بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حرصت الشّريعة على لسان مبلّغها الأوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم في التّحذير الشّديد الواضح من الوقوع في المثال الخطأ عن صورة الشريعة والدّين، ذلك لأن النّاس بحاجة دوماً في فهمهم لفكرة ما، أو لموضوع معيّن أن يتمثّل هذا الموضوع، وأن تشخّص هذه الفكرة بصورة عمليّة أمامهم، ليشدّهم هذا المثال وهذا التّشخيص إلى التّطبيق العمليّ، وليقرّب لأذهانهم حقيقة هذه الفكرة، فإنّ النّاس وإن اختلفت عقولهم في تفسير شيء عرض عن طريق البيان، وتعدّدت نظراتهم في تحديد المراد منه لاتّساع معاني البيان الواحد، إلاّ أنهم لن يخطئوا في تفسير هذا البيان حين يتمثّل أمامهم بصورة عملية واقعيّة، ولذلك كانت السنّة بتفصيلاتها البيانيّة والعملية في شخص النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي حياة الصّحابة كواقع عمليّ قرّر من قبل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت قاضيةً على الكتاب البيانيّ المجرّد كما قال الكثير من أئمّة العلم والدّين.
ولمّا كانت الصّورة عادة تقلّ في وضوحها عن الحقيقة والمقتدي لا يبلغ درجة المقتدى به إذا كانت صورة الإقتداء تتمّ فقط عن طريق الأسوة العمليّة دون الرّجوع المرّة تلو المرّة إلى الحقيقة كما عرضت في أوّل مرّة، فإنّه ولا بدّ أن يتمّ التّشويه والتّحوير في كلّ مرحلة من مراحل تطبيق الفكرة، وهذا واقع مع أي فكرة وأيّ مثال، والتّاريخ الإسلاميّ مع الإسلام كان نموذجاً حيّاً لهذا المثال، مع أنّ الإسلام حذّر من هذا الخطّ البيانيّ النّازل على مدار التّاريخ الإنسانيّ، إلاّ أنّ هذه الأمّة لم تخرم -للأسف- هذه السّنّة، على الرّغم أنها سنّة سيئة ولا شكّ. ولنقل أنّها لم تخرمها بضابطين:
أوّلهما: إلى الآن، فالبشائر النّبويّة تعلّمنا أنّ هذا الخطّ النّازل في تطبيق المثال سيعود إلى الصّعود في آخر الزّمان، ((ثمّ تكون خلافة على منهاج النّبوّة)). لكنّ هذا المثال. وللأسف مرّة أخرى. لن يكون إلا بمثابة الإفاقة الأخيرة والنّهائيّة لهذا الوجود، وهي بمقدار إفاقة من كان في النّزع الأخير.
ثانيهما: أنّ هذا النّزول في مجموع الفكرة ومجموع الأمّة، وإلاّ فإنّ التوقّف في النّزول حيناً أو الصّعود حيناً يكون مرّة في جزئيّة الفكرة أو جزئيّة الأمّة.
والإسلام حذّر من هذه السنّة، وهي اتّخاذ الأسوة عن طريق المثال بعد غياب الحقيقة أو ما قاربها في القرون الأولى، وشدد على العودة دوما إلى الحقيقة البيانيّة مع حقيقة التّطبيق الأولى، واعتبر أيّ نزول في المثال هو انحراف عن جادّة الصّواب، وابتعاد عن الحقيقة.
ومن هذه التّحذيرات الواضحة وهي كثيرة قوله صلى الله عليه وسلم:
1 - ((خير النّاس قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يجيء قوم تسبق شهادته أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)). وفي رواية: ((خير النّاس قرني، ثمّ الثّاني، ثمّ الثّالث، ثمّ يجيء قوم لا خير فيهم)). وهذا الحديث وإن كان بصيغة الخبر، إلاّ أنّه يحمل في طيّاته أمراً توجيهيّاً وتحذيريّا، توجيهيّاً للمسلم بمن يقتدي، وتحذيريّاً للمسلم ممّن يتّقي.
والحديث نموذج للتّحذير الذي قدّمناه وهو أنّه بعد القرن الثالث (الجيل الثّالث)، ينبغي على المسلم أن تتوقّف لديه صورة الامتثال والإقتداء عن طريق الأسوة العمليّة، لأنّها لن تكون واضحة في شرح الفكرة ولا هي واضحة في تمثّلها، والأخذ بهذه الصّور الحادثة تعطي عن الفكرة صورة ناقصة أو مشوّهة فحينئذٍ لا بدّ من العودة إلى الأصل= البيان+ النّموذج الأول.
2 - ((عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة)). وبعيداً عن خلاف السّلف. عليهم رحمة الله. في قيمة قول الصّحابيّ إلاّ أنّ السّنّة التشريعيّة بإجماع أهل الملّة قاصرة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيها أحد، أمّا السّنّة التي يقتدى بها فممّا لا شكّ فيه أنّ النّموذج القدوة للسّنّة التّشريعيّة هم الخلفاء الرّاشدون، وهم نموذج قاصر عليهم وعلى المسلم أن لا يتعدّاه في تمثيل البيان عن طريق قدوة ومثال مهما بلغت درجة هذا الآخر، وفي الحديث إشارة إلى الحوادث المهلكة في إنزال مرتبة القدوة حين قال: ((وإيّاكم ومحدثات الأمور))، فالصّورة العمليّة هي صورة حادثة، ولا شكّ أنّها بمجموعها ستحوي بعض التّشويه والنّقص، فمن أراد الفوز فليرجع إلى: البيان+ النّموذج الأوّل.
وهناك بعض العوارض في أذهان بعضهم تقدح في هذا الأمر، وتسمح بجعل المرتبة المتأخّرة نموذجاً للقدوة، وقبل أن نتكلّم عن الأدلّة الموضوعيّة الّتي يسوقها هؤلاء القوم، فإنّ الحقّ أنّ بواعث هؤلاء البعض في إنزال مرتبة النّموذج هي بواعث نفسيّة، وأهمّ هذه البواعث هو فقدان روح التّمرّد، والرّغبة في التّقليد المريح الّذي يسقط عن المسلم الكسول الخامل تبعة المساءلة الأخروية، وتبعة ثمن التّضحية في مخالفة عوائد النّاس وإيلافهم. وهؤلاء وإن يرفضوا مقولة العوامّ: “قلّدها لعالم فتخرج سالم”. إلا أنّهم في الحقيقة يعيشونها شعوراً حاضراً لا يغيب عن أذهانهم، وهؤلاء أبعد النّاس عن الدّخول في زمرة التجديد والإحياء، أو الولوج تحت شعار تصفية الحقّ من دخن العقول والأهواء.
والآن ما هي أدلّة هؤلاء القوم؟:
أدلّة هؤلاء القوم تقسّم إلى قسمين، قسم فرضته عوائد العلماء كما يزعمون، وقسم نصّيّ يُسترشد به في دعم الفكرة، وليس في تأصيلها.
أما القسم الأوّل: وهو جامع لجراميز أدلّتهم قولهم: إنّ العلماء على الدّوام رفضوا اسم العلم أن يلتصق بفرد أو جماعة أخذت علمها من مصدر البيان مباشرة، بل لا بدّ من أفواه العلماء، والجلوس على الرّكب أمامهم، وهذا يدلّ على أنّ تواصل العلم هو عن طريق الرّجال، مشافهة ومرأىً، ولا شيء غير ذلك.
وقولهم هذا لا يعدو إلاّ أن يكون حيدة عن موضوع البحث، لأنّ هذا القول هو في البداية حجّة تراثيّة، والخصومة حولها وعليها، والاختلاف يدور حول حجيّة التّراث والتّاريخ، والأمر الآخر هو أنّ هذا الّذي قيل وجد في السنّة ما ينقضه ويبدّده، خاصّة حين يصبح ويصير لكلّ طائفة رجالاً، تتّخذهم الطّائفة قدوة وأئمّة، وتزعم أنّ مجرى الهدى على محيّاهم، ومنبع النّور من أفواههم، فلا بدّ من قطع علائق الفتن بالعودة إلى الأصل وهو: البيان+ النّموذج الأوّل.
والسنّة التي مدحت العودة إلى الورق دون النّظر إلى الشّخوص والمثل هي القاطعة لحجّة هذا الفريق، هذه السنّة هي قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً: ((أيّ الخلق أعجب إليكم إيماناً؟. قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟. قالوا: الأنبياء، قال: وكيف لا يؤمنون وهم يأتيهم الوحي؟. قالوا: نحن، فقال: وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟. قالوا: فمن يا رسول الله؟. قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها)).
وفي بعض ألفاظه: ((بل قوم من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجراً)).
وفي لفظ آخر: ((يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا)). انظر “الباعث الحثيث” بتعليق أحمد شاكر، هامش ص125.
فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلّق، بل جعل هؤلاء القوم هم اعظم النّاس أجراً، وأفضل أهل الإيمان إيماناً، وهذا يدلّ على أنّ العصمة عند اختلاف الزّمان، وسقوط النّماذج الفاسدة الحاملة لاسم العلم والعلماء زوراً وبهتاناً، هو العودة إلى الورق، ولن يضرّ هؤلاء (المتمرّدون) قول فلان وعلاّن، ورأي زيد وعمرو فإنّه لا يعدل أحد عن الطّرق الشّرعية إلى البدعيّة إلاّ لجهلٍ أو عجزٍ أو غرض فاسد كما قال ابن تيمية، وهذا الطّريق، وهو أخذ العلم عن طريق الورق المعلّق - وهو طريق شرعيّ - هو الّذي يمنع زلّة العالم من أن تقفز إلى ذهن التّابع فتستقرّ تحت اسم العصمة والدّين.
والقصد من الوسائل دوماً تحقيق المقاصد، والانشغال بالوسائل دون النّظر إلى المقاصد هو سبيل أهل العيّ والضّعف، والأصل في ذلك كلّه، ومقصد الطّلب هو تحصيل الحقّ أبلجاً كما هو، فحرص الأوائل على حفظ هذا الأصل دفعهم لوضع شروط حول هذا الحال والأمر، وما دروا بمصيبتنا مع جهلة هذا الزّمان فكان لا بدّ من البيان.