاة الكفار وفرضِيَّة الجهاد في سبيل الله !!
- وقال كذلك: "ولا ريب أنّ من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، فمن استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباعٍ لما أنزل الله فهو كافر، فإنّه ما من أمّة إلاّ وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أنّ هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإنّ كثيراً من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلاّ بالعادات الجارية بينهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنّه لا يجوز الحكم إلاّ بما أنزل الله فلم يلتزموا بذلك بل استحلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفّار، والحكم بما أنزل الله واجب على النبيّ صلى الله عليه وسلم وكلّ من تبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر" (منهاج السنة ج3 ص 22).
- وقال في رسالته "التسعينيّة": "والإيجاب والتحريم ليس إلاّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن عاقب على فعل أو ترك، بغير أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرّع ذلك ديناً، فقد جعل لله نداً ولرسوله صلى الله عليه وسلم نظيراً، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذّاب، وهو ممّن قيل فيه {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}" (مجموع الفتاوى : ج5 ص14)
- وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى قال: «...إن اعتقد [أي الحاكم] أن الحكم بما أنزل الله غير واجب أو أنه مخير فيه أو استهان به مع تيقّنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر..." (شرح الطحاوية : ج2 ص446) .. أقول: وأي تهاون أعظم من استبدال شرع الله بشرع الكفار !!
- وقال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى {وما أُولئك بالمؤمنين}: "فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يُحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طُبق عليهم. إنما يَدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع. «وما أولئك بالمؤمنين» فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب، بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان".
- وقال الإمام محمود الألوسي رحمه الله تعالى : "لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا، كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم... فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها [القوانين الوضعية] ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها" (تفسير روح المعاني : ج20 ص 21-28 باختصار)
- وقال الإمام ابن كثير رحمه الله رحمه الله: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين" (البداية والنهاية : ج14 ص119)
- وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} [المائدة: 50]: «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم [جنكيز خان] الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يُحكّم سواه في قليلٍ ولا كثير"
- وقال محدث عصره الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على كلام الإمام الحافظ ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون} :«أقول: أَفَيَجُوز في شرع الله تعالى أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيّرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أَوَافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟ إن المسلمين لم يُبلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلاّ في ذلك العهد عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شِرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبما أن الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلّموه ولم يعلّموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره، أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- [الهجري] لذاك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر الهجري؟ إلاّ في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمن سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً، وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجلٌ كافرٌ ظاهرُ الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلّمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباءً وأبناء، ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويُحَقِّرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و "جامداً" إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم" الجديد بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرّحون ولا يستحيون بأنهم يعملون على فصل الدولة من الدين! أفيجوز إذن -مع هذا- لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟ أَوَيَجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا "الياسق العصري" وأن يعمل به ويُعرِض عن شريعته البيّنة؟ ما أظنّ أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويُؤمن به جملة وتفصيلا ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم كتاباً مُحكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلاّ أن يجزم غير متردد ولا متأول، بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة، إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كُفرٌ بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عُذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤٌ لنفسه، وكل امرئٍ حسيبُ نفسه" (عمدة التفسير : ج4 ص171-172)
وبعد:
فهذه نقولات أهل العلم الذين بيّنوا وبرّأوا ذممهم وتبرّأوا مما ابتدعه الناس من تبديل لشرع الله واستخفاف بأوامره وانصراف عن أحكامه وزهدٍ في اتباع نبيّه ، فالكلام بيّن واضح لا يحتاج إلى تعليق أو تفسير لمن يفهم اللغة العربية وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته .. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..
فقد كثر تساؤل الإخوان في هذا المنتدى وغيره من المنتديات حول مسألة تكفير المعين ، ومسألة الحكم بغير ما أنزل الله ، ومسألة الخروج على الحاكم ، بعد نشر المقالة السابقة "لا .. لا لتكفير الحكام" ، وكان أن طلب بعض الإخوة زيادة البيان في هذه المسائل .. فأقول ، مستعيناً بالله:
هل يجوز تكفير المعيّن:
الجواب: يقول الشيخ الفقيه المفسر اللغوي علّامة عصره محمد بن صالح العثيمين (رحمه الله وطيّب ثراه): يجوز لنا أن نطلق على شخص بعينه أنه كافر ، إذا تحققت فيه أسباب الكفر ، فلو أننا رأينا رجلاً ينكر الرسالة، أو رجلاً يبيح التحاكم إلى الطاغوت ، أو رجلاً يبيح الحكم بغير ما أنزل الله ، ويقول : إنه خير من حكم الله بعد أن تقوم الحجة عليه ، فإننا نحكم عليه بأنه كافر فإذا وجدت أسباب الكفر وتحققت الشروط وانتفت الموانع فإننا نكفر الشخص بعينه ونلزمه بالرجوع إلى الإسلام أو القتل [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 218]
وقال رحمه الله: ولو لم نقل بذلك ما انطبق وصف الردة على أحد، فيعامل معاملة المرتد في الدنيا ، هذا باعتبار أحكام الدنيا ، أما أحكام الآخرة فتذكر على العموم لا على الخصوص ولهذا قال أهل السنة:
لا نشهد لأحد بجنة ولا نار إلا لمن شهد له النبي ، صلى الله عليه وسلم. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 219]
وللحكم بتكفير المعيّن شرطان (حيث قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله):
أحدهما : أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء (الذي فعله) مما يكفر.
الثاني : انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون: عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر. لقوله تعالى "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً" . وقوله : "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" وقوله: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين ، لم يعذر ، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت ، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ.
وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك ، مثل أن يكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومثل أن ينغلق فكره فلا يدري ما يقول لشدة فرح ونحوه ، كقول صاحب البعير الذي أضلها ، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت فإذا بخطامها متعلقاً بالشجرة فأخذه ، وقال: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح.
لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك ، كما نص عليه أهل العلم. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 220]
وقال رحمه الله: ومن موانع التكفير أيضاً أن يكون له شبهة تأويل في المكفر بحيث يظن أنه على حق ؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلاً في قوله تعالى "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم" . ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله تعالى "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" ، قال في المغني (8/131) "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك –يعني يكون كافراً – وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين ، وأموالهم ، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى ، إلى أن قال "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم ، وأموالهم ، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم ، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 224]
أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله:
فقد قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: فالحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته ، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله-تعالى-المتبوعين في غير ما أنزل الله -تعالى-أرباباً لمتبعيهم فقال سبحانه "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" ، فسمى الله تعالى المتبوعين أرباباً حيث جعلوا مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم لم يعبدوهم فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "بل إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".
إذا فهمت ذلك فاعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله ، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه ، وآيات بكفره وظلمه ، وفسقه.
والتحاكم إلى غير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين (كما قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله):
فأما القسم الأول:
فمثل قوله تعالى "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً . فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً.وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماُ.فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"
فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى :
أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ، وهو كل ما خالف حكم الله –تعالى – ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان واعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله وهو الله قال الله تعالى "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" .
الثانية: أنهم إذا دُعُوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم ، ومنها أن يعثر على صنيعهم جاؤوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعماً منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.
ثم حذر -سبحانه- هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه-سبحانه- يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون ، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم، ثم أقسم - تعالى - بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته ، صلى الله عليه وسلم، أقسم بها قسماً مؤكداً أنه لا يصلح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث : أن يحصل التسليم التام بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو انحراف.
وأما القسم الثاني:
فمثل قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، وقوله "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" ، وقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم، فاسق ، لأن الله -تعالى- وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال تعالى "والكافرون هم الظالمون" . وقال تعالى "إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون" . فكل كافر ظالم فاسق ، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله؟ هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.
فنقول (والكلام للشيخ رحمه الله) : من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً له ، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة ، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق ، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية ، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه. ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره تسلطاً على المحكوم عليه، أو انتقاماً منه لنفسه أو نحو ذلك ، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم الله ، ولا احتقاراً ، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح ، وأنفع للخلق ، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق ، وليس بكافر ، وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله : إنهم على وجهين:
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم ، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركاً.
الثاني:أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه - ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب . [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 227]
إذاً: الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين (كما قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله) :
أحدهما (والكلام له رحمه الله) : أن يستبدل هذا الحكم بحكم الله تعالى بحيث يكون عالماً بحكم الله، ولكنه يرى أن الحكم المخالف له أولى وأنفع للعباد من حكم الله ، أو أنه مساو لحكم الله ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فيجعله القانون الذي يجب التحاكم إليه فمثل هذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لأن فاعله لم يرض بالله رباً ولا بمحمد رسولاً ولا بالإسلام ديناً وعليه ينطبق قوله تعالى "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" وقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
وقوله تعالى "ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم أسرارهم . فكيف إذ توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم" ولا ينفعه صلاة ، ولا زكاة ، ولا صوم ، ولا حج ؛ لأن الكافر ببعض كافر به كله قال الله تعالى "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".
وقال سبحانه : "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً . أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً"
الثاني: أن يستبدل بحكم الله – تعالى – حكماً مخالفاً له في قضية معينة دون أن يجعل ذلك قانوناً يجب التحاكم إليه فله ثلاث حالات :
الأولى: أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله-تعالى – معتقداً أن ما خالفه أولى منه وأنفع للعباد ، أو أنه مساو له ، أو أن العدول عن حكم الله إليه جائز فهذا كافر كفراً مخرجاً عن الملة لما سبق في القسم الأول.
الثانية : أن يفعل ذلك عالماً بحكم الله معتقداً أنه أولى وأنفع لكن خالفه بقصد الإضرار بالمحكوم عليه أو نفع المحكوم له ، فهذا ظالم وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"
الثالثة : أن يكون كذلك لكن خالفه لهوى في نفسه أو مصلحة تعود إليه فهذا فاسق وليس بكافر وعليه يتنزل قول الله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل فأولئك هم الفاسقون"
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة –نسأل الله-تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم –كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 228]
[ملاحظة هامة: لقد فرّق الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله بين الذي يضع قانوناً مخالفاً للشرع في الدستور فضلاً عن الذي يغير الدستور كله ويجعله مخالفاً للشريعة ومستنبطاً من القوانين الكفرية وبين الذي يحكم بغير ما أنزل الله في مسألة ضمن دستور شرعي إسلامي ، فالأول كافر بلا جدال ، والثاني هو الذي عليه الكلام والتفصيل الذي ذكره الله في سورة المائدة والذي يقع عليه قول ابن عباس رضي الله عنه (إن صح ، لأن بعض المحدثين ضّف الرواية ، وخالف هذه الرواية الكثير من العلماء) بأنه كفر دون كفر ، وهذا هو ما التبس على كثير من الناس الذين حملوا بعض أقوال العلماء على القسم الأول. (ولعلنا نذكر بعض أقوال العلماء في آخر المقالة لزيادة البيان)].
أما مسألة الخروج على الحاكم:
فقد قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فالحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله ، ولا تجب محاربته من أجل ذلك ، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر فحينئذ تجب منابذته ، وليس له طاعة على المسلمين.
والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين :
الأول : أن يكون عالماً بحكم الله ورسوله ، فإن كان جاهلاً به لم يكفر بمخالفته.
الثاني : أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه ، وأنفع للعباد ، وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً مخرجاً عن الملة لقوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" ، وتبطل ولاية الحاكم ، ولا يكون له طاعة على الناس ، وتجب محاربته ، وإبعاده ، عن الحكم . [مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين – ج2 ، س 229]
الخلاصة:
أولاً: يجوز تكفير المعيّن (من قبل أهل العلم والإختصاص) إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع ، ويُنظر في الجهر به للمصلحة ، وتطبق عليه أحكام الردة ، وفي عدم التعيين تعطيل لأحكام الردة المنصوص عليها شرعاً.
ثانياً: من وضع قانوناً واحداً في الدستور (عالماً مختاراً غير متأوّل) يخالف شرع الله (فضلاً عن دستور كامل) فهو كافر خارج عن ملّة الإسلام (وان اعتقد بأن شرع الله أولى وأفضل [انظر رسالة "تحكيم القوانين" للعلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ورسالة: "وجوب تحكيم شرع الله" للعلامة ابن باز رحمه الله]) ، ومن أقرّه على ذلك أو رضي به فهو كافر مثله إذ أن الرضى بالكفر كفر ..
وإذا كان القانون والدستور في بلد ما هو الشريعة الإسلامية ولكن حكم الحاكم بغير الشرع في مسألة معيّنة فهذا يُحمل على التفصيل المبيّن أعلاه من الكفر والظلم والفسق ..
و موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله ، وتمكين الكفار من قتل المسلمين واحتلال بلادهم هو من الكفر الأكبر المُخرج من الملة باتفاق المسلمين سلفاً وخلفاً ، وفاعله – إن كان حاكما – فهو كافر يجب خلعه.
ثالثاً: مسألة الخروج على الحاكم الكافر من المسائل الشائكة التي تحتاج إلى نظر في الواقع بعد النظر في الحكم الشرعي ، ويحتاج الخروج إلى رأي وإعداد وعلم وتأييد وقوة وغيرها من الأمور التي لا تتأتى لأي إنسان ، ومتى ما تعيّن الخروج على حاكم بعينه فيجب على المجتمع الإسلامي (بقيادة العلماء ووجهاء الناس) أن يعملوا جاهدين على إزالة الحاكم الكافر عن الحكم (بعد بذل النصح والإعذار والبيان) ، فإذا لم يتعض الحاكم ويرد عن كفره وجب إزالته (إجماعاً) بكل ما يستطيعه المسلمون لأنه لا يجوز لكافر أن يحكم المسلمين .. وإذا لم تكن في الشعوب قدرة على إزالته في الحال فعليهم الإعداء لذلك ، وقد تقرر عند أهل العلم أنه "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" ، ولا يسع المسلمين السكوت عليه والرضى بالحال ، وكُلٌّ يعمل حسب طاقته.
وننقل هنا بعض أقوال أهل العلم في مسألة تكفير من لم يحكم شرع الله لزيادة البيان:
- قال الإمام ابن جَرير رحمه الله "... عن علقمة ومسروق أنهما سألا ابن مسعود رضي الله عنه عن الرشوة فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم ؟ قال: ذاك الكفر، ثم تلا قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هُمُ الكافرونَ}.
-وقال ابن كثير: "قال السدي: يقول تعالى ومن لم يحكم بما أنزَلْتُ فتَرَكَه عمداً أو جارٍ وهو يعلم، فهو من الكافرين" .. أقول: وما يفعله كثير من الحكام اليوم هو من الجور بعد العلم.
- وقال الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية {فأُولئك هم الكافرون} قال: "لفظ "مَن" مِن صنيع العموم، فيُفيد أنّ هذا غيرُ مختصٍ بطائفة معيّنة، بل بكل من ولي الحكم .. وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله [إذا] وقع استخفافاً أو استحلالاً أو جحداً" .. أقول: وأي استخفاف أعظم من تبديل شرع الله بغيره وجعله دستوراً للناس وإلزام الناس به !!
- وقال رحمه الله في رسالته "الدواء العاجل في دفع العدو الصائل" «القسم الثاني: ... منها: أنهم يحكمون ويتحاكمون إلى من لا يعرف إلاّ الأحكام الطاغوتية منهم في جميع الأمور التي تنوبهم وتعرض لهم... ولا شك أنّ هذا كفر بالله سبحانه وتعالى وبشريعته التي أمر بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم واختارها لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بل كفروا بجميع الشرائع من عند آدم عليه الصلاة والسلام إلى الآن، وهؤلاء جهادهم واجب وقتالهم متعيّن حتى يقبلوا أحكام الإسلام ويذعنوا لها ويحكموا بينهم بالشريعة المطهرة ويخرجوا من جميع ما هم فيه من الطواغيت الشيطانية .. وقد تقرر في القواعد الإسلامية: أن منكر القطعيّ وجاحده، والعامل على خلافه، تمرداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً، كافر بالله وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله تعالى لعباده"
- وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "والطواغيت كثيرة وروؤسهم خمسة: الأول: الشيطان.. والثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله .. والثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله .. الرابع: الذي يدّعي علم الغيب من دون الله .. الخامس: الذي يُعبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة"
- قال الإمام السُدي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله}: "من تركه عمداً أو جارٍ وهو يعلم فهو من الكافرين"
- وقال الإمام ابن راهويه رحمه الله تعالى: «قد أجمع المسلمون أنّ من سبّ الله تعالى، أو سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو دفع شيئاً ممّا أنزل الله، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله، أنّه كافرٌ بذلك، وإن كان مقرّاً بما أنزل الله" (الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية) ..
- وقال الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى "أمّا الذي يجتهد ويشرّع على قواعد خارجة عن قواعد الإسلام، فإنّه لا يكون مجتهداً ولا يكون مسلماً، إذا قصد إلى وضع ما يراه من الأحكام وافقت الإسلام أم خالفته... بل كانوا بها لا يقلون عن أنفسهم كفراً حين يخالفون" ..
- وقال ابن حزم رحمه الله (في الإحكام ج1 ص 73) : "فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى اللع عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالاً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يحل شيئا كان حراماً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يوجب حدا لم يكن واجباً إلى حين موته صلى الله عليه وسلم أو يشرّع شريعة لم تكن في حياته صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشركٌ حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق"..
- وقال أيضا: "لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه: إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعض حد الزنا أو حد القذف، أو إسقاط جميع ذلك، وإما زيادة في شيء منها، أو إحداث فرض جديد، وإما إحلال محرم كتحليل لحم ال***** والخمر والميتة، وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك، وأي هذه الوجوه كان فالقائل به كافر مشرك لاحق باليهود والنصارى، والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين لأنه مبدل لدينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من بدل دينه فاقتلوه " ومن الله تعالى نعوذ من غضبة لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك" (الإحكام : ج6 ص110).
- قال الشيخ الدكتور عبد العزيز العبد اللطيف في تعليقه على قول ابن حزم: "وهؤلاء المشرّعون ما لم يأذن به الله تعالى، إنما وضعوا تلك الأحكام الطاغوتية لاعتقادهم أنها أصلح وأنفع للخلق وهذه ردة عن الإسلام، بل إن اعتبار شيء من تلك الأحكام ولو في أقل القليل [يعتبر] عدم رضا بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كفر ناقل عن الملة، إضافة إلى أن هذا التشريع يُعدّ تجويزاً وتسويغاً للخروج على الشرع المنزّل، ومن سوّغ الخروج على هذه الشريعة فهو كافرٌ بالإجماع".
- وقال الإمام أبو حيّان الأندلسي منكراً على من استدلّ على أنّ الكفر الوارد في الآية {فأولئك هم الكافرون} كفر أصغر: «وقيل المراد كفر النعمة، وضعف بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين، وقالها ابن الأنباري: فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار. وضعف بأنّه عدول عن الظاهر" (تفسير البحر المحيط : ج3 ص493)
- وقال الإمام الرازي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] أن: "...في هذه الآيات دلائل على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهب الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة..." (التفسير الكبير)
- قال الإمام الجصاص رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفُسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]: «وفي هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواءً ردّهُ من جهة الشكِ فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأنّ الله تعالى حكم بأنّ من لم يسلِّم للنبيّ صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان" (أحكام القرآن : ج3)
- قال الإمام الجويني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر حال المستحلّ الذنوب: "وما أقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ من سنن الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدة الدين، ومن تشبث بهذا فقد انسل عن ربقة الدين انسلال الشعرة من العجين" (غياث الأمم)
- وقال الإمام البيضاوي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلاّ ليُطاع بإذن الله} [النساء: 64]: "وكأنّه احتجّ بذلك على أنّ الذي لم يرضَ بحكمه -وإن أظهر الإسلام- كان كافراً مستوجب القتل، وتقريره أنّ إرسال الرسول لمّا لم يكن إلاّ ليطاع، كان من لم يطعه ولم يرض بحكمه، لم يقبل رسالتَه، ومن كان كذلك كان كافراً مستوجب القتل" (أنوار التنزيل)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه وحرَّم الحلال المجمعُ عليه أو بدَّل الشرع المجمعُ عليه كان كافراً مرتداً باتّفاق الفقهاء" (مجموع الفتاوى ج3 ص267) .. أقول: وهل هناك خلاف في تحريم الخمر والزنا والربا وموالاة الكفار وفرضِيَّة الجهاد في سبيل الله !!
- وقال كذلك: "ولا ريب أنّ من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، فمن استحلّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباعٍ لما أنزل الله فهو كافر، فإنّه ما من أمّة إلاّ وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أنّ هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر، فإنّ كثيراً من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلاّ بالعادات الجارية بينهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنّه لا يجوز الحكم إلاّ بما أنزل الله فلم يلتزموا بذلك بل استحلّوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفّار، والحكم بما أنزل الله واجب على النبيّ صلى الله عليه وسلم وكلّ من تبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر" (منهاج السنة ج3 ص 22).
- وقال في رسالته "التسعينيّة": "والإيجاب والتحريم ليس إلاّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن عاقب على فعل أو ترك، بغير أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرّع ذلك ديناً، فقد جعل لله نداً ولرسوله صلى الله عليه وسلم نظيراً، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أنداداً أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذّاب، وهو ممّن قيل فيه {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}" (مجموع الفتاوى : ج5 ص14)
- وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى قال: «...إن اعتقد [أي الحاكم] أن الحكم بما أنزل الله غير واجب أو أنه مخير فيه أو استهان به مع تيقّنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر..." (شرح الطحاوية : ج2 ص446) .. أقول: وأي تهاون أعظم من استبدال شرع الله بشرع الكفار !!
- وقال سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى {وما أُولئك بالمؤمنين}: "فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يُحكمون شريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طُبق عليهم. إنما يَدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع. «وما أولئك بالمؤمنين» فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب، بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين، يخرجهم من دائرة الإيمان، مهما ادعوه باللسان".
- وقال الإمام محمود الألوسي رحمه الله تعالى : "لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا، كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم... فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها [القوانين الوضعية] ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها" (تفسير روح المعاني : ج20 ص 21-28 باختصار)
- وقال الإمام ابن كثير رحمه الله رحمه الله: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدّمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين" (البداية والنهاية : ج14 ص119)
- وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون} [المائدة: 50]: «ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم [جنكيز خان] الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يُحكّم سواه في قليلٍ ولا كثير"
- وقال محدث عصره الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على كلام الإمام الحافظ ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون} :«أقول: أَفَيَجُوز في شرع الله تعالى أن يُحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة، يغيّرونه ويبدلونه كما يشاؤون، لا يبالي واضعه أَوَافق شِرعة الإسلام أم خالفها؟ إن المسلمين لم يُبلوا بهذا قط -فيما نعلم من تاريخهم- إلاّ في ذلك العهد عهد التتار، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له، بل غلب الإسلام التتار، ثم مزجهم فأدخلهم في شِرعته، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم، وبما أن الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة، ولم يتعلّموه ولم يعلّموه أبناءهم، فما أسرع ما زال أثره، أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير -في القرن الثامن- [الهجري] لذاك القانون الوضعي، الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر، في القرن الرابع عشر الهجري؟ إلاّ في فرق واحد أشرنا إليه آنفاً: أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام أتى عليها الزمن سريعاً فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت، ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالاً، وأشد ظلماً وظلاماً منهم، لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة، والتي هي أشبه شيء بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجلٌ كافرٌ ظاهرُ الكفر، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام، ثم يتعلّمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباءً وأبناء، ثم يجعلون مردّ أمرهم إلى معتنقي هذا "الياسق العصري" ويُحَقِّرون من يخالفهم في ذلك، ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعياً" و "جامداً" إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة، بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي، يريدون تحويله إلى "ياسقهم" الجديد بالهوينا واللين تارة، وبالمكر والخديعة تارة، وبما ملكت أيديهم من السلطات تارات، ويصرّحون ولا يستحيون بأنهم يعملون على فصل الدولة من الدين! أفيجوز إذن -مع هذا- لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد، أعني التشريع الجديد؟ أَوَيَجوز لرجل مسلم أن يليَ القضاء في ظل هذا "الياسق العصري" وأن يعمل به ويُعرِض عن شريعته البيّنة؟ ما أظنّ أن رجلاً مسلماً يعرف دينه ويُؤمن به جملة وتفصيلا ويؤمن بأن هذا القرآن أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم كتاباً مُحكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وبأن طاعته وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به واجبة قطعية الوجوب في كل حال، ما أظنه يستطيع إلاّ أن يجزم غير متردد ولا متأول، بأن ولاية القضاء في هذه الحال باطلة بطلاناً أصلياً، لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة، إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كُفرٌ بواح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عُذر لأحد ممن ينتسب للإسلام -كائناً من كان- في العمل بها، أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤٌ لنفسه، وكل امرئٍ حسيبُ نفسه" (عمدة التفسير : ج4 ص171-172)
وبعد:
فهذه نقولات أهل العلم الذين بيّنوا وبرّأوا ذممهم وتبرّأوا مما ابتدعه الناس من تبديل لشرع الله واستخفاف بأوامره وانصراف عن أحكامه وزهدٍ في اتباع نبيّه ، فالكلام بيّن واضح لا يحتاج إلى تعليق أو تفسير لمن يفهم اللغة العربية وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز به أهل طاعته ويذل به أهل معصيته .. والله أعلم .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..