الشرط الخامس: انتفاء الشك وحصول اليقين
من شروط شهادة التوحيد: انتفاء الشك، وحصول اليقين بها وبمتطلباتها وشروطها، كما قال تعالى: {وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريب. قالت رسلُهم أفي الله شكٌّ فاطِرِ السماوات والأرض} إبراهيم: 9-10.
فهم كفروا لأنهم شكوا في صحة دعوة الرسل لهم؛ ودعوة الرسل لهم على ممر الأزمان هي التوحيد، والدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله.. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وما من رسول إلا قال لقومه: {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} الأعراف: 59. وكما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولٍ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36.
وهم لما شكُّوا بالتوحيد لزمهم الشك بذات الله تعالى الذي خلقهـم وفطرهم فأحسن خلقهم، كما قال تعالى: {أفي الله شكٌّ فاطرِ السماوات والأرض} ؛ فهم لم يشكوا بوجود الله تعالى وإنما شكوا بتوحيده عز وجل فلزمهم أن يشكوا به تعالى أنه المألوه المستحق للعبادة.
وعليه فمن يشك بالتوحيد أو بأي أمر معلوم من الدين بالضرورة فهو في حقيقة أمره يشك بالله تعالى، وبصدق أنبيائه ورسله الذين بلغوا عنه عز وجل ما أوحاه إليهم من الدين!
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " مسلم.
مفهوم الحديث أن من لقي الله تعالى بشهادتي التوحيد شاكاً فيهما أو بشيءٍ من لوازمهما ومقتضياتهما لا يدخل الجنة ولا يكون من أهلها، ولا ممن يشهدون شهادة الحق بحق.
وقال صلى الله عليه وسلم: " من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة " مسلم.
مفهوم الحديث أن من يشهد أن لا إله إلا الله وهو غير مستيقن قلبه بها وبمتطلباتـها لا تبشره بالجنة، ومن يُحرم الجنة لا مسكن له إلا نار جهنم أعاذنا الله منها.
واليقين بالتوحيد: هو العلم الجازم - الذي ينتفي عنه أدنى شكٍّ أو ريب - بأن الله تعالى واحد أحد في خصائصه وإلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، لا شريك له في شيءٍ من ذلك، وأنه تعالى وحده المستحق للعبادة.
الشرط السادس: العمل بها
ومن شروط صحة شهادة التوحيد العمل بها وبمتطلباتها ظاهراً وباطناً، وهو الغاية منها ومن نزولها على الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة: 5. وقال تعالى: {ومـا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} الذاريات: 56. أي ليوحدون..
فمن أبطل العمل بالتوحيد كشرط لصحته أبطل الدين وأمات روحه، وأبطل حق الله على العبيد، والغاية التي لأجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36.
هذه الآيات وغيرها تفيد حصر مهام وغاية الرسل جميعاً في تحقيق التوحيد حق الله تعالى على العبيد، وكأنهم ليس لهم مهمة سوى تحقيق ذلك، كما قال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لطاغوت فارس عندما استجوبه عن الغاية من انبعاثهم وغزوهم لدياره: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن سجن الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة !
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يُشرك به شيئاً " قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه.
فحق الله على العبيد أن يعبدوه ظاهراً وباطناً ولا يُشركوا به شيئاً ظاهراً وباطناً، وهو المراد من شهادة أن لا إله إلا الله؛ يوضح ذلك الرواية الأخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه ومعاذ رديفه على الرحل، قال يا معاذ: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: " إذاً يتكلوا " متفق عليه.
هذا الحديث قد فسره الحديث الذي قبله وبين المراد من التشهد بالشهادة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "، فسره صلى الله عليه وسلم في قوله الآخر: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً ". لأن في كلا الحديثين ينهى النبي صلى الله عليه وسلم فيهما معاذاً أن يخبر الناس بما قاله له حتى لا يتكلوا ويتركوا العمل الزائد عن التوحيد..
مما دل أن المراد من الحديث الآخر: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله.." ليس المراد مجرد التلفظ بالشهادة من دون تحقيق التوحيد حق الله على العبيد عملاً، وظاهراً وباطناً.. فالأحاديث تفسر بعضها البعض، والإنصاف يقتضي إعمالها جميعاً جنباً إلى جنبٍ من دون إهمال أو ترك شيءٍ منها.
ولو كان الأمر ينتهي عند حد القول دون العمل لما امتنع كفار قريش عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوته، ولأعطوه " لا إله إلا الله " لفظاً مع بقائهم على شركهم وعاداتهم الوثنية، ولاستراحوا وأراحوا، ولما بذلوا أرواحهم وكل ما يملكون مقابل دفع كلمة التوحيد وعدم الاستجابة لها!
ولكن لما علموا أن من لوازم الإقرار بشهادة التوحيد العمل بها وبمضمونها..
من لوازمه تكسير الأصنام والأوثان واعتزال عبادتها.. والانخلاع كلياً من الشرك وعبادة الأنداد..
من لوازمه تغيير العادات الوثنية الجاهلية المنافية لروح وتعاليم لا إله إلا الله..
من لوازمه أن تتحول الآلهة المزيفة إلى عبيد يتساوون في العبودية لله تعالى مع عبيدهم ومماليكهم..
من لوازمه ذوبان جميع الفوارق بين الناس..لا فرق بين الشريف والوضيع، ولا بين السيد والمسود.. إلا على أساس التقوى والالتزام بأخلاق وتعاليم هذا الدين الحنيف..
من لوازمه أن ينخلعوا كلياً من أهوائهم وشهواتهم، ومكاسبهم التي كانوا يجنونها من وراء تعبيد العبيد للعبيد.. ويبرؤوا من ذلك كله لله رب العالمين.
لما كان الإقرار بالتوحيد من لوازمه حصول جميع ما تقدم - ولن يرضى الشارع عز وجل بأقل من ذلك - قابلوها بهذا الحرب وبهذا العناد والإعراض الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له!
ولأجل ذلك كله كذلك بذلوا للنبي صلى الله عليه وسلم كل غالٍ ونفيس من مالٍ وملكٍ ورياسة، وعرضوا عليه كل ما تستشرفه النفوس وتتمناه مقابل أن يعفيهم من الإقرار والانصياع لشهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلى الله، إلى التوحيد الخالص وخلع الأنداد والأوثان، راداً عليهم جميع عروضهم وما بذلوه من ترغيب [22]!
أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم شيئاً إلا بعد أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد بشموليته: اعتقاداً وقولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً!
مسألة :
مما يدخل في الأعمال التي تُعتبر من شروط صحة التوحيد والإيمان الصلاة، حيث لا يصح إيمان المرء إلا بها، فمن تركها فقد نقض التوحيد وخرج من الملة، ووقع في الكفر والشرك، كما في الحديث الصحيح: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.. فإذا تركها فقد كفر "، وفي روايةٍ: " فإذا تركها فقد أشرك "، وغيرها كثير من النصوص التي تفيد كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، مع انتفاء النصوص أو القرائن الشرعية الأخرى التي تصرف هذا الحكم عن ظاهره إلى الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر [23].
مسألة ثانية :
اعلم أن الإنسان يصير كافراً - من جهة ترك الأعمال - في حالتين:
الحالة الأولى: أن يترك جنس العمل والطاعة، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي ماله، ولا يفعل شيئاً من الطاعات.. فهذا كافر خارج من الإسلام مهما زعم بلسانه أنه مسلم أو من المؤمنين.
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت [24]، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً. إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} .
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله [25] اهـ.
وقال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق العلماء: فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل - لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك.
هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [26].
وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شكٍّ ونقر بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيءٍ مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منك النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك. اهـ.
فليحذر مرجئة العصر بأي نار هم يلعبون؛ وبأي باطل هم يميدون، وأي قول هم يقولون عندما يخرجون جنس العمل كشرط لصحة الإيمان!
ورحم الله الشافعي إذ يقول: لأن أتكلم في علم يُقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أتكلم في علم يُقال لي فيه كفرت اهـ.
وليحذروا أن يُحمل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية، والمرجئة " [27]. أعاذنا الله من الكفر والخسران!
الحالة الثانية: أن يأتي بجنس العمل ولا يُحرم مطلق الطاعات العملية، لكنه يترك العمل بالتوحيد.. فأيضاً هذا كافر خارج من الإسلام، لا ينتفع بشيءٍ من الأعمال والطاعات الأخرى التي قام بها كما تقدم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما اهـ.
[22] في هذا تنبيه وتذكير لأولئك الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم الفتات والعظام المجردة عن لحومها وشحومها باسم الدين، وباسم تحصيل المصالح للدعوة على حساب أعلى وأجل المصالح ألا وهي مصلحة تحقيق التوحيد!!
فيه تنبيه لأولئك الذين أخروا لا إله إلا الله من أولوياتهم وبرامجهم الحزبية أو الدعوية، وقدموا عليها - رهبة أو رغبة - الاشتغال بالمندوبات والمباحات، والقيل والقال.. ثم بعد ذلك يحسبون أنفسهم أنهم يُحسنون صنعاً، أو أنهم يسيرون على طريقة ونهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى!
فيه تنبيه لأولئك الذين يقولون للطاغوت كل شيءٍ، إلا أنهم لا يجرؤون أن يأمروه بالتوحيد، ولا أن يذكروه له، فضلاً عن أن يُطالبوه بتحكيمه والانصياع له!!
[23] على تفصيل ذكرناه في كتابنا " حكم تارك الصلاة "، وقد رددنا فيه على شبهات وأدلة المخالفين دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة.. فلينظره من لم يقنع بما تقدم.
[24] وهو أفضل ممن لا يصلي قط!
[25] من قال هذا فقد كفر بالله ورد على رسوله أمره، فكيف بالذي لا يفعل هذا، وينتفي عنه جنس العمل والطاعة.. لا شك أنه أولى بالكفر والمروق من الدين.
[26] عن كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر الحوالي: 2/647.
[27] أخرجه الطبراني في التهذيب، وابن أبي عاصم في السنة وغيرهما، السلسلة الصحيحة: 2748.
الشرط السابع: المحبة المنافية للكره والبغض
من شروط صحة شهادة التوحيد محبتها ومحبة أهلها، وبغض أعدائها وما يضادها من الشرك والتنديد؛ وصفة هذه المحبة أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، وأن يكون الله تعالى وحده هو المحبوب لذاته، وما سواه فهو محبوب له وفيه عز وجل ، لا يُحب مع الله أحد وإنما يُحب فيه ولأجله.. وإن أحب المرء شيئاً لا يُحب ما يكرهه الله عز وجل، وإن كره شيئاً لا يكره ما يُحبه عز وجل وبخاصة التوحيد حق الله تعالى على العبيد.
فإن وقع المرء في محبة الأنداد والشركاء، وكره ما أنزل الله تعالى على أنبيائه ورسله من التوحيد والدين.. وقع في الشرك والكفر، وخرج من دائرة الإسلام والإيمان، ولا ينفعه ما قدم من طاعات وأعمال.
والدليل على ما تقدم، قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة: 165.
فمن أحب مخلوقاً لذاته بحيث يوالي فيه ويعادي فيه، ويوالي من يواليه ويعادي من يُعاديه - بغض النظر عن موافقتهم للحق أو مخالفته - فقد اتخذوا هذا المخلوق نداً لله تعالى، ودخلوا في عبادته من دون الله تعالى؛ لأن المحبوب لذاته هو الله تعالى وحده وما سواه يُحب له وفيه..
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 10/267: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في المدارج 1/99: فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته، مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه. اهـ.
وقال تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين. إذ نسويكم برب العالمين} الشعراء: 96-98.
فهم إذ كانوا يسوون الأنداد والطواغيت برب العالمين لم يكونوا يسوونهم به عز وجل في خاصية القدرة على الخلق أو التصرف في الكون أو الخلق إيجاداً وضراً ونفعاً، فهم أعجز من ذلك بكثير..
وإنما كانوا يسوونهم بالله من جهة الطاعة والمحبة فيحبونهم كحب الله تعالى وأشد، ويقدمون أمرهم وطاعتهم على أمره وطاعته عز وجل، فحصلت بذلك تلك المساواة الشركية.
قال ابن القيم رحمه الله: ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى التراب برب الأرباب؟! وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟!
وقال: هذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم..
ولم تكن تسويتهم لهم بالله في كونهم خلقوا السماوات والأرض أو خلقوهم أوخلقوا آباءهم، وإنما سووهم برب العالمين في الحب لهم كما يُحب الله فإن حقيقة العبادة هي الحب والذل.. اهـ.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان " [28]. أي من كان هذا ديدنه وشأنه في جميع شؤونه وتعامله مع الآخرين فقد استكمل التوحيد والإيمان.. فالناس يتفاوتون في الإيمان والتوحيد تبعاً لتفاوتهم في الحب في الله، والبغض في الله وغير ذلك من الطاعات.
أما من انتفى عنه مطلق الحب في الله، والبغض في الله.. فقد انتفى عنه مطلق التوحيد، ومطلق العبودية لله تعالى.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله تعالى " [29].
قلت: إذا كان أوثق عرى الإيمان والتوحيد: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله.. فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن يكون أوثق عرى الكفر والشرك: الموالاة في المخلوق، والمعاداة في المخلوق، والحب في المخلوق، والبغض في المخلوق.. أيَّاً كان هذا المخلوق، وكانت صفته.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين "، وفي رواية: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " مسلم.
والإيمان لا ينتفي إلا لنوع شرك وعبادة تصرف لغير الله تعالى، ونوع الشرك هنا يكمن في تقديم محبة وطاعة الآخرين على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته الذي أمر الله تعالى بمحبته وطاعته لطاعته لله تعالى في كل ما يصدر عنه؛ كما قال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وهذه ليست لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما فيه طاعة لله تعالى، ولا ينهى إلا عما فيه معصية لله تعالى .
قال أبو سليمان الخطابي في شرحه لحديث " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولد ه ووالده والناس أجمعين ": معناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك اهـ.
ومن الأدلة كذلك على صحة شرط المحبة للتوحيد، أن انتفاء المحبة من لوازمه حصول ضدها من البغض والكراهية للتوحيد.. وكره أو بغض التوحيد كفر أكبر مخرج لصاحبه من الملة، كما قال تعالى: {والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} محمد: 8-9.
فعلل كفرهم وحبوط أعمالهم - ولا يُحبط العمل إلا الكفر والشرك - بأنهم كرهوا ما أنزل الله على أنبيائه ورسله من الدين؛ وأعظم ما أنزل الله تعالى على أنبيائه شهادة التوحيد: لا إله إلا الله.
وقال تعالى عن الكافرين وهم يستغيثون في جهنم ولا مغيث: {ونادَوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} الزخرف: 77-78.
فعلل سبب مكثهم في جهنم أنهم كانوا للحق الذي جاءهم من عند ربهم كارهون؛ وأعظم ما جاءهم من الحق شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فكانوا لها كارهين، فاستحقوا بذلك العذاب والخلود في نار جهنم.
وقال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر} محمد: 25-26.
فهؤلاء ارتدوا وكفروا بعد أن ظهر لهم الإيمان ودخلوا فيه بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر مما فيه مُضاهاةٍ وتكذيبٍ لشرع الله تعالى وتوحيده.. فكفروا وارتدوا بسبب مقولتهم هذه!
فكيف بمن يقول لهم - كحال طواغيت العصر الذين قالوا لليهود والنصارى - سنطيعكم في كل الأمر؟!
فكيف بالذين يدخلون في طاعة طواغيت الحكم وموالاتهم - كحال المتزلفين الذين هان عليهم دينهم - ويقولون لهم سنطيعكم في كل الأمر، وفي كل ما يصدر عنكم من تعليمات وأوامر وقوانين تضاهي شرع الله تعالى؟!
فكيف بالذين كرهوا ما نزل الله تعالى ذاتهم؟!
لا شك أنهم أولى بالكفر والارتداد ممن قال للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وليس كله!
وعليه فمن يأتي بشهادة التوحيد وهو لها ولأهلها كاره مبغض فهو كافر مرتد، مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار.. لا ينفعه شيء مما قدم من أعمال وطاعات.
علامات المحبة الصادقة :
سهل على كل أحد وهو متكئ على أريكته أن يدعي حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحب التوحيد وأهله.. ولكن هل لهذا الإدعاء من برهان يصدقه أو يكذبه؟
أقول نعم لكل ادعاء علامات وبراهين تصدقه أو تكذبه، وللمحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامات أهمها:
1) حصول المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم :
فمن أصدق علامات المحبة المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ حيث كلما كملت المتابعة كلما قويت المحبة لله تعالى، وكلما نقصت المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وللشريعة التي جاء بها من عند ربه كلما ضعفت المحبة، فعلى قدر الاتباع والمتابعة تكون المحبة ارتفاعاً وانخفاضاً، ومن زعم المحبة من غير اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب أشر مهما زعم بلسانه أنه يحب الله ورسولَه.
قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} آل عمران: 31.
قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله اهـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 8/360: فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه، كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين اهـ.
وقال تلميذه ابن القيم في المدارج 1/99: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل اتباع رسوله علَماً عليها، وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .. اهـ.
ومن دلالات الآية الكريمة أن من ينتفي عنه مطلق المتابعة الظاهرة لا يكون مؤمناً ولا محباً لله تعالى .. فهي دليل آخر على كفر من ينتفي عنه جنس العمل بالشريعة وإن أتى بالإقرار والتصديق !
2) إيثار الله ورسوله في حال حصول الاختيار :
من العلامات الدالة على المحبة الصادقة إيثار جانب الله تعالى ورسوله في حال حصل له الاختيار بين طاعة الله ورسوله وبين طاعة ما سواهما من الخلق وكل ما يتجاذبه من فتنة الحياة الدنيا.. فإن آثر جانب طاعة الله ورسوله وحبهما على كل ما يتجاذبه من زينة الحياة الدنيا وفتنتها فقد صدق في دعواه للمحبة، وإن آثر الطرف الآخر بكل زينته وفتنته على الله ورسوله وقدم طاعته على طاعتهما، فقد كذب في دعواه المحبة وكان من المشركين.
قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة: 24.
فهذه الأشياء من زينة الحياة الدنيا لو جمعت كلها في جانب - وهذا ما يقتضيه حرف العطف الوارد في الآية الكريمة - فقدمت على طاعة الله ورسوله وعلى حبهما لكان من المشركين الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم في المدارج 1/100: دل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما؛ فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة، ولا يهديه الله، قال الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} . فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحدٍ على حكم الله ورسوله، فذلك المقدَّم عنده أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
3) البلاء والصبر عليه :
فمن علامات الإيمان وصدق المحبة البلاء والصبر عليه كما قال تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون} العنكبوت: 2. أي أحسب الناس أن يدعوا المحبة وأنهم من أهل التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى ثم هم لا يُفتنون ولا يُبتلون في دينهم وفي سبيل نصرة هذه الدعوة.. ليميز منهم الصابر المجاهد الصادق في دعواه أنه من المؤمنين من غيره ممن ينقلب على عقبيه من أول فتنة تنزل في ساحته !
كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَا أخبارَكم} محمد: 31. فصبرهم على البلاء هو علامة صادقة على صدق المحبة والعبودية،وصدق الجهاد في سبيل الله..
أما أولئك الذين يزعمون الإيمان والتوحيد ثم هم ينقلبون على أعقابهم لأدنى فتنة تصيبهم، أو تنزل في ساحتهم قال تعالى عنهم: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} العنكبوت: 10. وقال تعالى: {وإن أصابته مصيبة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة} الحج: 11.
فالمرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه وتوحيده، وصدق محبته فإن قوي إيمانه وصدق في توحيده لله تعالى وحبه له عز وجل، اشتد عليه البلاء وصبَّره عليه، كما في الحديث: " يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصالحين يُشدد عليهم..".
وقال صلى الله عليه وسلم: " كما يُضاعف لنا الأجر كذلك يُضاعف علينا البلاء ".
لذلك فإن الأنبياء - لكمال إيمانهم وصدق عبوديتهم لله تعالى - فإنهم أشد الناس بلاءً في الله وصبراً على البلاء، كما في الحديث: " أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أوذي أحد ما أوذيت في الله تعالى ".
وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك، وعليه قطيفة فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشدُّ حُمَّاك يا رسول الله! قال: " إنا كذلك يشتد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر ". فقال يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأنبياء ثم الصالحون..".
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول الله إني أحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه " [30]. أي توقع البلاء إن كنت صادقاً فيما تقول.. فعلامة حبك لي، أن تُبتلى في الله وتصبر على البلاء!
وبعد، هذه علامات ودلالات المحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم: الاتباع.. والإيثار.. والبلاء.. فمن عدمها عدم صدق المحبة وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى وحده.
وإن زعم بلسانه خلاف ذلك، وتشبع بما لم يُعط، وأظهر أنه من المؤمنين ومن الموحدين الذين يحبون الله تعالى ورسوله فواقع حاله ولسان عمله يحكم عليه بكل وضوح وصراحة: أنه من الكاذبين.. وأنه من المنافقين الكافرين !
[28] أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 380.
[29] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع الصغير: 2539.
[30] أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة: 1586.
قلت: وجميع ما تقدم من أحاديث عن البلاء هي صحيحة ولله الحمد. ومن هذه الأحاديث وغيرها نستفيد أن المبتلى في الله تعالى - وبخاصة منهم الذين يشتد عليهم البلاء في الله - يجب أن توسع في حقهم ساحات التأويل والأعذار في حال وقوعهم في الزلات والأمور المتشابهات.. وأن يُقدم في حقهم تحسين الظن على إساءة الظن بهم.. وهذا خلق سني نبوي شريف حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع أحد من أصحابه في زلة وشبهة مريبة.. أقال عثرته وتأول له، وتذكر له الساحات التي ابتلي فيها في الله تعالى .. لا يا عمر، إنه من أهل بدر ..
بينما من لم يُعرف عنه بلاء في الله كانت تضيق في حقه ساحة التأويل والأعذار.. وهذه قاعدة جليلة ينبغي التنبه لها عند الخوض في المسائل الكبار كمسائل الكفر والإيمان.
الشرط الثامن: الرضى بها والانقياد والتسليم لها
لا يكفي العمل بالتوحيد حتى ينضاف إليه الرضى، والانقياد والتسليم - الباطن منه والظاهر - الذي ينافي مطلق التعقيب أو الاعتراض..
قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً} النساء: 65.
لا يكفي لتحقيق الإيمان أن تحتكم إلى التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه إلا إذا أضفت إليه انتفاء الحرج وحصول الرضى {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت}، ثم لا يكفي ذلك كذلك إلا إذا أضفت إليه التسليم المطلق - ظاهراً وباطناً - الذي يتنافى معه أدنى اعتراض أو تعقيب {ويُسلموا تسليماً}.
قال ابن كثير في التفسير: يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا مناعة اهـ.
وقال ابن تيمية في تفسير الآية في كتابه الفتاوى 28/471: فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة. اهـ.
وقال ابن القيم في التبيان 270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض. اهـ.
ويقول سيد في الظلال: {فلا وربك لا يؤمنون..} ، ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه بنفسه ويُقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان.. اهـ.
وقال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} النور: 47-48.
فهؤلاء أتوا بالقول، ولئن سألتهم ليقولن أمنا بالله وبالرسول وأطعنا.. ولكن في واقع العمل يكذبون هذا الادعاء وهذا القول؛ وذلك إذا دعوا إلى الطاعة عملاً وإلى الاحتكام إلى الله والرسول أعرضوا وأدبروا وولوا.. وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وهؤلاء بنص التنزيل: {وما أولئك بمؤمنين}.
قال الطبري في التفسير18/156: {وما أولئك بالمؤمنين} ؛ وليس قائلوا هذه المقالة، يعني قوله {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} بالمؤمنين لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. اهـ.
وإذا كان الحكم بغير ما أنزل الله تعالى منه ما يكون كفراً أكبر، ومنه ما يكون كفراً أصغر دون ذلك بحسب صفة الحكم والقرائن المحيطة بكلٍّ منهما.. على تفصيل معروف عند أهل العلم، إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله في التوحيد ليس له إلا وجه واحد: وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله.
قال الشيخ سليمان آل الشيخ رحمهما الله تعالى: تحقيق معنى الآية أن الحكم بغير ما أنزل الله إن كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه.. اهـ.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات: 1-2.
إنه الاستسلام المنافي لأدنى تقديم بفهم أو رأي أو قول بين يدي حكم الله تعالى وحكم رسوله.. فمن الله تعالى الرسالة، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ، ومنا القبول والرضى والاستسلام من غير اعتراض ولا تقديم أو تعقيب.
وإذا كان رفع الصوت - مجرد الصوت - فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم يُخشى على صاحبه أن يحبط عمله، ولا يُحبط العمل إلا الشرك والكفر.. فكيف بمن يرفع حكمه وقوله وقانونه - كما هو شأن المشرعين في مجالسهم النيابية التشريعية - على حكم وقول وقانون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدمه عليه.. لا شك أنه أولى بالكفر والشرك، وأن يحبط عمله!
قال ابن القيم رحمه الله في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم. اهـ.
وقال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب: 36.
فمن لوازم الإيمان وشروطه انتفاء الاختيار على حكم الله تعالى ورسوله.. فإذا نزل حكم الله تعالى ليس لهم أن يختاروا غيره - ثم يزعموا أنهم مسلمون - إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان، وارتضوا لأنفسهم حكم واسم الكافرين المشركين.
قال تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم} النور: 63. والفتنة هنا يُراد منها الشرك والكفر..
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.
وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصِحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! قال الله تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وتدري ما الفتنة؟ الكفر.قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي! [31].
قلت: هذا حكم الإمام أحمد فيمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول سفيان أو غيره من أهل العلم.. فكيف بمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه إلى قول وحكم الأحبار والرهبان من المشرعين في المجالس النيابية التشريعية وغيرها.. لا شك أنه أولى بالفتنة وفي الوقوع في الزيغ والكفر!
[31] عن الصارم المسلول لابن تيمية: 56.
من شروط شهادة التوحيد: انتفاء الشك، وحصول اليقين بها وبمتطلباتها وشروطها، كما قال تعالى: {وقالوا إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شكٍّ مما تدعوننا إليه مريب. قالت رسلُهم أفي الله شكٌّ فاطِرِ السماوات والأرض} إبراهيم: 9-10.
فهم كفروا لأنهم شكوا في صحة دعوة الرسل لهم؛ ودعوة الرسل لهم على ممر الأزمان هي التوحيد، والدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله.. كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وما من رسول إلا قال لقومه: {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} الأعراف: 59. وكما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولٍ أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36.
وهم لما شكُّوا بالتوحيد لزمهم الشك بذات الله تعالى الذي خلقهـم وفطرهم فأحسن خلقهم، كما قال تعالى: {أفي الله شكٌّ فاطرِ السماوات والأرض} ؛ فهم لم يشكوا بوجود الله تعالى وإنما شكوا بتوحيده عز وجل فلزمهم أن يشكوا به تعالى أنه المألوه المستحق للعبادة.
وعليه فمن يشك بالتوحيد أو بأي أمر معلوم من الدين بالضرورة فهو في حقيقة أمره يشك بالله تعالى، وبصدق أنبيائه ورسله الذين بلغوا عنه عز وجل ما أوحاه إليهم من الدين!
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " مسلم.
مفهوم الحديث أن من لقي الله تعالى بشهادتي التوحيد شاكاً فيهما أو بشيءٍ من لوازمهما ومقتضياتهما لا يدخل الجنة ولا يكون من أهلها، ولا ممن يشهدون شهادة الحق بحق.
وقال صلى الله عليه وسلم: " من يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة " مسلم.
مفهوم الحديث أن من يشهد أن لا إله إلا الله وهو غير مستيقن قلبه بها وبمتطلباتـها لا تبشره بالجنة، ومن يُحرم الجنة لا مسكن له إلا نار جهنم أعاذنا الله منها.
واليقين بالتوحيد: هو العلم الجازم - الذي ينتفي عنه أدنى شكٍّ أو ريب - بأن الله تعالى واحد أحد في خصائصه وإلهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، لا شريك له في شيءٍ من ذلك، وأنه تعالى وحده المستحق للعبادة.
الشرط السادس: العمل بها
ومن شروط صحة شهادة التوحيد العمل بها وبمتطلباتها ظاهراً وباطناً، وهو الغاية منها ومن نزولها على الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} البينة: 5. وقال تعالى: {ومـا خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون} الذاريات: 56. أي ليوحدون..
فمن أبطل العمل بالتوحيد كشرط لصحته أبطل الدين وأمات روحه، وأبطل حق الله على العبيد، والغاية التي لأجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} الأنبياء: 25. وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36.
هذه الآيات وغيرها تفيد حصر مهام وغاية الرسل جميعاً في تحقيق التوحيد حق الله تعالى على العبيد، وكأنهم ليس لهم مهمة سوى تحقيق ذلك، كما قال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لطاغوت فارس عندما استجوبه عن الغاية من انبعاثهم وغزوهم لدياره: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن سجن الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة !
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يُعذب من لا يُشرك به شيئاً " قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: " لا تبشرهم فيتكلوا " متفق عليه.
فحق الله على العبيد أن يعبدوه ظاهراً وباطناً ولا يُشركوا به شيئاً ظاهراً وباطناً، وهو المراد من شهادة أن لا إله إلا الله؛ يوضح ذلك الرواية الأخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه ومعاذ رديفه على الرحل، قال يا معاذ: ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: " إذاً يتكلوا " متفق عليه.
هذا الحديث قد فسره الحديث الذي قبله وبين المراد من التشهد بالشهادة؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار "، فسره صلى الله عليه وسلم في قوله الآخر: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً ". لأن في كلا الحديثين ينهى النبي صلى الله عليه وسلم فيهما معاذاً أن يخبر الناس بما قاله له حتى لا يتكلوا ويتركوا العمل الزائد عن التوحيد..
مما دل أن المراد من الحديث الآخر: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله.." ليس المراد مجرد التلفظ بالشهادة من دون تحقيق التوحيد حق الله على العبيد عملاً، وظاهراً وباطناً.. فالأحاديث تفسر بعضها البعض، والإنصاف يقتضي إعمالها جميعاً جنباً إلى جنبٍ من دون إهمال أو ترك شيءٍ منها.
ولو كان الأمر ينتهي عند حد القول دون العمل لما امتنع كفار قريش عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوته، ولأعطوه " لا إله إلا الله " لفظاً مع بقائهم على شركهم وعاداتهم الوثنية، ولاستراحوا وأراحوا، ولما بذلوا أرواحهم وكل ما يملكون مقابل دفع كلمة التوحيد وعدم الاستجابة لها!
ولكن لما علموا أن من لوازم الإقرار بشهادة التوحيد العمل بها وبمضمونها..
من لوازمه تكسير الأصنام والأوثان واعتزال عبادتها.. والانخلاع كلياً من الشرك وعبادة الأنداد..
من لوازمه تغيير العادات الوثنية الجاهلية المنافية لروح وتعاليم لا إله إلا الله..
من لوازمه أن تتحول الآلهة المزيفة إلى عبيد يتساوون في العبودية لله تعالى مع عبيدهم ومماليكهم..
من لوازمه ذوبان جميع الفوارق بين الناس..لا فرق بين الشريف والوضيع، ولا بين السيد والمسود.. إلا على أساس التقوى والالتزام بأخلاق وتعاليم هذا الدين الحنيف..
من لوازمه أن ينخلعوا كلياً من أهوائهم وشهواتهم، ومكاسبهم التي كانوا يجنونها من وراء تعبيد العبيد للعبيد.. ويبرؤوا من ذلك كله لله رب العالمين.
لما كان الإقرار بالتوحيد من لوازمه حصول جميع ما تقدم - ولن يرضى الشارع عز وجل بأقل من ذلك - قابلوها بهذا الحرب وبهذا العناد والإعراض الذي لم يعرف التاريخ مثيلاً له!
ولأجل ذلك كله كذلك بذلوا للنبي صلى الله عليه وسلم كل غالٍ ونفيس من مالٍ وملكٍ ورياسة، وعرضوا عليه كل ما تستشرفه النفوس وتتمناه مقابل أن يعفيهم من الإقرار والانصياع لشهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يُجيبوه أولاً إلى لا إله إلى الله، إلى التوحيد الخالص وخلع الأنداد والأوثان، راداً عليهم جميع عروضهم وما بذلوه من ترغيب [22]!
أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم شيئاً إلا بعد أن يجيبوه أولاً إلى التوحيد بشموليته: اعتقاداً وقولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً!
مسألة :
مما يدخل في الأعمال التي تُعتبر من شروط صحة التوحيد والإيمان الصلاة، حيث لا يصح إيمان المرء إلا بها، فمن تركها فقد نقض التوحيد وخرج من الملة، ووقع في الكفر والشرك، كما في الحديث الصحيح: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.. فإذا تركها فقد كفر "، وفي روايةٍ: " فإذا تركها فقد أشرك "، وغيرها كثير من النصوص التي تفيد كفر تارك الصلاة وخروجه من الملة، مع انتفاء النصوص أو القرائن الشرعية الأخرى التي تصرف هذا الحكم عن ظاهره إلى الكفر الأصغر، أو الكفر دون كفر [23].
مسألة ثانية :
اعلم أن الإنسان يصير كافراً - من جهة ترك الأعمال - في حالتين:
الحالة الأولى: أن يترك جنس العمل والطاعة، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي ماله، ولا يفعل شيئاً من الطاعات.. فهذا كافر خارج من الإسلام مهما زعم بلسانه أنه مسلم أو من المؤمنين.
قال ابن تيمية في الفتاوى 7/209: قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت [24]، فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً. إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين، قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} .
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله [25] اهـ.
وقال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه أخلاق العلماء: فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل - لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك.
هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} [26].
وقال ابن تيمية في الفتاوى 7/287: لو قُدر أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شكٍّ ونقر بالشهادتين، إلا أنا لا نطيعك في شيءٍ مما أمرت به ونهيت عنه، فلا نصلي ولا نصوم، ولا نحج، ولا نصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به، ونشرب الخمر وننكح ذوات المحارم بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك، ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً، ونقاتلك مع أعدائك، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منك النار، بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك. اهـ.
فليحذر مرجئة العصر بأي نار هم يلعبون؛ وبأي باطل هم يميدون، وأي قول هم يقولون عندما يخرجون جنس العمل كشرط لصحة الإيمان!
ورحم الله الشافعي إذ يقول: لأن أتكلم في علم يُقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أتكلم في علم يُقال لي فيه كفرت اهـ.
وليحذروا أن يُحمل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أمتي لا يردان علي الحوض: القدرية، والمرجئة " [27]. أعاذنا الله من الكفر والخسران!
الحالة الثانية: أن يأتي بجنس العمل ولا يُحرم مطلق الطاعات العملية، لكنه يترك العمل بالتوحيد.. فأيضاً هذا كافر خارج من الإسلام، لا ينتفع بشيءٍ من الأعمال والطاعات الأخرى التي قام بها كما تقدم.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختلف شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما اهـ.
[22] في هذا تنبيه وتذكير لأولئك الذين يترامون على عتبات الطواغيت يستجدون منهم الفتات والعظام المجردة عن لحومها وشحومها باسم الدين، وباسم تحصيل المصالح للدعوة على حساب أعلى وأجل المصالح ألا وهي مصلحة تحقيق التوحيد!!
فيه تنبيه لأولئك الذين أخروا لا إله إلا الله من أولوياتهم وبرامجهم الحزبية أو الدعوية، وقدموا عليها - رهبة أو رغبة - الاشتغال بالمندوبات والمباحات، والقيل والقال.. ثم بعد ذلك يحسبون أنفسهم أنهم يُحسنون صنعاً، أو أنهم يسيرون على طريقة ونهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى!
فيه تنبيه لأولئك الذين يقولون للطاغوت كل شيءٍ، إلا أنهم لا يجرؤون أن يأمروه بالتوحيد، ولا أن يذكروه له، فضلاً عن أن يُطالبوه بتحكيمه والانصياع له!!
[23] على تفصيل ذكرناه في كتابنا " حكم تارك الصلاة "، وقد رددنا فيه على شبهات وأدلة المخالفين دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة.. فلينظره من لم يقنع بما تقدم.
[24] وهو أفضل ممن لا يصلي قط!
[25] من قال هذا فقد كفر بالله ورد على رسوله أمره، فكيف بالذي لا يفعل هذا، وينتفي عنه جنس العمل والطاعة.. لا شك أنه أولى بالكفر والمروق من الدين.
[26] عن كتاب ظاهرة الإرجاء للشيخ سفر الحوالي: 2/647.
[27] أخرجه الطبراني في التهذيب، وابن أبي عاصم في السنة وغيرهما، السلسلة الصحيحة: 2748.
الشرط السابع: المحبة المنافية للكره والبغض
من شروط صحة شهادة التوحيد محبتها ومحبة أهلها، وبغض أعدائها وما يضادها من الشرك والتنديد؛ وصفة هذه المحبة أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، وأن يكون الله تعالى وحده هو المحبوب لذاته، وما سواه فهو محبوب له وفيه عز وجل ، لا يُحب مع الله أحد وإنما يُحب فيه ولأجله.. وإن أحب المرء شيئاً لا يُحب ما يكرهه الله عز وجل، وإن كره شيئاً لا يكره ما يُحبه عز وجل وبخاصة التوحيد حق الله تعالى على العبيد.
فإن وقع المرء في محبة الأنداد والشركاء، وكره ما أنزل الله تعالى على أنبيائه ورسله من التوحيد والدين.. وقع في الشرك والكفر، وخرج من دائرة الإسلام والإيمان، ولا ينفعه ما قدم من طاعات وأعمال.
والدليل على ما تقدم، قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله} البقرة: 165.
فمن أحب مخلوقاً لذاته بحيث يوالي فيه ويعادي فيه، ويوالي من يواليه ويعادي من يُعاديه - بغض النظر عن موافقتهم للحق أو مخالفته - فقد اتخذوا هذا المخلوق نداً لله تعالى، ودخلوا في عبادته من دون الله تعالى؛ لأن المحبوب لذاته هو الله تعالى وحده وما سواه يُحب له وفيه..
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 10/267: لا يجوز أن يُحب شيء من الموجودات لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالَم إنما يجوز أن يُحب لغيره لا لذاته، والرب تعالى هو الذي يجب أن يُحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}، فإن محبة الشيء لذاته شرك فلا يُحب لذاته إلا الله، فإن ذلك من خصائص إلهيته فلا يستحق ذلك إلا الله وحده، وكل محبوب سواه لم يُحب لأجله فمحبته فاسدة اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في المدارج 1/99: فالله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته، مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يُحب معه سواه، وإنما يُحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه. اهـ.
وقال تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون. تالله إن كنا لفي ضلالٍ مبين. إذ نسويكم برب العالمين} الشعراء: 96-98.
فهم إذ كانوا يسوون الأنداد والطواغيت برب العالمين لم يكونوا يسوونهم به عز وجل في خاصية القدرة على الخلق أو التصرف في الكون أو الخلق إيجاداً وضراً ونفعاً، فهم أعجز من ذلك بكثير..
وإنما كانوا يسوونهم بالله من جهة الطاعة والمحبة فيحبونهم كحب الله تعالى وأشد، ويقدمون أمرهم وطاعتهم على أمره وطاعته عز وجل، فحصلت بذلك تلك المساواة الشركية.
قال ابن القيم رحمه الله: ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق، والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل، وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى التراب برب الأرباب؟! وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟!
وقال: هذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم..
ولم تكن تسويتهم لهم بالله في كونهم خلقوا السماوات والأرض أو خلقوهم أوخلقوا آباءهم، وإنما سووهم برب العالمين في الحب لهم كما يُحب الله فإن حقيقة العبادة هي الحب والذل.. اهـ.
وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان " [28]. أي من كان هذا ديدنه وشأنه في جميع شؤونه وتعامله مع الآخرين فقد استكمل التوحيد والإيمان.. فالناس يتفاوتون في الإيمان والتوحيد تبعاً لتفاوتهم في الحب في الله، والبغض في الله وغير ذلك من الطاعات.
أما من انتفى عنه مطلق الحب في الله، والبغض في الله.. فقد انتفى عنه مطلق التوحيد، ومطلق العبودية لله تعالى.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله تعالى " [29].
قلت: إذا كان أوثق عرى الإيمان والتوحيد: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله.. فإن مفهوم المخالفة يقتضي أن يكون أوثق عرى الكفر والشرك: الموالاة في المخلوق، والمعاداة في المخلوق، والحب في المخلوق، والبغض في المخلوق.. أيَّاً كان هذا المخلوق، وكانت صفته.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من أهله وماله والناس أجمعين "، وفي رواية: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " مسلم.
والإيمان لا ينتفي إلا لنوع شرك وعبادة تصرف لغير الله تعالى، ونوع الشرك هنا يكمن في تقديم محبة وطاعة الآخرين على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته الذي أمر الله تعالى بمحبته وطاعته لطاعته لله تعالى في كل ما يصدر عنه؛ كما قال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} وهذه ليست لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله " مسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما فيه طاعة لله تعالى، ولا ينهى إلا عما فيه معصية لله تعالى .
قال أبو سليمان الخطابي في شرحه لحديث " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولد ه ووالده والناس أجمعين ": معناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك اهـ.
ومن الأدلة كذلك على صحة شرط المحبة للتوحيد، أن انتفاء المحبة من لوازمه حصول ضدها من البغض والكراهية للتوحيد.. وكره أو بغض التوحيد كفر أكبر مخرج لصاحبه من الملة، كما قال تعالى: {والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} محمد: 8-9.
فعلل كفرهم وحبوط أعمالهم - ولا يُحبط العمل إلا الكفر والشرك - بأنهم كرهوا ما أنزل الله على أنبيائه ورسله من الدين؛ وأعظم ما أنزل الله تعالى على أنبيائه شهادة التوحيد: لا إله إلا الله.
وقال تعالى عن الكافرين وهم يستغيثون في جهنم ولا مغيث: {ونادَوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون. لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} الزخرف: 77-78.
فعلل سبب مكثهم في جهنم أنهم كانوا للحق الذي جاءهم من عند ربهم كارهون؛ وأعظم ما جاءهم من الحق شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. فكانوا لها كارهين، فاستحقوا بذلك العذاب والخلود في نار جهنم.
وقال تعالى: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر} محمد: 25-26.
فهؤلاء ارتدوا وكفروا بعد أن ظهر لهم الإيمان ودخلوا فيه بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر مما فيه مُضاهاةٍ وتكذيبٍ لشرع الله تعالى وتوحيده.. فكفروا وارتدوا بسبب مقولتهم هذه!
فكيف بمن يقول لهم - كحال طواغيت العصر الذين قالوا لليهود والنصارى - سنطيعكم في كل الأمر؟!
فكيف بالذين يدخلون في طاعة طواغيت الحكم وموالاتهم - كحال المتزلفين الذين هان عليهم دينهم - ويقولون لهم سنطيعكم في كل الأمر، وفي كل ما يصدر عنكم من تعليمات وأوامر وقوانين تضاهي شرع الله تعالى؟!
فكيف بالذين كرهوا ما نزل الله تعالى ذاتهم؟!
لا شك أنهم أولى بالكفر والارتداد ممن قال للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر وليس كله!
وعليه فمن يأتي بشهادة التوحيد وهو لها ولأهلها كاره مبغض فهو كافر مرتد، مع المنافقين في الدرك الأسفل من النار.. لا ينفعه شيء مما قدم من أعمال وطاعات.
علامات المحبة الصادقة :
سهل على كل أحد وهو متكئ على أريكته أن يدعي حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحب التوحيد وأهله.. ولكن هل لهذا الإدعاء من برهان يصدقه أو يكذبه؟
أقول نعم لكل ادعاء علامات وبراهين تصدقه أو تكذبه، وللمحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامات أهمها:
1) حصول المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم :
فمن أصدق علامات المحبة المتابعة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته؛ حيث كلما كملت المتابعة كلما قويت المحبة لله تعالى، وكلما نقصت المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وللشريعة التي جاء بها من عند ربه كلما ضعفت المحبة، فعلى قدر الاتباع والمتابعة تكون المحبة ارتفاعاً وانخفاضاً، ومن زعم المحبة من غير اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كذاب أشر مهما زعم بلسانه أنه يحب الله ورسولَه.
قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} آل عمران: 31.
قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله اهـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 8/360: فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب، وليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبه فهي محبة شرك، فإنما يتبع ما يهواه، كدعوى اليهود والنصارى محبة الله، فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول، فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين اهـ.
وقال تلميذه ابن القيم في المدارج 1/99: وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل اتباع رسوله علَماً عليها، وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .. اهـ.
ومن دلالات الآية الكريمة أن من ينتفي عنه مطلق المتابعة الظاهرة لا يكون مؤمناً ولا محباً لله تعالى .. فهي دليل آخر على كفر من ينتفي عنه جنس العمل بالشريعة وإن أتى بالإقرار والتصديق !
2) إيثار الله ورسوله في حال حصول الاختيار :
من العلامات الدالة على المحبة الصادقة إيثار جانب الله تعالى ورسوله في حال حصل له الاختيار بين طاعة الله ورسوله وبين طاعة ما سواهما من الخلق وكل ما يتجاذبه من فتنة الحياة الدنيا.. فإن آثر جانب طاعة الله ورسوله وحبهما على كل ما يتجاذبه من زينة الحياة الدنيا وفتنتها فقد صدق في دعواه للمحبة، وإن آثر الطرف الآخر بكل زينته وفتنته على الله ورسوله وقدم طاعته على طاعتهما، فقد كذب في دعواه المحبة وكان من المشركين.
قال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} التوبة: 24.
فهذه الأشياء من زينة الحياة الدنيا لو جمعت كلها في جانب - وهذا ما يقتضيه حرف العطف الوارد في الآية الكريمة - فقدمت على طاعة الله ورسوله وعلى حبهما لكان من المشركين الفاسقين الذين خسروا الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم في المدارج 1/100: دل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما؛ فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة، ولا يهديه الله، قال الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} . فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بخلاف ما هو عليه، وكذلك من قدم حكم أحدٍ على حكم الله ورسوله، فذلك المقدَّم عنده أحب إليه من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.
3) البلاء والصبر عليه :
فمن علامات الإيمان وصدق المحبة البلاء والصبر عليه كما قال تعالى: {أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون} العنكبوت: 2. أي أحسب الناس أن يدعوا المحبة وأنهم من أهل التوحيد والعبودية الخالصة لله تعالى ثم هم لا يُفتنون ولا يُبتلون في دينهم وفي سبيل نصرة هذه الدعوة.. ليميز منهم الصابر المجاهد الصادق في دعواه أنه من المؤمنين من غيره ممن ينقلب على عقبيه من أول فتنة تنزل في ساحته !
كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَا أخبارَكم} محمد: 31. فصبرهم على البلاء هو علامة صادقة على صدق المحبة والعبودية،وصدق الجهاد في سبيل الله..
أما أولئك الذين يزعمون الإيمان والتوحيد ثم هم ينقلبون على أعقابهم لأدنى فتنة تصيبهم، أو تنزل في ساحتهم قال تعالى عنهم: {فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} العنكبوت: 10. وقال تعالى: {وإن أصابته مصيبة انقلب على عقبيه خسر الدنيا والآخرة} الحج: 11.
فالمرء يُبتلى على قدر دينه وإيمانه وتوحيده، وصدق محبته فإن قوي إيمانه وصدق في توحيده لله تعالى وحبه له عز وجل، اشتد عليه البلاء وصبَّره عليه، كما في الحديث: " يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الصالحين يُشدد عليهم..".
وقال صلى الله عليه وسلم: " كما يُضاعف لنا الأجر كذلك يُضاعف علينا البلاء ".
لذلك فإن الأنبياء - لكمال إيمانهم وصدق عبوديتهم لله تعالى - فإنهم أشد الناس بلاءً في الله وصبراً على البلاء، كما في الحديث: " أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل "، وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أوذي أحد ما أوذيت في الله تعالى ".
وعن أبي سعيد الخدري أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك، وعليه قطيفة فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشدُّ حُمَّاك يا رسول الله! قال: " إنا كذلك يشتد علينا البلاء ويُضاعف لنا الأجر ". فقال يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: " الأنبياء ثم الصالحون..".
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله يا رسول الله إني أحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البلايا أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه " [30]. أي توقع البلاء إن كنت صادقاً فيما تقول.. فعلامة حبك لي، أن تُبتلى في الله وتصبر على البلاء!
وبعد، هذه علامات ودلالات المحبة الصادقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم: الاتباع.. والإيثار.. والبلاء.. فمن عدمها عدم صدق المحبة وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى وحده.
وإن زعم بلسانه خلاف ذلك، وتشبع بما لم يُعط، وأظهر أنه من المؤمنين ومن الموحدين الذين يحبون الله تعالى ورسوله فواقع حاله ولسان عمله يحكم عليه بكل وضوح وصراحة: أنه من الكاذبين.. وأنه من المنافقين الكافرين !
[28] أخرجه أبو داود وغيره، السلسلة الصحيحة: 380.
[29] أخرجه أحمد وغيره، صحيح الجامع الصغير: 2539.
[30] أخرجه ابن حبان، السلسلة الصحيحة: 1586.
قلت: وجميع ما تقدم من أحاديث عن البلاء هي صحيحة ولله الحمد. ومن هذه الأحاديث وغيرها نستفيد أن المبتلى في الله تعالى - وبخاصة منهم الذين يشتد عليهم البلاء في الله - يجب أن توسع في حقهم ساحات التأويل والأعذار في حال وقوعهم في الزلات والأمور المتشابهات.. وأن يُقدم في حقهم تحسين الظن على إساءة الظن بهم.. وهذا خلق سني نبوي شريف حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع أحد من أصحابه في زلة وشبهة مريبة.. أقال عثرته وتأول له، وتذكر له الساحات التي ابتلي فيها في الله تعالى .. لا يا عمر، إنه من أهل بدر ..
بينما من لم يُعرف عنه بلاء في الله كانت تضيق في حقه ساحة التأويل والأعذار.. وهذه قاعدة جليلة ينبغي التنبه لها عند الخوض في المسائل الكبار كمسائل الكفر والإيمان.
الشرط الثامن: الرضى بها والانقياد والتسليم لها
لا يكفي العمل بالتوحيد حتى ينضاف إليه الرضى، والانقياد والتسليم - الباطن منه والظاهر - الذي ينافي مطلق التعقيب أو الاعتراض..
قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً} النساء: 65.
لا يكفي لتحقيق الإيمان أن تحتكم إلى التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه إلا إذا أضفت إليه انتفاء الحرج وحصول الرضى {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت}، ثم لا يكفي ذلك كذلك إلا إذا أضفت إليه التسليم المطلق - ظاهراً وباطناً - الذي يتنافى معه أدنى اعتراض أو تعقيب {ويُسلموا تسليماً}.
قال ابن كثير في التفسير: يُقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا مناعة اهـ.
وقال ابن تيمية في تفسير الآية في كتابه الفتاوى 28/471: فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة. اهـ.
وقال ابن القيم في التبيان 270: أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع، وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض. اهـ.
ويقول سيد في الظلال: {فلا وربك لا يؤمنون..} ، ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحد الإسلام، يقرره الله سبحانه بنفسه ويُقسم عليه بذاته، فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ولا تأويل لمؤول، اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام، وإذا كان يكفي لإثبات الإسلام أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله.. فإنه لا يكفي في الإيمان هذا ما لم يصحبه الرضى النفسي، والقبول القلبي، وإسلام القلب والجنان.. اهـ.
وقال تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} النور: 47-48.
فهؤلاء أتوا بالقول، ولئن سألتهم ليقولن أمنا بالله وبالرسول وأطعنا.. ولكن في واقع العمل يكذبون هذا الادعاء وهذا القول؛ وذلك إذا دعوا إلى الطاعة عملاً وإلى الاحتكام إلى الله والرسول أعرضوا وأدبروا وولوا.. وكأن الأمر لا يعنيهم في شيء، وهؤلاء بنص التنزيل: {وما أولئك بمؤمنين}.
قال الطبري في التفسير18/156: {وما أولئك بالمؤمنين} ؛ وليس قائلوا هذه المقالة، يعني قوله {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} بالمؤمنين لتركهم الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عنه إذا دعوا إليه. اهـ.
وإذا كان الحكم بغير ما أنزل الله تعالى منه ما يكون كفراً أكبر، ومنه ما يكون كفراً أصغر دون ذلك بحسب صفة الحكم والقرائن المحيطة بكلٍّ منهما.. على تفصيل معروف عند أهل العلم، إلا أن الحكم بغير ما أنزل الله في التوحيد ليس له إلا وجه واحد: وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله.
قال الشيخ سليمان آل الشيخ رحمهما الله تعالى: تحقيق معنى الآية أن الحكم بغير ما أنزل الله إن كان في الأصل من التوحيد وترك الشرك، أو كان في الفروع ولم يقر اللسان وينقد القلب فهو كفر حقيقي لا إيمان معه.. اهـ.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} الحجرات: 1-2.
إنه الاستسلام المنافي لأدنى تقديم بفهم أو رأي أو قول بين يدي حكم الله تعالى وحكم رسوله.. فمن الله تعالى الرسالة، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ، ومنا القبول والرضى والاستسلام من غير اعتراض ولا تقديم أو تعقيب.
وإذا كان رفع الصوت - مجرد الصوت - فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم يُخشى على صاحبه أن يحبط عمله، ولا يُحبط العمل إلا الشرك والكفر.. فكيف بمن يرفع حكمه وقوله وقانونه - كما هو شأن المشرعين في مجالسهم النيابية التشريعية - على حكم وقول وقانون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدمه عليه.. لا شك أنه أولى بالكفر والشرك، وأن يحبط عمله!
قال ابن القيم رحمه الله في الأعلام 1/51: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم. اهـ.
وقال تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب: 36.
فمن لوازم الإيمان وشروطه انتفاء الاختيار على حكم الله تعالى ورسوله.. فإذا نزل حكم الله تعالى ليس لهم أن يختاروا غيره - ثم يزعموا أنهم مسلمون - إلا في حال آثروا الكفر على الإيمان، وارتضوا لأنفسهم حكم واسم الكافرين المشركين.
قال تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم} النور: 63. والفتنة هنا يُراد منها الشرك والكفر..
قال الإمام أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه.
وقيل له: إن قوماً يدَعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصِحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ! قال الله تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة} وتدري ما الفتنة؟ الكفر.قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي! [31].
قلت: هذا حكم الإمام أحمد فيمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول سفيان أو غيره من أهل العلم.. فكيف بمن يدع قول النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه إلى قول وحكم الأحبار والرهبان من المشرعين في المجالس النيابية التشريعية وغيرها.. لا شك أنه أولى بالفتنة وفي الوقوع في الزيغ والكفر!
[31] عن الصارم المسلول لابن تيمية: 56.