بسم الله الرحمن الرحيم
ثمّ كان التّحالف بين الفقيه (المتخلّف) والمفكّر (المتحرر).
هكذا ختمت المقالة السّابقة في العدد الفائت.
لمّا بدأ الشّباب المسلم يتساءل عن هذا الكمّ الهائل من المفكّرين، وما هو السّلطان الّذي ملكوه ليتكلّموا في دين الله كما يشاءون؟ وهل يحقّ لهؤلاء المفكّرين أن يقودوا الحركة الإسلاميّة ويتهادوا بها بين خطر الحياة ودروبها؟ ولكن هذه الأسئلة وللأسف قد بدأت بعد أن تشرّب النّاس من الشّباب المسلم أفكار هؤلاء القوم، واصطبغت عقليّتهم بالصّبغة التي يتحدّث بها المفكّر، وهي صيغ أقلّ ما يقال عنها أنّها لا تتحدّث كما تتحدّث الشّخوص المهتدية في القرآن الكريم، حيث فقد هذا التّيار عبارات الشّرع المُحكمة، وتغيّرت موازين الحكم والقضاء في رحم هذه العبارات، فبدل أن يتحدّث النّاس (الشّباب المسلم) عن الجهاد، بدءوا يتكلّمون عن الثّورة مثلاً، أو الكفاح السّياسي، وبدل أن يُلقوا على النّاس عبارات: العبودية والعبادة صاروا يتحدّثون عن الواجب الوطنيّ، والحسّ القومي، والضرورة الاجتماعية، وبدل أن يستخدموا دوافع محبّة الله، والخوف من الله، ورجاء الدار الآخرة، صار الحديث عن: مكتسبات الحركة، والأمن الاجتماعي، والأمن الغذائي، ووحدة التّراب القومي، وبدل أن يتحدّثوا عن حقّ الله المفقود بتطبيق شرعه وحدوده صار حديثهم عن الحرّية الاجتماعيّة، والعدل الاجتماعي، والظّلم، والدّكتاتوريّة.
فهذه العبارات تبيّن ما وراءها، وأنّ وراءها فقدان محاولة الإقتداء بحركة الهداة والدعاة كما شرحها القرآن الكريم.
اقرأ هذا النّموذج: “إنّ الحركة الإسلاميّة ليست حركة فئة معيّنة من الشّعب، إنّها ضمير الأمّة المتحرّك وأعماقها الثائرة، ومن ثمّ فهي ترفض مقولة الصّراع الطّبقي، وتعتبر أنّ الإسلام، والإسلام وحده قادر على إزالة كلّ ألوان المظالم والاستغلال داخل المجتمع، ولكن في مجتمع لا يطبّق الإسلام حقيقة، تتولّد الفوارق الطّبقيّة والحركة عندئذٍ تجد نفسها في صفّ الفقراء والمضطهدين كما كان النّبيّ عليه السّلام يفعل إذ يرفض الأغنياء الجلوس مع الفقراء فينحاز إلى الفقراء بأمر من الله {واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة و العشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّنيا} ولقد استطاعت الحركة الإسلاميّة المعاصرة أن تحرّر إلى حدّ ما الإسلام من الطّبقة الحاكمة”. انتهت العبارة عن كتاب مقالات لراشد الغنّوشي التّونسي، ومثلها: وما كان للإمام الخميني أن تلتحم القوى الشّعبية في إيران وتسلمه قيادتها وتجنّ حتّى الموت... وما كان له أن يطوي كلّ أحزاب المعارضة ورجال الدّين فيدفعها مرّة أمامه ويجرّها أخرى لو لم تجسّد حركته أمل الجماهير العريضة في التّحرر والعدالة والعزّة والاستقلال، وكذلك المودودي فقد رسم للشّعب الباكستاني خطة الحرّية والعزّة والاستقلال، فاستجابت له الأمّة. ا. هـ.
هذا الخطاب المصاغ من مشكاة لن تكون أبدا من مشكاة القرآن والسنّة، حتّى الآيات القرآنية التي يستشهد بها، لا تعود إلى المناط الذي سيقت من أجله، فالآية التي استشهد بها في النّموذج المتقدّم لم ترد أبدا لبيان انحياز النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صفّ الفقراء ضدّ الأغنياء، بل انحياز النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفّ {الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه}.
فتكرار هذا النّوع من الخطاب أفقد العبارات القرآنيّة والنّبوية نضارتها وحضورها في نفسيّة الشّابّ المسلم المعاصر، فأين عبارات: الإيمان، والتّوحيد، والكفر، والرّدة، والجهاد، والشّيطان، والخير، والشّر، والفسق، والذّكر، والإنابة، والإخبات، والحب، والولاء، والبراء، وغيرها من العبارات التي تحمل في داخلها المفاهيم الإسلاميّة كما تعامل معها السّلف.
إذاً صار الشّباب المسلم بعيداً كلّ البعد بسبب هؤلاء المفكّرين (الآرائتيين) عن هدي الكتاب والسنّة، وقد اكتشف بعضهم فقدان هذا الخطاب الآرائتي أثره على قطاع من الشباب، إذ بدأ الشّباب ينفلت من حركة المفكّرين المنحرفة، وصار يتوجّه إلى ما يسمّى بالكتب الصّفراء، وأسباب هذا الاكتشاف، وعوامل تنميته له جوانب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، لكنّي أستطيع أن أقول أنّ أثر دعوة الشّيخ محمد بن عبد الوهاب ثمّ كتب الشّهيد سيد قطب كان لها الأثر القويّ في هذا الاكتشاف وإحياء الخطاب الشّرعي الصّحيح الملائم للحقّ القرآنيّ.
هذا الاكتشاف والتوجّه الجديد بدأ يهزّ العروش النّخرة من سلطان الآرائتيين فكان لابدّ من معالجة هذا التّوجّه بما يناسبه، فتوجّهت بسرعة حركات الرأي الضّلاليّة إلى أصحاب العمائم القديمة، لتقنين هذه الأفكار التي صدرت من الآرائتيين في صورة فقهيّة، تناسب التوجّه الجديد، فبدأ أصحاب العمائم (الفقهاء) يفتّشون في بطون الكتب الفقهيّة ليساندوا هؤلاء الآرائتيين بأقوال الفقهاء القدماء:
المفكر ينفي حدّ الرّدّة، يأتي الفقيه ليقول له إنّ حدّ الردّة كان سياسة وليس تشريعاً دائماً، وإن شئت فاقرأ كتاب “الفروق” للإمام القرافي المالكيّ لترى الفرق بين فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كمشرّع وفعله كقائد دولة وسياسي.
المفكّر ينفي وجود أهل الذمّة، وإن وجدت فهي تسمية لا تبعة عليها، فأهل الذّمّة لهم الحقّ في تولّي السّلطات، والمسلم يقتل بالكافر، فيسارع الفقيه إلى أقوال الفقهاء لتنجده.
المفكّر ينفي الجهاد الهجوميّ (جهاد الطّلب) فيسارع الفقيه إلى التّدليل على رأي المفكّر. وهكذا اكتشفنا بقدرة قادر، أنّ ما يقوله هذا الغثاء من المفكّرين الآرائتيين لم يكن بدعا من القول، ولكن هناك من أئمّتنا من قال به، حتّى أنّ من فقهائنا القدماء من قال: بجواز الغناء، وجواز تولّي المرأة القضاء والإمامة، بل وأعظم من ذلك، فلماذا العتب؟.
نعم لماذا العتب؟ وجاز للعقلاء حينئذٍ أن يقولوا: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.
اقرأ هذا التّحالف: “ولقد راجت أنشطة (الفكر الإسلامي) في الآونة الأخيرة، رواجاً كاد أن يحلها محل (العلوم الإسلاميّة)، تنبّهت إلى هذه المشكلة ووقفت عندها طويلاً، عندما قال لي الأخ الأستاذ جودت سعيد ذات يوم وكنّا نتحدّث عن الجهاد والعنف وحرّيّة الفكر. في تواضع وصراحة نادرتين: إنّني مقتنع فكريّاً بما أقول، ولكنّي مفتقرٌ إلى دعم قناعتي بالمؤيدات الفقهيّة الّتي يجب الاعتماد عليها. إنّ هذا الكلام بالإضافة إلى ما يشعّ فيه من روح التّواضع والصّدق مع الله، يلفت النّظر إلى مشكلة كبرى في حياتنا الإسلاميّة اليوم، هي باختصار مشكلة إحلال الفكر الإسلامي محلّ العلم بحقائق الإسلام، والتّزوّد من أحكامنا الفقهيّة، ومنذ ذلك اليوم أجمعت العزم على إخراج كتاب يتضمّن بيان حقيقة الجهاد الإسلامي وأنواعه، وأهدافه و ضوابطه، من خلال عرض الأحكام الفقهيّة المتّفق عليها...”الخ. ا. هـ.
هذه العبارات الجميلة - وليس كلّ جميل نافع - مع ما فيها من توزيع عبارات المدح الممجوجة: بروح التّواضع، الصّدق مع الله، تواضع وصراحة نادرتين، وكقوله عن جودت سعيد في مقام آخر من الكتاب أنّه صاحب: صدق كبير، تحرّقٍ على الحقّ،... عبارات خزفيّة رقيقة يطلقها بوق كبير يتقن فنّ الصّخب اسمه البــوطي كقوله: “كبرى اليقينيّات الكونيّة”،(وانتبه إلى كلمة: “كبرى” فإنّها ضروريّة) وكقوله: “أبحاث في القمّة” (وانتبه إلى كلمة: “في القمّة” فإنّها ضروريّة)، هذا الرّجل هو الشّيخ الفقيه المجدد الإمام الحجّة، خاتمة المحققين، بقيّة (الصّلف السّالح) هذا الرّجل هو “محمّد سعيد رمضان البوطي”، قال العبارات السّابقة في كتابه الفريد الّذي -لم يعتمد فيه على رؤية فكريّة.. وإنّما وضعت الموازين الفقهيّة الّتي لا مجال لرفضها، حكما عدلاً يهدي إلى الحقّ، وينهي جدل الأفكار الذاتيّة المتعارضة - الكتاب الذي ختمه بقوله: إنّني أعيش - ولله الحمد - في وضع يجعلني أشدّ نفسي إلى الحكم الّذي تؤيّده دلائل الشّرع والتقت عليه كلمة أئمّة المسلمين. ا. هـ. وقال قبلها في الكتاب (الفلتة!): لقد آن لنا أن نستيقن بأن انتصارنا على هؤلاء الغاصبين والمتحكّمين بحقوقنا وديارنا رهن بعودة صادقة منّا إلى الإسلام، عقيدة وخلقا وسلوكاً، وقد أعلن ذلك الرّئيس حافظ الأسد صراحة، مع الدّلائل والمؤيّدات لفريقٍ من الصّحفيين الأمريكيّين. انتهى الإبداع.
جودت سعيد يفكّر ومقتنع بما يفكّر، ويستنجد لدعم فكره بالفقيه (صاحب الّلفة): محمّد سعيد رمضان البوطي فيلبّي الفقيه (آية الله على خلقه)، ويستشهد بالأدلّة القاطعة من كلام الرئيس المؤمن، أمين الأمّة في هذا الزّمان - وهي أوصاف من البوطي - للرّئيس حافظ الأسد.
يا الله: طفّ الكيل، وبلغ السّيل الزّبى، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت (إلهي لا تحرمنا من الحياء).
لعلّي نسيت أن أخبركم اسم الكتاب، إنّه: “الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟”، والضمير يعود في “نفهمه” و “نمارسه” يعود إلى الحكومة السّوريّة بقيادة حافظ الأسد.
تنبيه: هناك وصفة طبّية مضحكة لعلّها تنفعك وقت الضّجر هي كتاب محمد الغزالي المصريّ: “السنةّ النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”، فهي تغنّي على مزمار المفكّرين في المعهد العالميّ للفكر الإسلامي (مفكّر متحرر) و رقص “محمّد الغزالي” (فقيه متخلّف).
ثمّ كان التّحالف بين الفقيه (المتخلّف) والمفكّر (المتحرر).
هكذا ختمت المقالة السّابقة في العدد الفائت.
لمّا بدأ الشّباب المسلم يتساءل عن هذا الكمّ الهائل من المفكّرين، وما هو السّلطان الّذي ملكوه ليتكلّموا في دين الله كما يشاءون؟ وهل يحقّ لهؤلاء المفكّرين أن يقودوا الحركة الإسلاميّة ويتهادوا بها بين خطر الحياة ودروبها؟ ولكن هذه الأسئلة وللأسف قد بدأت بعد أن تشرّب النّاس من الشّباب المسلم أفكار هؤلاء القوم، واصطبغت عقليّتهم بالصّبغة التي يتحدّث بها المفكّر، وهي صيغ أقلّ ما يقال عنها أنّها لا تتحدّث كما تتحدّث الشّخوص المهتدية في القرآن الكريم، حيث فقد هذا التّيار عبارات الشّرع المُحكمة، وتغيّرت موازين الحكم والقضاء في رحم هذه العبارات، فبدل أن يتحدّث النّاس (الشّباب المسلم) عن الجهاد، بدءوا يتكلّمون عن الثّورة مثلاً، أو الكفاح السّياسي، وبدل أن يُلقوا على النّاس عبارات: العبودية والعبادة صاروا يتحدّثون عن الواجب الوطنيّ، والحسّ القومي، والضرورة الاجتماعية، وبدل أن يستخدموا دوافع محبّة الله، والخوف من الله، ورجاء الدار الآخرة، صار الحديث عن: مكتسبات الحركة، والأمن الاجتماعي، والأمن الغذائي، ووحدة التّراب القومي، وبدل أن يتحدّثوا عن حقّ الله المفقود بتطبيق شرعه وحدوده صار حديثهم عن الحرّية الاجتماعيّة، والعدل الاجتماعي، والظّلم، والدّكتاتوريّة.
فهذه العبارات تبيّن ما وراءها، وأنّ وراءها فقدان محاولة الإقتداء بحركة الهداة والدعاة كما شرحها القرآن الكريم.
اقرأ هذا النّموذج: “إنّ الحركة الإسلاميّة ليست حركة فئة معيّنة من الشّعب، إنّها ضمير الأمّة المتحرّك وأعماقها الثائرة، ومن ثمّ فهي ترفض مقولة الصّراع الطّبقي، وتعتبر أنّ الإسلام، والإسلام وحده قادر على إزالة كلّ ألوان المظالم والاستغلال داخل المجتمع، ولكن في مجتمع لا يطبّق الإسلام حقيقة، تتولّد الفوارق الطّبقيّة والحركة عندئذٍ تجد نفسها في صفّ الفقراء والمضطهدين كما كان النّبيّ عليه السّلام يفعل إذ يرفض الأغنياء الجلوس مع الفقراء فينحاز إلى الفقراء بأمر من الله {واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة و العشيّ يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدّنيا} ولقد استطاعت الحركة الإسلاميّة المعاصرة أن تحرّر إلى حدّ ما الإسلام من الطّبقة الحاكمة”. انتهت العبارة عن كتاب مقالات لراشد الغنّوشي التّونسي، ومثلها: وما كان للإمام الخميني أن تلتحم القوى الشّعبية في إيران وتسلمه قيادتها وتجنّ حتّى الموت... وما كان له أن يطوي كلّ أحزاب المعارضة ورجال الدّين فيدفعها مرّة أمامه ويجرّها أخرى لو لم تجسّد حركته أمل الجماهير العريضة في التّحرر والعدالة والعزّة والاستقلال، وكذلك المودودي فقد رسم للشّعب الباكستاني خطة الحرّية والعزّة والاستقلال، فاستجابت له الأمّة. ا. هـ.
هذا الخطاب المصاغ من مشكاة لن تكون أبدا من مشكاة القرآن والسنّة، حتّى الآيات القرآنية التي يستشهد بها، لا تعود إلى المناط الذي سيقت من أجله، فالآية التي استشهد بها في النّموذج المتقدّم لم ترد أبدا لبيان انحياز النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى صفّ الفقراء ضدّ الأغنياء، بل انحياز النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفّ {الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه}.
فتكرار هذا النّوع من الخطاب أفقد العبارات القرآنيّة والنّبوية نضارتها وحضورها في نفسيّة الشّابّ المسلم المعاصر، فأين عبارات: الإيمان، والتّوحيد، والكفر، والرّدة، والجهاد، والشّيطان، والخير، والشّر، والفسق، والذّكر، والإنابة، والإخبات، والحب، والولاء، والبراء، وغيرها من العبارات التي تحمل في داخلها المفاهيم الإسلاميّة كما تعامل معها السّلف.
إذاً صار الشّباب المسلم بعيداً كلّ البعد بسبب هؤلاء المفكّرين (الآرائتيين) عن هدي الكتاب والسنّة، وقد اكتشف بعضهم فقدان هذا الخطاب الآرائتي أثره على قطاع من الشباب، إذ بدأ الشّباب ينفلت من حركة المفكّرين المنحرفة، وصار يتوجّه إلى ما يسمّى بالكتب الصّفراء، وأسباب هذا الاكتشاف، وعوامل تنميته له جوانب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، لكنّي أستطيع أن أقول أنّ أثر دعوة الشّيخ محمد بن عبد الوهاب ثمّ كتب الشّهيد سيد قطب كان لها الأثر القويّ في هذا الاكتشاف وإحياء الخطاب الشّرعي الصّحيح الملائم للحقّ القرآنيّ.
هذا الاكتشاف والتوجّه الجديد بدأ يهزّ العروش النّخرة من سلطان الآرائتيين فكان لابدّ من معالجة هذا التّوجّه بما يناسبه، فتوجّهت بسرعة حركات الرأي الضّلاليّة إلى أصحاب العمائم القديمة، لتقنين هذه الأفكار التي صدرت من الآرائتيين في صورة فقهيّة، تناسب التوجّه الجديد، فبدأ أصحاب العمائم (الفقهاء) يفتّشون في بطون الكتب الفقهيّة ليساندوا هؤلاء الآرائتيين بأقوال الفقهاء القدماء:
المفكر ينفي حدّ الرّدّة، يأتي الفقيه ليقول له إنّ حدّ الردّة كان سياسة وليس تشريعاً دائماً، وإن شئت فاقرأ كتاب “الفروق” للإمام القرافي المالكيّ لترى الفرق بين فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كمشرّع وفعله كقائد دولة وسياسي.
المفكّر ينفي وجود أهل الذمّة، وإن وجدت فهي تسمية لا تبعة عليها، فأهل الذّمّة لهم الحقّ في تولّي السّلطات، والمسلم يقتل بالكافر، فيسارع الفقيه إلى أقوال الفقهاء لتنجده.
المفكّر ينفي الجهاد الهجوميّ (جهاد الطّلب) فيسارع الفقيه إلى التّدليل على رأي المفكّر. وهكذا اكتشفنا بقدرة قادر، أنّ ما يقوله هذا الغثاء من المفكّرين الآرائتيين لم يكن بدعا من القول، ولكن هناك من أئمّتنا من قال به، حتّى أنّ من فقهائنا القدماء من قال: بجواز الغناء، وجواز تولّي المرأة القضاء والإمامة، بل وأعظم من ذلك، فلماذا العتب؟.
نعم لماذا العتب؟ وجاز للعقلاء حينئذٍ أن يقولوا: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.
اقرأ هذا التّحالف: “ولقد راجت أنشطة (الفكر الإسلامي) في الآونة الأخيرة، رواجاً كاد أن يحلها محل (العلوم الإسلاميّة)، تنبّهت إلى هذه المشكلة ووقفت عندها طويلاً، عندما قال لي الأخ الأستاذ جودت سعيد ذات يوم وكنّا نتحدّث عن الجهاد والعنف وحرّيّة الفكر. في تواضع وصراحة نادرتين: إنّني مقتنع فكريّاً بما أقول، ولكنّي مفتقرٌ إلى دعم قناعتي بالمؤيدات الفقهيّة الّتي يجب الاعتماد عليها. إنّ هذا الكلام بالإضافة إلى ما يشعّ فيه من روح التّواضع والصّدق مع الله، يلفت النّظر إلى مشكلة كبرى في حياتنا الإسلاميّة اليوم، هي باختصار مشكلة إحلال الفكر الإسلامي محلّ العلم بحقائق الإسلام، والتّزوّد من أحكامنا الفقهيّة، ومنذ ذلك اليوم أجمعت العزم على إخراج كتاب يتضمّن بيان حقيقة الجهاد الإسلامي وأنواعه، وأهدافه و ضوابطه، من خلال عرض الأحكام الفقهيّة المتّفق عليها...”الخ. ا. هـ.
هذه العبارات الجميلة - وليس كلّ جميل نافع - مع ما فيها من توزيع عبارات المدح الممجوجة: بروح التّواضع، الصّدق مع الله، تواضع وصراحة نادرتين، وكقوله عن جودت سعيد في مقام آخر من الكتاب أنّه صاحب: صدق كبير، تحرّقٍ على الحقّ،... عبارات خزفيّة رقيقة يطلقها بوق كبير يتقن فنّ الصّخب اسمه البــوطي كقوله: “كبرى اليقينيّات الكونيّة”،(وانتبه إلى كلمة: “كبرى” فإنّها ضروريّة) وكقوله: “أبحاث في القمّة” (وانتبه إلى كلمة: “في القمّة” فإنّها ضروريّة)، هذا الرّجل هو الشّيخ الفقيه المجدد الإمام الحجّة، خاتمة المحققين، بقيّة (الصّلف السّالح) هذا الرّجل هو “محمّد سعيد رمضان البوطي”، قال العبارات السّابقة في كتابه الفريد الّذي -لم يعتمد فيه على رؤية فكريّة.. وإنّما وضعت الموازين الفقهيّة الّتي لا مجال لرفضها، حكما عدلاً يهدي إلى الحقّ، وينهي جدل الأفكار الذاتيّة المتعارضة - الكتاب الذي ختمه بقوله: إنّني أعيش - ولله الحمد - في وضع يجعلني أشدّ نفسي إلى الحكم الّذي تؤيّده دلائل الشّرع والتقت عليه كلمة أئمّة المسلمين. ا. هـ. وقال قبلها في الكتاب (الفلتة!): لقد آن لنا أن نستيقن بأن انتصارنا على هؤلاء الغاصبين والمتحكّمين بحقوقنا وديارنا رهن بعودة صادقة منّا إلى الإسلام، عقيدة وخلقا وسلوكاً، وقد أعلن ذلك الرّئيس حافظ الأسد صراحة، مع الدّلائل والمؤيّدات لفريقٍ من الصّحفيين الأمريكيّين. انتهى الإبداع.
جودت سعيد يفكّر ومقتنع بما يفكّر، ويستنجد لدعم فكره بالفقيه (صاحب الّلفة): محمّد سعيد رمضان البوطي فيلبّي الفقيه (آية الله على خلقه)، ويستشهد بالأدلّة القاطعة من كلام الرئيس المؤمن، أمين الأمّة في هذا الزّمان - وهي أوصاف من البوطي - للرّئيس حافظ الأسد.
يا الله: طفّ الكيل، وبلغ السّيل الزّبى، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت (إلهي لا تحرمنا من الحياء).
لعلّي نسيت أن أخبركم اسم الكتاب، إنّه: “الجهاد في الإسلام، كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟”، والضمير يعود في “نفهمه” و “نمارسه” يعود إلى الحكومة السّوريّة بقيادة حافظ الأسد.
تنبيه: هناك وصفة طبّية مضحكة لعلّها تنفعك وقت الضّجر هي كتاب محمد الغزالي المصريّ: “السنةّ النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”، فهي تغنّي على مزمار المفكّرين في المعهد العالميّ للفكر الإسلامي (مفكّر متحرر) و رقص “محمّد الغزالي” (فقيه متخلّف).