{ولتستبين سبيل المجرمين}
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارجه: (إذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام، طرقوه بقدر الله، أفيحل للمسلمين الاستسلام للقدر وترك دفعه بقدر مثله، وهو الجهاد الذي يدفعون به قدر الله بقدره؟).
اعلموا أيها المسلمون...
أن الجهاد في سبيل الله اليوم دواء لكثير من الأمراض التي تشكو منها الأمة، فإنه لا شيء بعد التوحيد يعدل الجهاد نفعاً للبلاد والعباد؛ فهو طريق قد تكفل الله بهداية سالكيه، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
لذلك كان السلف إذا أشكل عليهم أمر من أمور الدين، توجهوا بمسألتهم إلى أهل الثغور والجهاد، تيمنا ًأن يجدوا الهداية والصواب عندهم.
وهو كذلك باب من أبواب الجنة، يُذهب الله به الهم والغم، كما في الحديث: (عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم).
وبه تحفظ مقاصد الدين وتصان الحرمات، كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى: {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}.
وقال تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}، أي أن الخير العائد أو المتحصل من الجهاد؛ مرده على أنفسنا، إن جاهدنا في سبيل الله، فالله تعالى غني عنا وعن جهادنا.
وهو كذلك؛ باب عظيم من أبواب التمحيص، يُعرف به المؤمن الموحد من المنافق المتسلق، الذي يتشبع بما لم يُعط، والذي يحب أن يُحمد بما لم يفعل.
فالجهاد؛ ترجمان التوحيد، وهو دليل على صدق الموحد، ومن لم يكن له سابقة عهد مع الجهاد والبلاء في سبيل نصرة هذا الدين؛ لا يحق له أن يتصدر مواقع الزعامة والقيادة، مهما أوتي من علم وحسن بيان، وهو إن فعل؛ فهو يتشبع ويتظاهر بما ليس عنده، وهو كلابس ثوبي زور.
وما أحوج الأمة إلى هذا الميزان والكشاف، في هذا الزمان الذي كثر فيه المتسلقون والمنافقون والمتاجرون، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، وقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}، وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}، وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
فاعتبر سبحانه وتعالى جهادهم؛ دليلاً على صدق إيمانهم وتوحيدهم، وأنهم هم المؤمنين حقا - أي الموحدون حقا - وهم الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة.
أما الذين لا يجاهدون ولا ينفرون، الذين تهتز قلوبهم كلما نادى منادي الجهاد، أو فُتح في الأمة باب للبذل والفداء؛ فهؤلاء متهمون في إيمانهم، مزورون في دعواهم، قال تعالى:{إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}.
فاعتبر سبحانه وتعالى تخلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دليلاً على نفاقهم وعدم إيمانهم، كما اعتبر عدم الإعداد والأخذ بأسباب الجهاد؛ دليلاً على عدم صدقهم ورغبتهم في الخروج للجهاد في سبيل الله.
فلكل دعوى وزعم؛ برهان ودليل، وزعم اللسان من دون عمل لا يكفي، فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العبودية": (قد جعل الله لأهل محبته علامتين:
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
والجهاد في سبيل الله.
وذلك لأن الجهاد؛ حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان) انتهى كلامه.
لو قدمت الشعوب المسلمة جزءاً يسيراً مما تقدمه في سبيل الطاغوت في طريق الجهاد في سبيل الله؛ لتغير حالهم إلى أحسن حال، ولكان لهم شان آخر يختلف عما هم عليه من الذل والخنوع والهوان والعبودية للطواغيت.
فكيف إذا سمعت هذه الشعوب حقيقة أخبار الجهاد على أرض العراق؟
فخطط الجهاد ومشاريعه تسير على قدم وساق على أرض الرافدين - بفضل الله - وثماره أخذت في البدو والصلاح، مما أقض مضاجع الكفر في المنطقة؛ ففتلوا حبائلهم وأحضروا مكرهم، وأجلبوا بحقدهم وبطشهم على أرض الفلوجة الطيبة.
فماذا جنى الغاصب الأمريكي وحلفاؤه من الرافضة وغيرهم من غزوهم واعتدائهم على ديار الإسلام الآمنة؟
لقد ظهرت فضائحهم وأكاذيبهم المكشوفة للعالم اجمع، وتداعت حججهم ومزاعمهم في تحقيق الأمن والأمان للحكومة العراقية المرتدة، وشُغلهم الشاغل الآن؛ في إنجاح الكذبة الأمريكية الكبرى، التي تسمى "الديمقراطية".
فقد لعب الأمريكان بعقول كثير من الشعوب بأكذوبة؛ "الديمقراطية المتحضرة"، وأوهموها أن سعادتها ورفاهيتها مرهونة بهذا المنهج البشري القاصر.
وبعدها بررت إدارة الكفر الأمريكية حربها على العراق وأفغانستان؛ بأنها حامية الديمقراطية في العالم وراعيتها الأولى.
وعلى أرض العراق أُنشأت "الحكومة العلاوية" لهذا الغرض؛ أي لغرض التلبيس والتدجيل على عقول العراقيين والعالم، وللإيهام بأن الولايات المتحدة جادة في إقامة وطن عراقي مستقل وديمقراطي، فتستُر بذلك أهدافها ومراميها الصليبية في المنطقة في التمكين لدولة اسرائيل الكبرى، وتخفي أطماعها ونواياها تجاه ثروات العراق وخيراته.
وإن من أعظم ما حرص الإسلام على بقاء صفائه ونقائه وتميزه؛ هو شخصية هذا الدين، وقبوله كما أنزل بأوامره وزواجره وحدوده وقواعده، بعيداً عن التمييع والتشويه، والغلو والإفراط والتفريط، وهذا ما جاء مؤكداً في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا إنه بما تعملون خبير}، وقال سبحانه: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}، وقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال سبحانه: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}، وقال جل من قائل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}، وقال سبحانه: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).
جاءت الديمقراطية لتقول لنا؛
إن الشعب في النظام الديمقراطي هو الحكم والمرجع، وله كلمة الفصل والبت في كل القضايا، فحقيقته في هذا النظام تقول؛ "لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، له الحكم وإليه يرجعون، إرادته مقدسة، واختياره ملزم، وآراؤه مقدمة محترمة، وحكمه حكمة عدل، من رفعه رفع، ومن وضعه وضع، فما أحله الشعب هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما رضيه قانوناً ونظاماً وشريعة فهو المعتبر، وما عداه فلا حرمة له ولا قيمة ولا وزن، وإن كان ديناً قويماً وشرعاً حكيماً من عند رب العالمين"!
وهذا الشعار - أعني حكم الشعب للشعب - هو لب النظام الديمقراطي وجوهره ومحوره وقطب رحاه الذي تدور عليه كل قضاياه ومسائله، فلا وجود له إلا بذلك.
فهذا هو "دين الديمقراطية"، الذي يُبجل ويُعظم جهاراً نهاراً، وهذا ما يقرره منظروها ومفكروها ودعاتها على رؤوس الأشهاد، وهو ما نشاهده ونلمسه في الواقع الذي نراه ونعاينه.
فالديمقراطية - على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها - تقوم على مبادئ وأسس نوجز أهمها في النقاط التالية:
أولاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، بما في ذلك "السلطة التشريعية"، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى؛ فإن المشررع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله، وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع من جهة التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب والإنسان والمخلوق، وليس الله تعالى.
وهذا عين الكفر والشرك والضلال، لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله سبحانه وتعالى في أخص خصائص إلاهيته، ألا وهو الحكم والتشريع.
قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}.
وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، وليس إلى الشعب أو الجماهير أو الكثرة الكاثرة.
وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}، وقال تعالى: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً}.
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}؛ فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى "شركاء" و "أندادا".
وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}.
جاء في الحديث عن عدي بن حاتم، لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو نصراني - فسمعه يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، قال: فقلت له: (إنا لسنا نعبدهم) - أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب - قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون؟)، قال: فقلت: (بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
ورحم الله سيّد قطب إذ يقول: (إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات، سواء).
وقال: (أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية؛ تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله؛ فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهاً من دون الله).
وقال: (إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة، ولا أمة، ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله ووفق شريعة الله) انتهى كلامه.
ثانياً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء في ظل الأنظمة الديمقراطية أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقتما شاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الخروج عن دين الله تعالى، إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل.
وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام؛ القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: (من بدل دينه فاقتلوه)، وليس "فاتركوه"!
فالمرتد لا يصح أن يعقد له عهد ولا أمان ولا جوار، وليس له في دين الله إلا؛ الاستتابة أو السيف.
ثالثاً:
تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكماً أوحد، تُرد إليه الحكومات والخصومات، فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم؛ نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب وإلى اختياره، ليفصل الشعب ما كان بينهما من نزاع أو اختلاف.
وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد، التي تقرر أن الحَكَم الذي يفصل بقضائه بين النزاعات هو الله تعالى، وليس أحد سواه، قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}.
بينما الديمقراطية تقول؛ "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحد غير الشعب"!
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين": (جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد، انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر) انتهى كلامه.
ثم إن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى - غير الله تعالى - يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}، فجعل الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادّعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت وإلى شرائعه.
وكل شرع غير شرع الله، أو حكم لا يحكم بما أنزل الله؛ فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به.
رابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أياً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية وشعائر الدين، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول.
قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم}، وقال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة}.
خامساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ؛ فصل الدين عن الدولة وعن السياسة والحياة، فما لله لله - وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا - وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فهي من خصوصيات الشعب.
{فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون}.
وهذا القول منهم؛ معلوم من ديننا بالضرورة فساده وبطلانه وكفر القائل به، لتضمنه الجحود الصريح، كما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع، وأنه أوسع بكثير من أن يُحصر في المناسك، أو بين جدران المعابد.
وهذا مما لاشك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى، كما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، وقال تعالى: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً اليماً}.
سادساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب.
وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
منها؛ أنه يتضمن الإقرار والاعتراف - طوعاً من غير إكراه - بشرعية الأحزاب والجماعات، بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد.
وهذا مناقض لكثير من النصوص الشرعية، التي تُثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر؛ إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله بإتفاق العلماء) انتهى كلامه رحمه الله.
ومنها؛ أن هذ الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة يتضمن الرضى بالكفر، وإن لم يصرح بفمه أنه يرضى بحريتها، والرضى بالكفر؛ كفر.
قال تعالى: {وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}.
ومنها؛ أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ؛ السماح للأحزاب الباطلة - بكل اتجاهتها - بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد.
سابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبَنّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال والكفر البواح، فالحق في نظر الديمقراطية - الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه - هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه، لا غير.
وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه، حيث إن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة، قل أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة؛ فهو الباطل، ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة.
قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.
وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}، فدلت الآية الكريمة؛ أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهو يشركون معه آلهة أخرى.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر بن ميمون: (جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقال الحسن البصري: (فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكونوا كذلك).
ومما يلفت النظر ويشتد له العجب...
أنه رغم ما جرّت التجارب الديمقراطية على المسلمين من نتائج سيئة ووخيمة، أفضت إلى الضعف والاختلاف والتفرق والشقاق والنزاع، حيث الجماعة أصبحت جماعات، والحزب أصبح أحزاب، والحركة أصبحت حركات متنافرة متباغضة.
رغم كل ذلك وغير ذلك مما يشين؛ فإن أقواماً لا يزالون يستعذبون الديمقراطية وينافحون عنها، كأنهم أربابها وصانعيها، أُشربوا في قلوبهم حب الديمقراطية كما أُشرب بنو إسرائيل من قبل في قلوبهم حب العجل، فما نفعهم سمعهم؛ فردعتهم الآيات القرآنية والنصوص الشرعية، ولا نفعتهم عقولهم وأبصارهم؛ فبصرتهم بالواقع المرير الناتج عن تطبيق الديمقراطية.
وتعذر بعضهم بشبهة "المصلحة" و "الوصولية للقرار والسيادة عن طريق الديمقراطية"، واتخذوها سبيلاً لنيل المقاصد الشرعية والدينية، ولم يلتفتوا لشرعية هذه الوسائل وأحكامها في دين الله عز وجل، ودخلوا من جحر المساومة والمقايضة على ثوابت العقيدة والمنهج باسم "المصلحة" و "الغاية".
روى الطبري في تفسيره قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت منا بحظك)، فأنزل الله: {قل يا أيها الكافرون}، حتى انقضت السورة.
إننا نجد في هذه الحادثة؛ أن قريشاً طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له، حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك وطلب منهم أن يبدؤوا بعبادة الله أولاً، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب؛ أن الله قد حسم هذه القضية: {لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد}، وفي آخرها: {لكم دينكم ولي دين}.
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة، ولا للتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدروس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجاً واضحاً جلياً في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام - حاضراً ومستقبلاً -
فلو سالمتهم يا أيها المسلم؛ فهم لا يسالمونك إلا بشرط التخلي عن دينك وتدخل في موالاتهم وطاعتهم في منهجهم الديمقراطي الخبيث، وبخاصة إن كانوا هم الطرف الأقوى، وبخاصة إن كانوا هم الطرف القوي في المعركة.
وإن طمعت يوماً أن يرضوا عنك دون أن تتبع ملتهم؛ فأنت واهم.
وعليك بقراءة القرآن من جديد، ومراجعة التاريخ القريب منه والبعيد، لتقرأ صفحات الغدر والحقد والإجرم التي مورست - ولا تزال تُمارس - بحق الإسلام والمسلمين.
فكيف تقبلون يا أيها المسلمون من أهل العراق؛ أن يحكم العدو الصليبي وأذنابه في دمائكم وأبشاركم وفروجكم وأموالكم بشرعة غير شرعة الله الطاهرة، وبدين غير دينه القويم، وأنتم أحفاد سعد بن أبي وقاص، والمثنى، وخالد بن الوليد، والقعقاع، الذين روّوا هذه الأرض بدمائهم؟!
فينبغي لكم أن تتنبهوا لخطة العدو من تطبيق الديمقراطية المزعومة في بلادكم، فما أرادوها إلا لأجل نزع بقية الخير فيكم، فأحكموها على هيئة المصيدة الخبيثة التي ترمي لسيطرة الرافضة على مقاليد الحكم في العراق.
فقد أُدخل أربعة ملايين رافضي من إيران من أجل المشاركة في الانتخابات، ليتحقق لهم ما يصبون إليه من السيطرة على غالبية الكراسي في "المجلس الوثني"، وبذلك يستطيعون أن يشكلوا حكومة أغلبية تسيطر على مفاصل الدولة الرئيسية الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وتحت لافتة "الحفاظ على الوطن والمواطن"، و "التقدم نحو المشروع الديمقراطي"، و "إزالة أية عوالق من حزب البعث البائد"، و "القضاء على المخربين من فدائيي صدام والإرهابيين"؛ يبدأ الرافضة بتصفية حساباتهم العقدية للقضاء على رموز وكوادر أهل السنة، من علماء ودعاة وأصحاب خبرة، ويرافق ذلك ضخ إعلامي رهيب يزين باطلهم ويخفي حقيقتهم، {وما تخفي صدورهم أكبر}.
ثم يبدأون بعد ذلك بنشر مذهبهم الخبيث بين الناس، بالمال والحديد، والترغيب والترهيب، ويستفيدون من سيطرتهم على مصادر رزق المسلمين.
فإن نجحوا في مشروعهم هذا؛ فما هي إلا بضع سنوات وتكون بغداد ومناطق أهل السنة قد تشيع أغلبها، ومن وراء ذلك سكوت وخذلان كثير ممن ينتسب إلى العلم - زوراً وبهتاناً - الذين ميعوا عقيدة الولاء والبراء في صدور الناس، وأوهموهم بأن الرافضة إخوان لنا وجيران مودتنا!
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فوا أسفاه! إن أصبحت بغداد في يوم من الأيام رافضية، فإن بغداد - وإن كانت حُكمت سنين طويلة من حكام مرتدين، ساموا أهلها الذل والهوان - لكنها لم تكن في يوم من الأيام رافضية.
فها هي بغداد والسواد بدأ يعلوها يوماً بعد يوم، وهاهي مظاهر الوثنية والشرك تتبدى فيها عياناً، وأصبحت ترتفع فيها أصوات أهل الرفض بلعن صحابة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبسب أمهاتنا زوجات نبينا؛ صباح مساء على منابرهم وفي إذاعاتهم.
ورحم الله الإمام مالك حين قال: (لا يُجلس في أرض يُسب فيها أبوبكر وعمر).
عمر الفاروق الذي قال عندما كان أميراً للمؤمنين: (لئن أبقاني الله إلى العام القابل لأدعن نساء العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي)، كان يغار على أعراضكم وهو في المدينة المنورة، وهاهم الرافضة اليوم يلعنونه صبح، مساء، بين ظهرانيكم.
أما بقي فيكم غيرة يا أهل العراق؟!
أغادرت مضاربكم الحمية على دين الله؟!
أخنتم أجدادكم يا أحفاد سعد والمثنى وخالد؟!
أرضيتم بالذلة والهوان وبغايا الروم وشُذاذ النصارى وخنازير الرافضة يعبثون بأعراض بنات المسلمين ويتلهون بها؟!
فلهذه الدواعي وغيرها؛ أعلنا الحرب اللدود على هذا المنهج الخبيث، وبينّا حكم أصحاب هذه العقيدة الباطلة، والطريقة الخاسرة.
فكل من يسعى في قيام هذا المنهج بالمعونة والمساعدة؛ فهو متولٍ له ولأهله، وحكمه؛ حكم الداعين إليه والمظاهرين له.
والمرشحون للانتخاب؛ هم أدعياء للربوبية والألوهية، والمنتخبون لهم؛ قد اتخذوهم أرباباً وشركاء من دون الله، وحكمهم في دين الله؛ الكفر والخروج عن الإسلام.
اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد.
والحمد لله رب العالمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}.
قال ابن القيم رحمه الله في مدارجه: (إذا طرق العدو من الكفار بلد الإسلام، طرقوه بقدر الله، أفيحل للمسلمين الاستسلام للقدر وترك دفعه بقدر مثله، وهو الجهاد الذي يدفعون به قدر الله بقدره؟).
اعلموا أيها المسلمون...
أن الجهاد في سبيل الله اليوم دواء لكثير من الأمراض التي تشكو منها الأمة، فإنه لا شيء بعد التوحيد يعدل الجهاد نفعاً للبلاد والعباد؛ فهو طريق قد تكفل الله بهداية سالكيه، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.
لذلك كان السلف إذا أشكل عليهم أمر من أمور الدين، توجهوا بمسألتهم إلى أهل الثغور والجهاد، تيمنا ًأن يجدوا الهداية والصواب عندهم.
وهو كذلك باب من أبواب الجنة، يُذهب الله به الهم والغم، كما في الحديث: (عليكم بالجهاد في سبيل الله، فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم).
وبه تحفظ مقاصد الدين وتصان الحرمات، كما أخبرنا ربنا تبارك وتعالى: {ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}.
وقال تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين}، أي أن الخير العائد أو المتحصل من الجهاد؛ مرده على أنفسنا، إن جاهدنا في سبيل الله، فالله تعالى غني عنا وعن جهادنا.
وهو كذلك؛ باب عظيم من أبواب التمحيص، يُعرف به المؤمن الموحد من المنافق المتسلق، الذي يتشبع بما لم يُعط، والذي يحب أن يُحمد بما لم يفعل.
فالجهاد؛ ترجمان التوحيد، وهو دليل على صدق الموحد، ومن لم يكن له سابقة عهد مع الجهاد والبلاء في سبيل نصرة هذا الدين؛ لا يحق له أن يتصدر مواقع الزعامة والقيادة، مهما أوتي من علم وحسن بيان، وهو إن فعل؛ فهو يتشبع ويتظاهر بما ليس عنده، وهو كلابس ثوبي زور.
وما أحوج الأمة إلى هذا الميزان والكشاف، في هذا الزمان الذي كثر فيه المتسلقون والمنافقون والمتاجرون، قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}، وقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا}، وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون}، وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}.
فاعتبر سبحانه وتعالى جهادهم؛ دليلاً على صدق إيمانهم وتوحيدهم، وأنهم هم المؤمنين حقا - أي الموحدون حقا - وهم الصادقون الفائزون في الدنيا والآخرة.
أما الذين لا يجاهدون ولا ينفرون، الذين تهتز قلوبهم كلما نادى منادي الجهاد، أو فُتح في الأمة باب للبذل والفداء؛ فهؤلاء متهمون في إيمانهم، مزورون في دعواهم، قال تعالى:{إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}.
فاعتبر سبحانه وتعالى تخلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دليلاً على نفاقهم وعدم إيمانهم، كما اعتبر عدم الإعداد والأخذ بأسباب الجهاد؛ دليلاً على عدم صدقهم ورغبتهم في الخروج للجهاد في سبيل الله.
فلكل دعوى وزعم؛ برهان ودليل، وزعم اللسان من دون عمل لا يكفي، فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "العبودية": (قد جعل الله لأهل محبته علامتين:
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
والجهاد في سبيل الله.
وذلك لأن الجهاد؛ حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يبغضه من الكفر والفسوق والعصيان) انتهى كلامه.
لو قدمت الشعوب المسلمة جزءاً يسيراً مما تقدمه في سبيل الطاغوت في طريق الجهاد في سبيل الله؛ لتغير حالهم إلى أحسن حال، ولكان لهم شان آخر يختلف عما هم عليه من الذل والخنوع والهوان والعبودية للطواغيت.
فكيف إذا سمعت هذه الشعوب حقيقة أخبار الجهاد على أرض العراق؟
فخطط الجهاد ومشاريعه تسير على قدم وساق على أرض الرافدين - بفضل الله - وثماره أخذت في البدو والصلاح، مما أقض مضاجع الكفر في المنطقة؛ ففتلوا حبائلهم وأحضروا مكرهم، وأجلبوا بحقدهم وبطشهم على أرض الفلوجة الطيبة.
فماذا جنى الغاصب الأمريكي وحلفاؤه من الرافضة وغيرهم من غزوهم واعتدائهم على ديار الإسلام الآمنة؟
لقد ظهرت فضائحهم وأكاذيبهم المكشوفة للعالم اجمع، وتداعت حججهم ومزاعمهم في تحقيق الأمن والأمان للحكومة العراقية المرتدة، وشُغلهم الشاغل الآن؛ في إنجاح الكذبة الأمريكية الكبرى، التي تسمى "الديمقراطية".
فقد لعب الأمريكان بعقول كثير من الشعوب بأكذوبة؛ "الديمقراطية المتحضرة"، وأوهموها أن سعادتها ورفاهيتها مرهونة بهذا المنهج البشري القاصر.
وبعدها بررت إدارة الكفر الأمريكية حربها على العراق وأفغانستان؛ بأنها حامية الديمقراطية في العالم وراعيتها الأولى.
وعلى أرض العراق أُنشأت "الحكومة العلاوية" لهذا الغرض؛ أي لغرض التلبيس والتدجيل على عقول العراقيين والعالم، وللإيهام بأن الولايات المتحدة جادة في إقامة وطن عراقي مستقل وديمقراطي، فتستُر بذلك أهدافها ومراميها الصليبية في المنطقة في التمكين لدولة اسرائيل الكبرى، وتخفي أطماعها ونواياها تجاه ثروات العراق وخيراته.
وإن من أعظم ما حرص الإسلام على بقاء صفائه ونقائه وتميزه؛ هو شخصية هذا الدين، وقبوله كما أنزل بأوامره وزواجره وحدوده وقواعده، بعيداً عن التمييع والتشويه، والغلو والإفراط والتفريط، وهذا ما جاء مؤكداً في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولاتطغوا إنه بما تعملون خبير}، وقال سبحانه: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}، وقال سبحانه: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع اهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال سبحانه: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}، وقال جل من قائل: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون}، وقال سبحانه: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
وقال عليه الصلاة والسلام: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).
جاءت الديمقراطية لتقول لنا؛
إن الشعب في النظام الديمقراطي هو الحكم والمرجع، وله كلمة الفصل والبت في كل القضايا، فحقيقته في هذا النظام تقول؛ "لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، له الحكم وإليه يرجعون، إرادته مقدسة، واختياره ملزم، وآراؤه مقدمة محترمة، وحكمه حكمة عدل، من رفعه رفع، ومن وضعه وضع، فما أحله الشعب هو الحلال، وما حرمه هو الحرام، وما رضيه قانوناً ونظاماً وشريعة فهو المعتبر، وما عداه فلا حرمة له ولا قيمة ولا وزن، وإن كان ديناً قويماً وشرعاً حكيماً من عند رب العالمين"!
وهذا الشعار - أعني حكم الشعب للشعب - هو لب النظام الديمقراطي وجوهره ومحوره وقطب رحاه الذي تدور عليه كل قضاياه ومسائله، فلا وجود له إلا بذلك.
فهذا هو "دين الديمقراطية"، الذي يُبجل ويُعظم جهاراً نهاراً، وهذا ما يقرره منظروها ومفكروها ودعاتها على رؤوس الأشهاد، وهو ما نشاهده ونلمسه في الواقع الذي نراه ونعاينه.
فالديمقراطية - على اختلاف تشعباتها وتفسيراتها - تقوم على مبادئ وأسس نوجز أهمها في النقاط التالية:
أولاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، بما في ذلك "السلطة التشريعية"، ويتم ذلك عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب ينوبون عنه في مهمة التشريع وسن القوانين، وبعبارة أخرى؛ فإن المشررع المطاع في الديمقراطية هو الإنسان وليس الله، وهذا يعني أن المألوه المعبود المطاع من جهة التشريع والتحليل والتحريم هو الشعب والإنسان والمخلوق، وليس الله تعالى.
وهذا عين الكفر والشرك والضلال، لمناقضته لأصول الدين والتوحيد، ولتضمنه إشراك الإنسان الضعيف الجاهل مع الله سبحانه وتعالى في أخص خصائص إلاهيته، ألا وهو الحكم والتشريع.
قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}.
وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، وليس إلى الشعب أو الجماهير أو الكثرة الكاثرة.
وقال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}، وقال تعالى: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً}.
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}؛ فسمى الذين يشرعون للناس بغير سلطان من الله تعالى "شركاء" و "أندادا".
وقال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}، وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}.
جاء في الحديث عن عدي بن حاتم، لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو نصراني - فسمعه يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، قال: فقلت له: (إنا لسنا نعبدهم) - أي لم نكن نعبدهم من جهة التنسك والدعاء والسجود والركوع، لظنه أن العبادة محصورة في هذه المعاني وحسب - قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلون؟)، قال: فقلت: (بلى)، قال: (فتلك عبادتهم).
ورحم الله سيّد قطب إذ يقول: (إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات، سواء).
وقال: (أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية؛ تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم، فمن ادعى لنفسه شيئاً من هذا كله؛ فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهاً من دون الله).
وقال: (إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة، ولا أمة، ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله ووفق شريعة الله) انتهى كلامه.
ثانياً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التدين والاعتقاد، فللمرء في ظل الأنظمة الديمقراطية أن يعتقد ما يشاء، ويتدين بالدين الذي يشاء، ويرتد إلى أي دين وقتما شاء، وإن كان هذا الارتداد مؤداه إلى الخروج عن دين الله تعالى، إلى الإلحاد وعبادة غير الله عز وجل.
وهذا أمر لا شك في بطلانه وفساده، ومغايرته لكثير من النصوص الشرعية، إذ أن المسلم لو ارتد عن دينه إلى الكفر، فحكمه في الإسلام؛ القتل، كما في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره: (من بدل دينه فاقتلوه)، وليس "فاتركوه"!
فالمرتد لا يصح أن يعقد له عهد ولا أمان ولا جوار، وليس له في دين الله إلا؛ الاستتابة أو السيف.
ثالثاً:
تقوم الديمقراطية على اعتبار الشعب حكماً أوحد، تُرد إليه الحكومات والخصومات، فإذا حصل أي اختلاف أو نزاع بين الحاكم والمحكوم؛ نجد أن كلاً من الطرفين يهدد الآخر بالرجوع إلى إرادة الشعب وإلى اختياره، ليفصل الشعب ما كان بينهما من نزاع أو اختلاف.
وهذا مغاير ومناقض لأصول التوحيد، التي تقرر أن الحَكَم الذي يفصل بقضائه بين النزاعات هو الله تعالى، وليس أحد سواه، قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}.
بينما الديمقراطية تقول؛ "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الشعب، وليس إلى أحد غير الشعب"!
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه "إعلام الموقعين": (جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد، انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر) انتهى كلامه.
ثم إن إرادة التحاكم إلى الشعب أو إلى أي جهة أخرى - غير الله تعالى - يعتبر في نظر الشرع من التحاكم إلى الطاغوت الذي يجب الكفر به، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}، فجعل الله سبحانه وتعالى إيمانهم زعماً ومجرد ادّعاء لا حقيقة له، لمجرد حصول الإرادة في التحاكم إلى الطاغوت وإلى شرائعه.
وكل شرع غير شرع الله، أو حكم لا يحكم بما أنزل الله؛ فهو يدخل في معنى الطاغوت الذي يجب الكفر به.
رابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية التعبير والإفصاح، أياً كان هذا التعبير، ولو كان مفاده طعناً وسباً للذات الإلهية وشعائر الدين، إذ لا يوجد في الديمقراطية شيء مقدس يحرم الخوض فيه أو التطاول عليه بقبيح القول.
قال تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم}، وقال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة}.
خامساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ؛ فصل الدين عن الدولة وعن السياسة والحياة، فما لله لله - وهو فقط العبادة في الصوامع والزوايا - وما سوى ذلك من مرافق الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فهي من خصوصيات الشعب.
{فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون}.
وهذا القول منهم؛ معلوم من ديننا بالضرورة فساده وبطلانه وكفر القائل به، لتضمنه الجحود الصريح، كما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهو جحود صريح لبعض الدين الذي نص على أن الإسلام دين دولة وسياسة، وحكم وتشريع، وأنه أوسع بكثير من أن يُحصر في المناسك، أو بين جدران المعابد.
وهذا مما لاشك فيه أنه كفر بواح بدين الله تعالى، كما قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}، وقال تعالى: {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً اليماً}.
سادساً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ حرية تشكيل التجمعات والأحزاب السياسية وغيرها، أياً كانت عقيدة وأفكار وأخلاقيات هذه الأحزاب.
وهذا مبدأ باطل شرعاً، وذلك من أوجه:
منها؛ أنه يتضمن الإقرار والاعتراف - طوعاً من غير إكراه - بشرعية الأحزاب والجماعات، بكل اتجاهاتها الكفرية والشركية، وأن لها الحق في الوجود، وفي نشر باطلها وفسادها وكفرها في البلاد وبين العباد.
وهذا مناقض لكثير من النصوص الشرعية، التي تُثبت أن الأصل في التعامل مع المنكر والكفر؛ إنكاره وتغييره، وليس إقراره والاعتراف بشرعيته، قال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
قال ابن تيمية رحمه الله: (فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله بإتفاق العلماء) انتهى كلامه رحمه الله.
ومنها؛ أن هذ الاعتراف الطوعي بشرعية الأحزاب الكافرة يتضمن الرضى بالكفر، وإن لم يصرح بفمه أنه يرضى بحريتها، والرضى بالكفر؛ كفر.
قال تعالى: {وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا}.
ومنها؛ أن من لوازم الاعتراف بهذا المبدأ؛ السماح للأحزاب الباطلة - بكل اتجاهتها - بأن تبث كفرها وباطلها، وأن تغرق المجتمع بجميع صنوف الفساد والفتن والأهواء، فنعينهم بذلك على هلاك ودمار البلاد والعباد.
سابعاً:
تقوم الديمقراطية على مبدأ اعتبار موقف الأكثرية، وتبَنّي ما تجتمع عليه الأكثرية، ولو اجتمعت على الباطل والضلال والكفر البواح، فالحق في نظر الديمقراطية - الذي لا يجوز الاستدراك أو التعقيب عليه - هو ما تقرره الأكثرية وتجتمع عليه، لا غير.
وهذا مبدأ باطل لا يصح على إطلاقه، حيث إن الحق في نظر الإسلام هو ما يوافق الكتاب والسنة، قل أنصاره أو كثروا، وما يخالف الكتاب والسنة؛ فهو الباطل، ولو اجتمعت عليه أهل الأرض قاطبة.
قال تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.
وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}، فدلت الآية الكريمة؛ أن طاعة واتباع أكثر من في الأرض ضلال عن سبيل الله تعالى، لأن الأكثرية على ضلال، ولا يؤمنون بالله إلا وهو يشركون معه آلهة أخرى.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر بن ميمون: (جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك).
وقال الحسن البصري: (فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكونوا كذلك).
ومما يلفت النظر ويشتد له العجب...
أنه رغم ما جرّت التجارب الديمقراطية على المسلمين من نتائج سيئة ووخيمة، أفضت إلى الضعف والاختلاف والتفرق والشقاق والنزاع، حيث الجماعة أصبحت جماعات، والحزب أصبح أحزاب، والحركة أصبحت حركات متنافرة متباغضة.
رغم كل ذلك وغير ذلك مما يشين؛ فإن أقواماً لا يزالون يستعذبون الديمقراطية وينافحون عنها، كأنهم أربابها وصانعيها، أُشربوا في قلوبهم حب الديمقراطية كما أُشرب بنو إسرائيل من قبل في قلوبهم حب العجل، فما نفعهم سمعهم؛ فردعتهم الآيات القرآنية والنصوص الشرعية، ولا نفعتهم عقولهم وأبصارهم؛ فبصرتهم بالواقع المرير الناتج عن تطبيق الديمقراطية.
وتعذر بعضهم بشبهة "المصلحة" و "الوصولية للقرار والسيادة عن طريق الديمقراطية"، واتخذوها سبيلاً لنيل المقاصد الشرعية والدينية، ولم يلتفتوا لشرعية هذه الوسائل وأحكامها في دين الله عز وجل، ودخلوا من جحر المساومة والمقايضة على ثوابت العقيدة والمنهج باسم "المصلحة" و "الغاية".
روى الطبري في تفسيره قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت منا بحظك)، فأنزل الله: {قل يا أيها الكافرون}، حتى انقضت السورة.
إننا نجد في هذه الحادثة؛ أن قريشاً طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له، حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك وطلب منهم أن يبدؤوا بعبادة الله أولاً، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب؛ أن الله قد حسم هذه القضية: {لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد}، وفي آخرها: {لكم دينكم ولي دين}.
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة، ولا للتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدروس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجاً واضحاً جلياً في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام - حاضراً ومستقبلاً -
فلو سالمتهم يا أيها المسلم؛ فهم لا يسالمونك إلا بشرط التخلي عن دينك وتدخل في موالاتهم وطاعتهم في منهجهم الديمقراطي الخبيث، وبخاصة إن كانوا هم الطرف الأقوى، وبخاصة إن كانوا هم الطرف القوي في المعركة.
وإن طمعت يوماً أن يرضوا عنك دون أن تتبع ملتهم؛ فأنت واهم.
وعليك بقراءة القرآن من جديد، ومراجعة التاريخ القريب منه والبعيد، لتقرأ صفحات الغدر والحقد والإجرم التي مورست - ولا تزال تُمارس - بحق الإسلام والمسلمين.
فكيف تقبلون يا أيها المسلمون من أهل العراق؛ أن يحكم العدو الصليبي وأذنابه في دمائكم وأبشاركم وفروجكم وأموالكم بشرعة غير شرعة الله الطاهرة، وبدين غير دينه القويم، وأنتم أحفاد سعد بن أبي وقاص، والمثنى، وخالد بن الوليد، والقعقاع، الذين روّوا هذه الأرض بدمائهم؟!
فينبغي لكم أن تتنبهوا لخطة العدو من تطبيق الديمقراطية المزعومة في بلادكم، فما أرادوها إلا لأجل نزع بقية الخير فيكم، فأحكموها على هيئة المصيدة الخبيثة التي ترمي لسيطرة الرافضة على مقاليد الحكم في العراق.
فقد أُدخل أربعة ملايين رافضي من إيران من أجل المشاركة في الانتخابات، ليتحقق لهم ما يصبون إليه من السيطرة على غالبية الكراسي في "المجلس الوثني"، وبذلك يستطيعون أن يشكلوا حكومة أغلبية تسيطر على مفاصل الدولة الرئيسية الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وتحت لافتة "الحفاظ على الوطن والمواطن"، و "التقدم نحو المشروع الديمقراطي"، و "إزالة أية عوالق من حزب البعث البائد"، و "القضاء على المخربين من فدائيي صدام والإرهابيين"؛ يبدأ الرافضة بتصفية حساباتهم العقدية للقضاء على رموز وكوادر أهل السنة، من علماء ودعاة وأصحاب خبرة، ويرافق ذلك ضخ إعلامي رهيب يزين باطلهم ويخفي حقيقتهم، {وما تخفي صدورهم أكبر}.
ثم يبدأون بعد ذلك بنشر مذهبهم الخبيث بين الناس، بالمال والحديد، والترغيب والترهيب، ويستفيدون من سيطرتهم على مصادر رزق المسلمين.
فإن نجحوا في مشروعهم هذا؛ فما هي إلا بضع سنوات وتكون بغداد ومناطق أهل السنة قد تشيع أغلبها، ومن وراء ذلك سكوت وخذلان كثير ممن ينتسب إلى العلم - زوراً وبهتاناً - الذين ميعوا عقيدة الولاء والبراء في صدور الناس، وأوهموهم بأن الرافضة إخوان لنا وجيران مودتنا!
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فوا أسفاه! إن أصبحت بغداد في يوم من الأيام رافضية، فإن بغداد - وإن كانت حُكمت سنين طويلة من حكام مرتدين، ساموا أهلها الذل والهوان - لكنها لم تكن في يوم من الأيام رافضية.
فها هي بغداد والسواد بدأ يعلوها يوماً بعد يوم، وهاهي مظاهر الوثنية والشرك تتبدى فيها عياناً، وأصبحت ترتفع فيها أصوات أهل الرفض بلعن صحابة نبينا عليه الصلاة والسلام، وبسب أمهاتنا زوجات نبينا؛ صباح مساء على منابرهم وفي إذاعاتهم.
ورحم الله الإمام مالك حين قال: (لا يُجلس في أرض يُسب فيها أبوبكر وعمر).
عمر الفاروق الذي قال عندما كان أميراً للمؤمنين: (لئن أبقاني الله إلى العام القابل لأدعن نساء العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي)، كان يغار على أعراضكم وهو في المدينة المنورة، وهاهم الرافضة اليوم يلعنونه صبح، مساء، بين ظهرانيكم.
أما بقي فيكم غيرة يا أهل العراق؟!
أغادرت مضاربكم الحمية على دين الله؟!
أخنتم أجدادكم يا أحفاد سعد والمثنى وخالد؟!
أرضيتم بالذلة والهوان وبغايا الروم وشُذاذ النصارى وخنازير الرافضة يعبثون بأعراض بنات المسلمين ويتلهون بها؟!
فلهذه الدواعي وغيرها؛ أعلنا الحرب اللدود على هذا المنهج الخبيث، وبينّا حكم أصحاب هذه العقيدة الباطلة، والطريقة الخاسرة.
فكل من يسعى في قيام هذا المنهج بالمعونة والمساعدة؛ فهو متولٍ له ولأهله، وحكمه؛ حكم الداعين إليه والمظاهرين له.
والمرشحون للانتخاب؛ هم أدعياء للربوبية والألوهية، والمنتخبون لهم؛ قد اتخذوهم أرباباً وشركاء من دون الله، وحكمهم في دين الله؛ الكفر والخروج عن الإسلام.
اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد، اللهم هل بلغت... اللهم فاشهد.
والحمد لله رب العالمين