محب الشهادة



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

محب الشهادة

محب الشهادة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشهادة في سبيل الله هي ((اكرم وسيلة لعبادة الله))


    شروط لا إله إلا الله.. الجزء الثاني

    Admin
    Admin
    Admin


    عدد المساهمات : 942
    نقاط : 2884
    السٌّمعَة : 0
    تاريخ التسجيل : 22/03/2010
    العمر : 48
    الموقع : https://achahada-123.ahladalil.com

    شروط لا إله إلا الله.. الجزء الثاني Empty شروط لا إله إلا الله.. الجزء الثاني

    مُساهمة من طرف Admin السبت مايو 15, 2010 6:10 pm


    الشرط الثاني: الكفر بالطاغوت
    من شروط صحة التوحيد الكفر بالطاغوت، إذ لا إيمان إلا بعد الكفر بالطاغوت ظاهراً وباطناً، وإليك الدليل على صحة هذا الشرط:

    قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} البقرة: 256. والعروة الوثقى هنا كما نص على ذلك أهل العلم والتفسير هي: شهادة أن لا إله إلا الله؛ أي من أتى بالكفر بالطاغوت ثم أتبعه إيماناً بالله تعالى فهو الـذي يكون قد استمسك بالعروة الوثقى " لا إله إلا الله ".

    أما من لم يكفر بالطاغوت وإن آمن بالله تعالى لا يكون قد استمسك بالعروة الوثقى، ولا ممن وفوها حقها وشروطها.

    قال ابن كثير في التفسير: أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يُعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.. فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشُبه بالعروة الوثقى التي لا تنفصم في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد.

    قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان.

    وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله.. اهـ. ولا تنافي بين هذه الأقوال ولله الحمد.

    وقال القرطبي في التفسير: قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله} جزم بالشرط.. وقوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشرط.. اهـ.

    وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل: 36. فهذه هي مهمة الأنبياء والرسل على مدار الزمن، ومهمة وغاية كل من سار على نهجهم وطريقهم من الدعاة إلى الله تعالى.

    وفي الحديث، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إلـه إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ".

    فقوله صلى الله عليه وسلم: " وكفر بما يُعبد من دون الله " هو الكفر بالطاغوت..

    فإن قيل: شهادة لا إله إلا الله يتضمن شطرها الأول المتضمن للنفي " لا إله.." جانب الكفر بالطاغوت، فعلام خص ثانية بالذكر كما ورد في الحديث الآنف الذكر؟

    أقول: ذلك لتوكيد الأمر وبيان أهميته، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقوله " وكفر بما يعبد من دون الله تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد لم يعصم دمه وماله.. واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [14].

    وكونه غير معصوم المال والدم لهو دليل صريح على عدم إيمان من لم يكفر بالطاغوت وإن كان يقول لا إله إلا الله، ويكرر ذكرها على لسانه على مدار الساعة، فهو في ذلك مثله مثل من يقول بالشيء وضده في آنٍ معاً، يقول لا إله إلا الله وفي نفس الوقت يعبد آلهة أخرى مع أو من دون الله تعالى.

    وقد تقدم أن الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك لا يمكن أن يجتمعان في قلب امرئٍ واحد كما ورد في الحديث: " لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئٍ " وقد تقدم.

    فإن قيل علام قُدم جانب النفي على جانب الإثبات في شهادة التوحيد وغيرها من النصوص التي تفسر شهادة التوحيد، وما الحكمة من ذلك؟

    أقول: هذا التقديم لجانب النفي على جانب الإثبات في شهادة التوحيد وغيرها من النصوص التي تناولت تفسير الشهادة له فوائد وحكم عديدة هامة ومرادة لذاتها شرعاً:

    منها: أن من لا يأتي بهذا التقديم ويُراعه في نفسه ودينه يلزمه أن يأتي بالشرك والتوحيد معاً، يأتي بعبادة الطاغوت وعبادة الله تعالى في آنٍ واحد.. وهذا دين أهل الشرك الذين جمعوا بين عبادة الله تعالى وبين عبادة الطاغوت.. فهم آمنوا بالله وهم مشركون، كما قال تعالى عنهم: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف: 160.

    ومنها: أن عدم مراعاة هذا التقديم من لوازمه - ولا بد - حبوط العبادة وجميع الطاعات التي يقدمها المرء لله تعالى؛ فهو إذ دخل في عبادة الله تعالى دخل في العبادة والطاعة قبل أن يتبرأ من الشرك وعبادة الطاغوت وينخلع منه.. وقد تقدم أن الشرك يحبط العمل كلياً، ويحرم صاحبه من الانتفاع به، وهو كالسد المنيع الذي يحيل بين العمل وقبوله وصعوده إلى السماء!

    وعليه من دخل في عبادة الصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة أو غيرها من العبادات قبل أن يأتي بالكفر بالطاغوت والبراء منه ومن عبادته وحزبه.. لا تنفعه عبادته تلك في شيء، ولا تُقبل منه، وهو نصَب يرتد عليه بالخسران والندم ولات حين مندم.

    قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: فمن عبد الله ليلاً ونهاراً، ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله؛ لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون عند قبر الزبير أو عبد القادر أو غيرهم..

    ومن ذبح لله ألف ضحيةٍ ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} [15].

    معنى الطاغوت :

    بعد أن عرفنا الدليل على صحة شرط الكفر بالطاغوت كشرط لصحة الإيمان، لا بد أن نعرف معنى الطاغوت لنعرف من يدخل فيه ومن لا يدخل، وأن نعرف كذلك صفة الكفر بالطاغوت لنعرف صفة الكافر بالطاغوت من غيره.

    فأقول في معنى الطاغوت: هو كل ما عبد من دون الله ولو في وجه من أوجه العبادة، وهو راضٍ بذلك [16].

    فمن عُبد من دون الله من جهة الركوع والسجود، وصرف النُّسك.. فهو طاغوت..
    ومن عُبد من دون الله من جهة الدعاء والطلب.. فهو طاغوت..
    ومن عُبد من دون الله من جهة الخوف والرجاء.. فهو طاغوت..
    ومن عُبد من دون الله من جهة الطاعة والتحاكم.. فهو طاغوت..
    ومن عُبد من دون الله من جهة المحبة، والولاء والبراء.. فهو طاغوت.

    فكل مطاعٍ لذاته - من دون الله تعالى - فهو طاغوت.. ويدخل في ذلك حكام الكفر والجور، والأحبار والرهبان، والشيوخ، ورؤساء الأحزاب والجماعات وغيرهم.. والمطيع لهم لذواتهم عابد للطاغوت من دون الله علم بذلك أم لم يعلم!

    وكل محبوب لذاته - من دون الله تعالى - فهو طاغوت.. والمحبوب لذاته هو الذي يُعقد الولاء والبراء فيه ولذاته - وليس في الله ولذاته عز وجل - بغض النظر عن موافقته أو متابعته للحق أو الباطل!

    كثير هم الذين يحسبون أنفسهم على شيءٍ وأنهم أحرار - يعيشون في زمن العالم الحر! - وهم في حقيقة أمرهم عبيد للطواغيت.. عبيد لعبيد هم أحط منهم قدراً وشأنا!

    قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 28/200: فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارهاً لذلك طاغوت، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام طواغيت في الحديث الصحيح لما قال: " ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت "، والمطاع في معصية الله، والمطاع في التباع غير الهدى ودين الحق سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مطاعاً أمره المخالف لأمر الله هو طاغوت، ولهذا سُمي من تحوكم إليه ممن حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمى الله فرعون وعاداً طغاة اهـ.

    وقال ابن القيم رحمه الله: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعوه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته اهـ.

    قلت: إذا كان هذا حال الناس في زمن ابن القيم رحمه الله فكيف الحال في زماننا وقد تكاثرت الطواغيت واستشرفت وتنوعت.. وقد دلت السنة أن ما من عام إلا والذي بعده أشر منه، نسأل الله تعالى السلامة وحسن الختام؟!

    وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله - ورضي بالعبادة - من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت اهـ.

    وقال سيد رحمه الله في الظلال عند تفسيره لقوله تعالى {وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت}: إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله، وكل حكم لا يقوم على شريعة الله، وكل عدوان يتجاوز الحق، والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغياناً، وأدخله في معنى الطاغوت لفظاً ومعنى..

    وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان، ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله، فسماهم الله عباداً لهم وسماهم مشركين. فهم عبدوا الطاغوت أي السلطة الطاغية المتجاوزة لحقها، وهم لم يعبدوها بمعنى السجود والركوع، ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة، وهي عبادة تُخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله اهـ.

    فاحذر يا عبد الله أن تكون من عبدة الطاغوت، ومن أنصاره وجنده - وأنت تدري أو لا تدري - فيحبط عملك، وتبوء بإثمك، فتخسر دنياك وآخرتك!

    صفة الكفر بالطاغوت :

    بعد أن عرفنا الطاغوت وما يدخل في معناه وحكمه، لا بد أن نعرف صفة الكفر بالطاغوت، وكيف يكون الكفر به.. ليعلم كل واحدٍ منا هل هو ممن يكفرون بالطاغوت حقيقةً، أم أنه يكفر بالطاغوت زعماً باللسان فقط!

    أقول: الكفر بالطاغوت ليس بالتمني ولا بزعم اللسان من غير برهان أو عمل.. وصفته أن يُكفر به اعتقاداً وباطناً، وقولاً وعملاً.

    1) صفة الكفر الاعتقادي بالطاغوت: أن يُضمر له العداوة والبغضاء والكره في القلب، ويعتقد كفره وكفر من يدخل في عبادته من دون الله تعالى.

    وهذا الحد من الكفر بالطاغوت لا يُعذر أحد بتركه لأنه أمر مقدور عليه يستطيع كل امرئٍ أن يأتي به من دون أدنى ضرر أو حرج، لا سلطان لبشر يمكنه من الحيلولة بينه وبين اعتقاده هذا، وبالتالي لا يُعذر أحد بالإكراه فيما يضمر أو يعتقد لو اعتقد أو أضمر الكفر والرضى بالطاغوت، لأن الإكراه سلطانه على الجوارح الظاهرة لا الجوارح الباطنة.

    فهو أمر لا بد منه لأن خلافه يقتضي الرضى بالكفر.. الرضى القلبي بالطاغوت وإجرامه وكفره.. والرضى بالكفر كفر بلا خلاف.

    2) صفة الكفر القولي بالطاغوت: يكون ذلك بإظهار كفره وتكفيره باللسان، وإظهار البراءة منه ومن دينه وأتباعه وعبيده، وبيان ما هم عليه من باطل وشعوذة وكفر.

    كما قال تعالى: {قل يا أيها الكافرون..} حيث لا بد من مواجهتهم بهـذه الكلمة الساطعة والواضحة الدلالة والمعاني من غير التواء أو تلجلج أو ضعف التي تصف حقيقة حالهم وما هم عليه: يا أيها الكافرون.. يا أيهـا المشركون المجرمون !

    وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} الممتحنة: 4.

    فإبراهيم عليه السلام ومن آمن معه من المؤمنين أسوة حسنة لنا، في ماذا؟ في قولهم للمشركين ولطواغيتهم الذين يعبدونهم من دون الله: إنا برآء منكم ومن دينكم، ومن طواغيتكم.. كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله!

    قد بدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً.. وهو تعبير يفيد غاية الظهور والوضوح والإستعلان.. فهي عداوة مستمرة أبداً - عداوة وبغضاء الجوارح الظاهرة والباطنة - التي لا يمكن أن تهدأ، أو يخفت نارها إلا بشرط واحد: هو أن تنخلعوا كلياً من عبادة الطواغيت وتدخلوا في سلم العبودية لله تعالى وحده.

    وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين} الزخرف: 26-27.

    هذه ملة إبراهيم عليه السلام لا بد لكل من يرتضي ملته الحنيفية من أن يأتي بهذا القول والإعلان والبراء.. ولا يرغب عن ملته والاقتداء به إلا السفيه الذي لا عقل له، كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} البقرة: 130.

    وفي الحديث عن معاوية بن حيدة قال: قلت يا نبي الله، بما بعثك ربك إلينا؟ قال: " بالإسلام " قال: قلت وما آيات الإسلام؟ قال: " أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخلّيت، وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً، أو يُفارق المشركين إلى المسلمين " [17].

    فقوله صلى الله عليه وسلم " وتخليت "؛ أي تخليت وأقلعت عن الشرك وعبادة الطواغيت من دون - أو مع - الله تعالى.

    فمن الإمارات والعلامات الدالة على صدق إسلامك أن تقول - بكل وضوح وثبات ومن دون أدنى تلجلجٍ أو تردد - لجميع الطواغيت في الأرض: قد تخليت عنكم، وعن عبادتكم!

    قال ابن تيمية رحمه الله: فلا يكون المرء موحداً إلا بنفي الشرك والبراءة منه وتكفير من فعله. اهـ.

    3) صفة الكفر بالطاغوت عملاً: يكون ذلك باعتزاله واجتنابه وجهاده، وجهاد أتباعه وجنوده، وقتالهم إن أبوا إلا القتال، وعدم اتخاذهم أعواناً وأولياء، كما قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد} الزمر: 16.

    وقال تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} التوبة: 12. وأئمة الكفر هم الطواغيت. وقال تعالى: {وليجدوا فيكم غلظة} التوبة: 123. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء} النساء: 144. وقال تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} المائدة: 51. وقال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} الممتحنة: 1. وغيرها كثير من النصوص التي توضح معالم وصفات الكفر بالطاغوت قولاً وعملاً.

    وبعد، هذه صفة الكفر بالطاغوت فمن أتى بها كاملاً غير منقوصة فهو الذي يكون قد كفر بالطاغوت وقد وفى الشرط حقه.. ومن لم يأت بهذه الصفة المتقدم ذكرها لا يكون قد كفر بالطاغوت وإن زعم بلسانه ألف مرة أنه كافر بالطاغوت!

    وإن كنت أعجب فأعجب لأناس يزعمون بألسنتهم الكفر بالطاغوت، ويستهجنون أن يكونوا من عبيد الطواغيت.. وفي نفس الوقت في لسان الحال والعمل - وربما في لسان القال كذلك - تراهم يوالون الطواغيت، ويُكثرون الجدال عنهم، ويذودون عنهم، ويدخلون في خدمتهم ونصرتهم، وجيوشهم، والتحاكم إليهم.. ومنهم من يعادي الموحدين لأجلهم!

    فهؤلاء لم يحققوا شرط الكفر بالطاغوت مهما زعموا بلسانهم خلاف ذلك.. فواقعهم ولسان حالهم يكذبهم ويرد عليهم زعمهم وادعاءهم.

    مسألة: هل يصح إطلاق كلمة الطاغوت على المسلم، أم أن هذه الكلمة لا يجوز أن تُطلق إلا على الكافر الذي له صفة الطاغوت كما تقدم؟!

    أقول: الطاغوت على صيغة فعلوت؛ وهو من البغي والعدوان ومجاوزة الحد.. فمن كان بغيه وعدوانه وظلمه دون الكفر يُطلق عليه وصف الطاغوت على اعتبار معناه ودلالاته اللغوية وهي البغي والعدوان ومجاوزة الحد.. كما أطلق بعض السلف على الحجاج وغيره وصف الطاغوت أو الطاغية.. وأرادوا من ذلك المعنى اللغوي الآنف الذكر، ولم يريدوا أنه طاغوت بمعنى أنه كافر ويُعبد من دون الله.

    أما إن كان هذا البغي والظلم والعدوان.. بلغ بصاحبه درجة الكفر بالله تعالى، فإن وصف الطاغوت يُحمل عليه بمعناه الاصطلاحي وهو المعبود من دون الله، وبمعناه اللغوي وهو العدوان ومجاوزة الحد.

    وللتميز بين الطاغوتين عند قراءة كتب أهل العلم والاستماع إليهم لا بد من النظر إلى مجموع سياق الكلام، والقرائن الواردة فيه التي تُعينك على تحديد نوع الطاغوت المراد من كلامهم.

    إلا أنني قد تتبعت كلمة الطاغوت في القرآن الكريم وفي السنة.. فكلها جاءت بمعنى الطاغوت الكافر الذي يُعبد من دون الله تعالى.. والله تعالى أعلم.


    [14] مجموعة التوحيد: 10- 35.
    [15] الرسائل الشخصية: 166.
    [16] قيد الرضى لا بد منه لنخرج بذلك الملائكة والأنبياء، والصالحين - الذين يُعبدون من دون الله - من وصف وحكم الطاغوت، لكرههم الشديد لذلك ونهيهم عنه، ولعدم رضاهم في أن يُعبدوا في شيءٍ من دون أو مع الله عز وجل .. وفي مثل هذه الحالة يقتصر البراء والكفر بالعابدين وبعبادتهم الشركية فقط من دون أن يطال ذلك المعبودين الذين يستحقون منا التوقير والموالاة في الله من غير جنوح إلى إفراطٍ أو تفريط.
    [17] صحيح سنن النسائي: 2408.

    الشرط الثالث: العلم
    العلم بالتوحيد شرط لصحته؛ لأن جاهل التوحيد كفاقده، وفاقد التوحيد لا يعتقده، ومن لا يعتقد التوحيد لا يكون مؤمناً ولا مسلماً، وهو كافر بلا خلاف.

    والدليل على صحة هذا الشرط قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} محمد: 19.

    وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة " مسلم.

    مفهوم الحديث أن من مات وهو لا يعلم التوحيد لا يدخل الجنة، ومن لا يدخل الجنة لا يكون مسلماً؛ لأن المسلم يدخل الجنة، كما مر معنا في الحديث المتفق عليه: " لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ".

    وتأتي أهمية هذا الشرط كذلك من جهة كونه يتقدم العمل بالتوحيد، وهو لازم له؛ لأن التوحيد لا يمكن العمل به إلا إذا تقدمه العلم.. فالعلم يتقدم العمل في كل شيءٍ، ولا يصح العكس في ذلك.

    ومن عكس القاعدة فقدم العمل على العلم عبد الله عن جهل وغير بصيرة.. وهذا مؤداه - ولا بد - إلى الانحراف والضلال والإحداث في الدين والعياذ بالله.

    وعليه من حُرم العلم بالتوحيد لزمه تباعاً أن يُحرم العمل به ولا بد، لذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعنون تعلم التوحيد الأهمية والأولوية قبل أي علم آخر.

    كما في الحديث عن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان، فتعلمنا الإيمان - أي التوحيد - قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً [18].

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحداً من أصحابه إلى أي بلدٍ من البلدان يأمره بأن يدعوا أهلها أولاً إلى التوحيد قبل أن يدعوهم إلى أي شيءٍ آخر، كما في الحديث المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: " إنك تقدم على قومٍ أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله - وفي رواية لا إله إلا الله - فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم..".

    وقوله صلى الله عليه وسلم "فإذا عرفوا الله "؛ أي عرفوا الله بأسمائه وصفاته وخصائصه عز وجل، وعرفوا حقه عليهم من التوحيد وإفراده في العبادة، وأطاعوك في ذلك.. فبعدها أخبرهم أن الله تعالى فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم إلى آخر ما جاء في الحديث.

    وهذا بخلاف ما عليه كثير من الدعاة المتأخرين، حيث تراهم أول ما يبتدئون به الناس دعوتهم إلى الصلاة والصوم والزكاة قبل أن يدعوهم إلى التوحيد الخالص، ويُعرفهم على معناه.. بل ومن دون أن يدعوهم إلى التوحيد، أو يعنوه اهتمامهم!

    لذا لا تفاجأ لو رأيت بعض هؤلاء الدعاة يقعون في الشرك ويمارسونه وهم يدرون أولا يدرون.. فالشرك لا يلفت انتباههم ولا يثير حفيظتهم لأنهم لا يعرفونه، كما أن التوحيد لا يُعنى منهم الاهتمام والدراسة لجهلهم لفضله وقيمته.

    فكم من شرك يطرأ على الأمة يمرون عليه مر الكرام، وفي كثير من الأحيان لا يلقى منهم إلا المباركة والتأييد؛ كالشركيات التي تأتي من جهة الديمقراطيات الحديثة التي تؤله المخلوق، وتعبد العبيد للعبيد.. والتي تمارس في كثير من أمصار المسلمين وغيرها [19].

    وكالشركيات التي تأتي من جهة طغيان طواغيت الحكم، ومن جهة قصورهم وتحكيم قوانينهم الوضعية!

    وكالشركيات التي تأتي من جهة فرق الضلال المحسوبة على الإسلام كالشيعة الروافض وغيرهم من فرق الباطنية الغلاة!

    كم هم المشايخ الذين صفقوا للشيعة الروافض ولثورتهم الشيعية، وارتموا في أحضانهم يستجدون منهم العون والمدد من غير فائدة تُذكر.. على ما عند الآخرين من شركيات وكفريات يعلمها عنهم القاصي والداني.. وهذا كله بسبب جهلهم للتوحيد!

    وكذلك الشركيات التي تأتي من جهة فرق التصوف المنتشرة - بدعم من الطواغيت - في أمصار المسلمين!

    فهذه الشركيات السائدة وغيرها لا تكاد تلفت نظرهم فضلاً عن أن يعملوا على تغييرها وإنكارها، وهذا مرده كله إلى جهلهم بحقيقة التوحيد، وجهلهم لشروط ومتطلبات شهادة التوحيد لا إله إلا الله.. وفهمها وتفسيرها على غير مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .. وانشغالهم عنها بالفروع وبالمباحات، وبما هو دونها أهمية من مسائل العلوم الأخرى!

    قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: دين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد؛ وهو معرفة لا إله إلا الله محمد رسول الله، والعمل بمقتضاها، فإن قيل: كل الناس يقولونها: قيل منهم من يقولها ويحسب معناها أنه لا يخلق إلا الله ولا يرزق إلا الله وأشباه ذلك، ومنهم لا يفهم معناها، ومنهم من لا يعمل بمقتضاها، ومنهم من لا يعقل حقيقتها، وأعجب من ذلك من عرفها من وجه وعاداها وأهلها من وجه ! وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها .. يا سبحان الله العظيم أتكون طائفتان مختلفتين في دين واحد وكلهم على الحق؟! كلا والله.. فماذا بعد الحق إلا الضلال. اهـ.

    قلت: كم هؤلاء الذين يدعون في زماننا وصل التوحيد، ويكثرون الحديث عن العقيدة الصحيحة.. وهم في نفس الوقت يوالون أعداء التوحيد، ويجادلون عنهم ويوسعون لهم ساحة التأويل والأعذار.. بينما في المقابل يعادون أهل التوحيد، ويُسيئون بهم الظن، ويرمونهم بأقذع الألقاب والعبارات، ويُضيقون عليهم ساحة الأعذار أو التأويل!

    من هنا تأتي أهمية بيان المراد من العلم الوارد ذكره في الشرط الآنف الذكر.. هل هو العلم المعرفي النظري الذي لا يلامس حرارة القلوب، أم أنه العلم الذي يحمل صاحبه على الالتزام والعمل بالتوحيد ومقتضياته؟

    أقول: لا شك أن المراد من العلم هو العلم الذي يزيد صاحبه إيماناً ويقيناً، ويحمله على العمل والحركة من أجل إعلاء كلمة هذا الدين..

    العلم الذي يحمل صاحبه على أن يوالي في الله ويُعادي في الله، ويحب في الله ويبغض ويجافي في الله..

    العلم الذي يحمله على معاداة أعداء التوحيد وأهله، وموالاة أهل التوحيد وجنده..

    العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الفهم الحقيقي لدلالات التوحيد ومتطلباته..

    العلم الذي يحمله على العمل والالتزام..

    العلم المستقى من الكتاب والسنة بعيداً عن إسلوب أهل الكلام ومسائلهم وتعقيداتهم الكلامية!

    أما المعرفة النظرية المجردة الباردة، التي لا تلامس حرارة القلوب واليقين.. ولا تحمل صاحبها على الالتزام والعمل فهي لا تغني عنه شيئاً، وهي لا تزيده إلا وزراً وإثماً!

    هذه المعرفة كان يتصف بها إبليس عليه لعائن الله، وأحبار ورهبان أهل الكتاب ومع ذلك ما نفعتهم في شيء، كما قال تعالى عنهم: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} البقرة: 146. ومع ذلك لما لم يتبعوا هذه المعرفة بالمتابعة والانقياد لتعاليم وهدي الشريعة فلم تنفعهم معرفتهم شيئاً.

    قال ابن كثير في التفسير: يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده من بين أبناء الناس كلهم. ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والاتقان العلمي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم {وهم يعلمون} اهـ.

    وقال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 1/242: الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر، أو الامتناع عن المتابعة مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم. اهـ.

    فالمعرفة المجردة للتوحيد شيء، والعلم بالتوحيد الذي يحمل صاحبه على الالتزام والعمل والفهم الصحيح شيء آخر، وهو المطلوب من حديثنا عن شرط العلم المتقدم.

    فإن قيل - وقد قيل - قد عقدت الأمور يا أبا بصير، فدع الناس على إيمان العوام وعقيدة العجائز، فإن بعض أهل العلم كالجويني وغيره قد أُثر عنهم قولهم: أنهم ودوا أن يموتوا على إيمان وعقيدة عجائز نيسابور، وعقيدة عوام الناس!
    فكيف نوفق بين ذلك وبين ضرورة التفقه بالتوحيد كما قدمت؟!

    أجيب على هذا السؤال بما يلي:

    أولاً: أن شرط العلم بلا إله إلا الله وبمتطلباتها وحقوقها.. قد دلت عليه نصوص الكتاب والسنة كما تقدم، وهو ليس قولاً لبشر يمكن رده وعدم الالتفات إليه.

    ثانياً: أن هذه المقولة التي نقلت عن الجويني وغيره من أهل العلم إنما أرادوا منها بيان سوء ما وصل بهم انشغالهم بعلم الكلام والفلسفة - بعيداً عن هدي الكتاب والسنة - وما أدى بهم

    ذلك إلى الحيرة والقلق والشك، مما حملهم على التمني لو أنهم ماتوا على عقيدة عجائز نيسابور أو عقيدة عوام المسلمين - الذين لم يتلوث إيمانهم بشبهات وأهواء أهل الكلام - وما اشتغلوا بهذا النوع من العلم الساقط.. وليس أن إيمان العجائز أو العوام غاية تُطلب أو أنه خير من إيمان علماء التوحيد الذين أخذوا علومهم من الكتاب والسنة، أو من إيمان من يتفقه بالتوحيد من الكتاب والسنة.. فهذا ليس مرادهم، وإليك بعض أقوالهم في ذلك لتدرك مرادهم وقصدهم من مقولتهم تلك، التي استغلت أسوأ استغلال من بعض أصحاب ضعاف النفوس المريضة !

    قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية: انتهى أمر الغزالي - رحمه الله - إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فمات وصحيح البخاري على صدره.

    وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: وأرواحنا في وحشةٍ من جسومِنا وحاصل دُنيانا أذى ووبالُ ولم نستفِد من بحثنا طولَ عمرنا سوى أن جمعنا فيه: قيلَ وقالوا!

    ولقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوى} طه: 5. {إليه يصعد الكلم الطيب} فاطر: 10. واقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء} الشورى: 11. {ولا يحيطون به علماً} طه: 110.

    ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي!

    وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيَّرت طرْفي بين تلك المعالم فلم أرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سِنَّ نادِم!

    وكذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفتُ أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضمَّ، وخليتُ أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور!

    وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي لبعض الفضلاء: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقنٌ به؟ فقال: نعم، فقال: أشكرِ الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد.. وبكى حتى أخضلت لحيته!

    قال ابن أبي العز معلقاً على ما تقدم: وتجدُ أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيكونون في نهايتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلـة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب [20]!

    قلت: قد عرفت أيها القارئ من خلال ما تقدم أن هذه المقولة التي نقلت عن بعض أهل العلم إنما هو لبيان سوء ما وصلوا إليه، وبيان سوء طلب العلم - وبخاصة منه العقائد ومسائل التوحيد - على طريقة أهل الكلام والفلسفة، وأن العلم الحق يُطلب من مظانه المحصورة في الكتاب والسنة وحسب.

    وقد علمت كذلك أن هذه المقولة لا متعلق صحيح بها لدعاة الجهل بالتوحيد.. كما أنه لا يجوز أن تكون دليلاً أو سبباً يبرر القعود عن التفقه بالتوحيد من مظانه الشرعية الصحيحة.

    مسألة هامة في بيان حال وحكم جاهل التوحيد :

    اعلم أن هذه المسألة من جملة المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس؛ حيث فريق منهم جنح ومال فيها إلى الإفراط وفريق آخر جنح ومال إلى التفريط!

    كما أن هذه المسألة لا يصح فيها قول واحد - معذور أو غير معذور، كافر أو غير كافر - من دون تفصيل يوضح وجهة الحق في المسألة، والمنهج الوسطي الذي دلت عليه النصوص الشرعية، والذي عليه عقيدة أهل السنة والجماعة.

    وعليه فأقول: جاهل التوحيد قسمان كافر أصلي، ومسلم من أهل القبلة.

    والكافر الأصلي الجاهل للتوحيد قسمين كذلك: قسم معذور بالجهل، وقسم غير معذور بالجهل.

    الكافر الجاهل المعذور بالجهل: هو الكافر الذي لم تبلغه نذارة الرسل بأي وجه من الوجوه، ولم يتمكن من الوقوف عليها بنفسه لظروف قاهرة تحيل بينه وبين ذلك.

    فهذا الراجح فيه أنه لا يُجزم له بعذاب ولا جنة، وأن له حكم أهل الأعذار الذين يعتذرون على الله تعالى يوم القيامة؛ كالأصم الذي لم يسمع شيئاً، والأحمق الخرف، وصاحب الفترة الذي مات في الفترة ولم تبلغه نذارة الرسل كما ورد في شأنهم الحديث المشهور الذي أخرجه أحمد وغيره عن أبي هريرة وغيره من الصحابة..

    ولكن عدم الجزم بلحوق الوعيد والعذاب به لا يمنع عنه أن يُحكم عليه في الدنيا بأنه كافر يطاله اسم الكفر ووصفه [21].

    أما القسم الآخر: وهو الذي لا يعذر بالجهل وإن كان جاهلاً، وحكم الكفر يطاله في الدنيا والآخرة، ويُجزم له بالعذاب لو مات على كفره وشركه؛ وصفته أن تبلغه الدعوة ولكن لا يرفع بها رأساً ولا يُحرك لأجلها ساكناً، فهو تراه يؤاثر الخمول والجهل على العلم والتعلم!

    وكذلك الكافر الذي يقع في الجهل وهو قادر على دفعه لو أراد لكنه لا يفعل إيثاراً للدنيا ومشاغلها، أو لأي سبب آخر!

    فهذا والذي قبله وإن كان جاهلاً بحقيقة التوحيد إلا أن جهله - بعد بلوغ النذارة إليه - لا يمنع عنه لحوق الوعيد في الآخرة، وحكم الكفر يُحمل عليه في الدنيا والآخرة.. فليس كل جهل يكون عذراً لصاحبه، كما أنه ليس كل جهل لا يكون عذراً لصاحبه.

    أما المسلم الجاهل فهو كذلك أقسام:

    1) قسم دخل الإسلام لكنه يجهل بعض أصول التوحيد أو بعض ما يدخل في معنى العبادة لعجزٍ لا يمكن دفعه؛ كالذي يكون حديث عهدٍ بالإسلام، أو كالذي يسكن في منطقة نائية عن العلم ومظانه؛ لا العلم يصله، ولا هو يستطيع أن يصل العلم.. فهذا وإن وصف ما وقع فيه من مخالفة بالكفر إلا أن حكم الكفر لا يطاله بعينه في الدنيا، ولا تُجرى عليه أحكامه وتبعاته، وكذلك حكم الوعيد في الآخرة فإنه لا يطاله إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليه، وإزالة الموانع عنه التي حالت بينه وبين تعلم التوحيد.

    2) قسم يجهل بعض أصول التوحيد وشروطه الضرورية - التي لا يصح الإيمان إلا بها - عن غير عجزٍ، أو عن عجز يمكن له دفعه لو أراد، لكنه لا يفعل إيثاراً للدعة أو الدنيا وملذاتها.. فهذا وأمثاله وإن كان كفره من جهة الجهل لما هو ضروري من الدين والتوحيد فإنه لا يُعذر بالجهل، وحكم الكفر يطاله بعينه في الدنيا، وفي الآخرة لو مات عليه، ولا يُشترط لتكفيره قيام الحجة عليه؛ لأن الحجة قائمة عليه وهي معروضة عليه صباح مساء لكنه هو الذي لا يأتيها ولا يطلبها!

    3) قسم وقع في مخالفة بعض ما يدخل في فروع العقيدة والتوحيد، كالكلام على بعض مسائل الصفات كما هو حال الأشاعرة وغيرهم.. فإنهم آثمون يطالهم وصف الضلال والإحداث في الدين دون وصف وحكم الكفر.

    أما حكمهم في الآخرة.. فهم وغيرهم من العصاة من أهل القبلة لا يُشهد لهم - على وجه التعيين - بعذاب ولا جنة، وأمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم عز وجل .. مع بقاء القول على العموم أن أصحاب هذا القول أو أصحاب هذه المعاصي يستحقون عليها الوعيد والعذاب يوم القيامة لورود النصوص العديدة في ذلك.

    4) أما من يقع في هذا النوع من المخالفة عن تأويل أو اجتهاد معتبر، أو جهل مُعذر فإنه لا يطاله بعينه وصف الضلال والإحداث في الدين، وإن كان الفعل ذاته هو من الضلال والإحداث.. حتى تقوم عليه الحجة الشرعية، التي تدفع عنه العجز في إدراك مراد الشارع فيما قد خالف فيه.

    هذا تقسيم وتفصيل ضروري لمن أراد أن يخوض في مثل هذه المسائل، أوردناه هنا بإيجاز شديد، فمن لم يقنع به وأراد التفصيل والأدلة على ما ذُكر فعليه بكتابنا " العذر بالجهل " وكذلك " قواعد في التكفير ".. عسى أن يجد فيهما ما يبتغيه ويريده.

    ضوابط قيام الحجة على الجاهل؟

    لقيام الحجة على الجاهل المخالف ضوابط، منها:

    1) أن يكون الجاهل المخالف ممن يُعذرون بالجهل؛ وصفته أنه يقع في المخالفة الشرعية عن جهل معجز لا يمكن له دفعه!

    أما إن كان جهله عن غير عجزٍ، أو عن عجزٍ يمكن لصاحبه دفعه لكنه لا يفعل.. فهذا مما لا يُعذرون بالجهل، ولا يُشترط لتكفيره - لو وقع في الكفر البواح - قيام الحجة؛ لأن الحجة معروضة عليه، وهو الذي لا يريدها ولا يُحرك ساكناً نحوها!

    2) تقوم الحجة الشرعية على الجاهل المخالف ببلوغ المعلومة الشرعية الصحيحة التي تحسم مادة الجهل عنده فيما قد خالف فيه.

    فلو كان كفره مثلاً من جهة استحلاله للخمر، فبلغه الخطاب الشرعي في حرمة الزنى، والربى أو غير ذلك.. فالحجة الشرعية لا تكون قد قامت عليه حتى يبلغه الخطاب الشرعي الذي يفيد حرمة الخمر؛ وسبب ذلك أن الخطاب الشرعي الذي يفيد حرمة الزنى لا يدفع عنه العجز في جهل حرمة الخمر..

    3) يشترط في الحجة أن تصل الجاهل بلغة يفهمها ويفهم المراد منها، ولا يُشترط أن يقتنع بها، ففهم الخطاب شيء وهو شرط، والاقتناع المؤدي إلى الالتزام شيء آخر وهو ليس شرطاً.

    4) المهم في قيام الحجة أن تصل الجاهل بلغة يفهم المراد منها بغض النظر عن الوسيلة التي تنقل إليه هذه المعلومة الشرعية التي بها يندفع جهله.

    فهذه الوسيلة - الحاملة للحجة - قد تكون كتاباً، أو مجلة، أو عن طريق المذياع أو مواقع الإنترنت، أو الدعاة إلى الله.. أو غير ذلك.

    المهم في هذه الوسيلة أن تملك المعلومة الشرعية الصحيحة التي تدفع عنصر الجهل عند الجاهل وهذا شرط، ولا يُشترط في الذي يقيم الحجة أن يكون عالماً مجتهداً أصولياً إلى آخر القائمة التي يفترضها مرجئة العصر من بنات عقولهم وأهوائهم!

    لكن إن قيل يُشترط فيمن يُقيم الحجة أن يكون عالماً بالمسألة التي يريد أن يُقيم بها الحجة على الجاهل المخالف.. فهو قول حق؛ لأن جاهل الشيء كفاقده، وفاقد الشيء لا يُمكن أن يعطيه للآخرين.

    5) يكفي لقيام الحجة الشرعية على الكافر الأصلي - الذي لم تبلغه من قبل نذارة الرسل - أن يسمع العبارة التالية، وهي: أن محمداً رسول الله للعالمين، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله..

    فإن بلغته هذه العبارة بلغة يفهمها فقد قامت عليه الحجة الشرعية، ولم يعد يُعذر بالجهل لو قابل هذه الدعوة بالرد أو الإعراض أو الإهمال.. وهو كافر في الدنيا والآخرة، يطاله الوعيد ويُشهد له به لو مات على كفره.

    والدليل على ما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت إلا كان من أصحاب النار " مسلم.

    فدل الحديث أن من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدم ولم يؤمن به إلا هو من أهل النار الخالدين فيها.

    6) أما الصيغة التي تُقام بها الحجة على المسلم الجاهل فهي تختلف بحسب نوع المخالفة التي وقع فيها؛ وبحسب ظروف الجاهل والشبهات المحيطة به فهناك مثلاً مخالفة تُقام فيها الحجة بعبارة واحدة أو أن يبلغه فيها حديث أو آية واحدة، وهناك مخالفات قيام الحجة فيها قد تحتاج إلى بيان وشرح وتفصيل، وربما إلى مناظرات ومراجعات بحسب نوع الشبهات وحجمها..

    كما أن هناك مخالفات حمالة أوجه، والكفر فيها غير صريح ولا بواح.. وفي مثل هذه الحالات لا بد من مراعاة قصد صاحبها، والنظر هل يُريد ويقصد منها الوجه المكفر أم لا، وبخاصة إن صدرت هذه المخالفات عمن عرف بالعلم والاجتهاد، وسابقة جهاد وابتلاء في سبيل هذا الدين.. فمثل هؤلاء لا بد من توسيع دائرة التأويل في حقهم ومراعاة قصدهم والنظر ابتداءً ما الذي حملهم على المخالفة.. قبل إصدار الأحكام المتسرعة بحقهم!

    ومثل هذه المراعاة للقصد لا يجوز أن تقال عند ورود الكفر البواح الصريح ووقوع المرء فيه.. فتنبه لذلك!


    [18] صحيح سنن ابن ماجة: 52.
    [19] إن أردت أن تعرف الشركيات التي مصدرها الديمقراطيات الحديثة، ومن من المشايخ الذين باركوها وأيدوها وانتصروا لها في كتاباتهم وندواتهم انظر كتابنا " حكم الإسلام في الديمقراطية والتعددية الحزبية ".
    [20] تهذيب شرح العقيدة الطحاوية: 128.
    [21] مع الانتباه أن الكافر الذي لم تبلغه نذارة الرسل لا تجوز مبادأته بالقتال قبل بلوغ الدعوة إليه، بخلاف الكافر الذي بلغته الدعوة فقابلها بالرد والإعراض.. فهذا تجوز مبادأته بالقتال من دون سابق إنذار.

    الشرط الرابع: الصدق والإخلاص
    من شروط صحة التوحيد الصدق والإخلاص، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " البخاري.

    وقال صلى الله عليه وسلم: " أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً بها دخل الجنة " البخاري.

    مفهوم المخالفة أن من شهد أن لا إله إلا الله لكنه كان غير صادقٍ بها لا يدخل الجنة، وهو من أهل النار.

    وقال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف: 110. فمن شروط صحة العبادة الإخلاص؛ وهو المراد من قوله تعالى: {ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً} ومن أخص ما يدخل في معنى العبادة التوحيد.. فمن أتى به على غير وجه الإخلاص كان منافقاً ولا يُقبل منه.

    وفي قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} الملك: 2. قال أهل العلم والتفسير: أي أصوبه وأخلصه.

    وقال تعالى: {وما أُمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصين له الدين حنفاء} البينة: 5. فالله تعالى أمر عباده أن يعبدوه ويوحدوه على وجه الإخلاص والصدق، ومن عبده ووحده لكن على غير وجه الإخلاص لا يُقبل منه، ولم يأتِ بالتوحيد الخالص!

    ومن الأدلة على صحة هذا الشرط أن من لوازم انتفائه تحقيق النفاق الأكبر الذي يجعل صاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} النساء: 145. وقال تعالى: {وعدَ اللهُ المنافقين والمنافقات والكفارَ نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} التوبة: 68.

    ومما يُستفاد من هذا الشرط بطلان مذهب مرجئة الكرامية الذين قالوا: من أقر بلا إله إلا الله لفظاً هو مؤمن وإن لم يأتِ بالتصديق أو الاعتقاد القلبي.. وقد تقدمت الإشارة إليهم، وإلى من يقول بقولهم من مرجئة العصر، وإن لم يسم نفسه باسمهم!

    وهذا مذهب باطل كفري لأن مفاده أن المنافق الزنديق الذي يأتي بشهادة التوحيد لفظاً - بينما هو يضمر لها في قلبه التكذيب والعداوة - هو مؤمن ومن أهل الجنة.. وهذا فيه ما فيه من تكذيب صريح لنصوص الشريعة العديدة التي تبين أن المنافقين لا يدخلون الجنة وهم في الدرك الأسفل من النار!

    ويُستفاد منه كذلك أن هؤلاء الذين يقولون لا إله إلا الله على وجه الهزل واللعب والتمثيل، أو الإسكات، وعلى غير وجه الجد.. ليسوا بمؤمنين ولا مسلمين لأنهم لا يقولونها صادقين مخلصين.

    وكذلك الذي يقولها من الطواغيت من قبيل السياسة والتضليل للشعوب، ليموهوا عليهم حقيقة كفرهم وطغيانهم، وأنهم مسلمون تجب لهم الطاعة والموالاة.. معتمدين في ذلك التضليل على بطانتهم السيئة من مشايخ الإرجاء الذين يقومون بالنيابة عنهم في إقناع الناس أن هؤلاء الحكام مسلمون ماداموا يصرحون بشهادة التوحيد!

    أقول: هؤلاء الطواغيت الذين ينطقون بالشهادة - على وجه السياسة والتكتيك - فإنها لا تنفعهم في شيء؛ لأنهم لا يقولونها على وجه التصديق والإخلاص.

    وكذلك الذي ينطق بشهادة التوحيد من أصحاب الدعوات العلمانية وغيرهم من زنادقة العصر.. فإنهم لا ينتفعون بها في شيء لإضمارهم الكفر والنفاق الذي يُضادها وينفيها.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 22, 2024 11:35 pm