بسم الله الرحمن الرحيم
حين يكرم الله تعالى عبداً من عباده، يجعله داعياً إليه بلسانه أو بقلمه، حيث يقوم على منبر الدّعوة يعظّم فيه الرّب، ويحبّب العباد بهذا الإله العظيم، فيشرح لهم صفات الله تعالى، ويجلّيها لهم، ثمّ يبيّن لهم شرع الله، ويبيّن لهم ماذا يحبّ الربّ وماذا يكره؟.
أقول حين يكرم الله تعالى عبداً بهذه المنزلة حينئذٍ من تمام عبوديّته لله أن يردّد مع ابن الجوزيّ دعاءه الذي كان يقوله، ويتحبّب به إلى ربّ العزّة والجلال، هذا الدّعاء هو: "اللهم لا تعذّب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، فبعزّتك لا تدخلني النّار، فقد علم أهلها أنّي كنت أذبّ عن دينك".
هذا كلّه من كرم الله تعالى، ويذهب هذا الفضل، ويقلّ أثره، بل يصبح من الإهانة والخيانة أن ينتكس المرء، فبدل أن يدلّ على الله وشرعه يصبح دالاّ على نفسه وهواه، وبدل أن يعظّم الرّب ويشير إليه مرغّباً فيه، يصبح من جماعة: اعرفوني، وقصّة "اعرفوني" هذه قصّة طريفة، فقد ذكر أبو عبد الرّحمن السّلمي في تفسيره أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه دخل المسجد يوماً فوجد رجلاً قاصّاً، يحدّث النّاس بالغرائب. فقال له عليّ رضي الله عنه: "ما اسمك؟"، فانتسب الرّجل وذكر اسمه، فقال عليّ رضي الله عنه: "بل أنت من قوم اعرفوني اعرفوني". أي أنّه من قوم يدعون إلى أنفسهم لا إلى الله، فمن الخيانة العظمى أن يسخّر هذا العبد منبر الدّعوة وبيان شرعه إلى منبرٍ يدعو لشخصه وهواه، فيدافع عن نفسه، ويردّ على كلام الخصوم، ثمّ من الخيانة أيضا أن يفسد هذا الدّاعي مزاج النّاس، وإفساده لهم هو أن يعاملهم بمرتبة الأغبياء، وهم الذين لا يقرؤون الكلمات، ولكنهم يحاولون الحذلقة واصطناع الذّكاء، فيمارسون القراءة بين السّطور بنفسيّة الخصم المتلاعب، وهم كما قيل: "المس مس أرنب، والطّبع طبع ثعلب"، فحين يكتب المرء لهؤلاء فيضيّع وقته في الشّروح المملّة، أو في بيان ما لا ضرورة لبيانه، حينئذٍ يكون هذا الدّاعي خائناً للأمانة، ولم يقم بها حقّ القيام، وأكره أن أكونهم.
والداعي إلى الله لا بدّ أن يبتلى دائماً بصنفين:
أولاهما: أهل الغباوة والبلادة.
وثانيهما: الخصوم والأعداء.
وقد حاولت بفضل الله تعالى حين شرعت في كتابة هذه المقالات أن أقوم مقام المؤذّن، ومن السنّة في حقّه - أي المؤذن - أن يصرخ في النّاس الحقّ (الدّعوة التّامّة كما سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأثناء هذا النّداء عليه أن لا ينسى أن يضع إصبعيه في أذنيه، ولعلّ وضعه هذا - وهو أن يصرخ وهو واضع إصبعيه في أذنيه - يشير إلى ما ينبغي أن يكون عليه الدّاعي إلى الله، وهو ألاّ ينشغل بحديث النّاس معه، أو بحديث النّاس عليه، فلو أنّ رجلاً صرخ على المؤذّن وهو يؤذّن لصلاة الفجر قائلاً له: لقد أقلقت نومنا، أو أفسدت علينا أحلامنا، فإنّ المؤذّن لن يسمعه، وكيف يسمعه وهو واضع إصبعيه (السبّابتين) في أذنيه، ولو أنّ رجلا صرخ فيه، وهو يؤذّن لصلاة الظّهر: لو أنّك أخّرت أذانك قليلاً حتى أنهي صفقتي وتجارتي فلن يسمعه، وكيف يسمعه وهو واضع سبّابتيه في أذنيه، فهذا هو أمر الدّاعي إلى الله تعالى. يصرخ في النّاس الحقّ، ويدعو النّاس إلى الفلاح، ولا يأبه أبداً باعتذار الحالمين أو الواهمين، بل هو قائم لله بحجّة حتى يلقى الله.
وقد آليت على نفسي أن لا أخطّ في هذا المنبر - وهو منبر من حقّ المجاهدين في كلّ مكان - إلاّ ما يقوّي عزائمهم، ويشدّ من أزرهم، ويكشف عيوب غيرهم، وفجاجة أفكار خصومهم، لئلاّ يهنوا أو يضعفوا أو يستكينوا، وشهد الله تعالى أنّي لم أكتب حرفاً إلاّ وهم في مخيّلتي، فإن مدحت فهم أمدح، وإن ذممت فخصومهم أذِمّ:
فأنا أصرخ دائماً وها أنا أعلن: أنا لا أكتب إلاّ لأولئك، فلا يغضبني أبداً أن لا يقرأ لي غيرهم، أو يعرض عن هذه المقالات من لا يحبّ اللحاق بهم، ويدعوا لذلك صباح مساء، بل يفرحني أشدّ الفرح أن لا يرضى عليّ خصومهم، ويفرحني أشدّ الفرح أن يغضبوا عليّ أشدّ الغضب، وليت الغضب يصل بهم إلى ارتجاف شفاههم وأيديهم وأرجلهم حتّى الشّلل، وأنا أردّد مع ذلك الرّجل الشّاعر حين قال:
غضـبان ممتلـئ علي إهـابه إنّي - وحقّك - سُخطُه يرضيني
وللذّكر، فلست امرأة تطلب زوجاً فتتحسّن لكلّ طارق، وبضاعتي ليست كاسدةً حتّى أنثرها بين سارحة النّعم، ولولا رجاء إخوة أحبّة لي أن لا أكسر قلمي، لكسرته منذ زمن، وقراءتي أحبّ إليّ من هذه الكتابة:
وإذا رضي الحبيب فلا أبالي أقام الحيّ أو جدّ الرحيـل
أقول هذا الكلام لأنّي شعرت أنّ قوماً سرقوا منّي جوهرة ثمينة، أردت منذ زمن أن أقلّدها لأولئك الرّجال الذين يعيشون هناك في جبال الجزائر وهضاب أريتريا، وفي وديان بلاد الشّام، وفي أزقّة القاهرة، وفي بساتين الصّعيد، وفي أدغال أندونيسيا، نعم: هذه الجوهرة أردت أن أهديها لأولئك الرّجال الّذين يرتفقون أسلحتهم، ويستشعرون العزّة والنّصر والتأييد، ذلك لأنّي أعتقد أنّ أولئك القوم هم - رغم أنف الشّانئين والحاقدين والمنافقين - هم الطّائفة المنصورة. لأنّهم طائفة حقّ وقتال، وقلت فيما قلت عنهم في العدد السّابق: إنّ من دلائل دخولهم في الطّائفة المنصورة أنّهم يأكلون ويرزقون من غنيمة من أزاغه الله تعالى، وظننت أنّ كلامي جدّ مفهوم، ولا يحتاج إلى كبير شرح وبيان، ولكن جاء من جاء من أهل البلادة والغباوة ليقول: إنّ الكاتب يطلب من المسلمين المقيمين في أوروبا أن يسرقوا من أموال الكفّار هناك ليأكلوا منها، ووالله إنّي غضبت أشدّ الغضب، لا لنسبة هذه الفتوى إليّ، ولكن حين شعرت أنّ قوماً من المسلمين، يقيمون هناك في أوروبا، يظنّون أنفسهم أنّهم من الطّائفة المنصورة، واسترجعت سائلي المرّة تلو الأخرى: هل هو متأكّد مما يقول؟ وهل ما أسمع حقّاً؟ لقد ذهلت أن يظنّ أحد أيّ أحد، وكائناً من كان هذا الأحد أنّه من الطّائفة المنصورة وهو مقيم في أوروبا، يا الله: هل فقد النّاس الحياء؟ هل سقط برقع الفضيلة عن وجوههم؟، يعيشون في أوروبّا، وهم لا يعتبرون إلاّ رقما خسيساً، تتعامل معه دول أوروبا، ويظنّ نفسه أنّه من الطّائفة المنصورة، ووالله إني غرت على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقلّده رقم صغير مخذول مهزوم، وعجبت كيف تفقد الحقائق معالمها هذه الأيّام، وهؤلاء لو راجعوا اللفظ لوجدوه ينفر منهم أشدّ النّفرة، ويصرخ بملء فيه أنّي لست منهم، وليسوا منّي، فهذا اللفظ مشتقّ من (النّصر)، فأيّ نصر أنتم تعيشونه هنا في أوروبّا أيتها الأرقام الخسيسة؟ (وما أبرّئ نفسي).
هذه الأرقام الخسيسة، المهزومة، المخذولة، حقّها أن تبحث في كتب الفقه في باب يسمّى باب "اللصوصيّة"، إن أردت أن تأكل شيئاً من مال الكفّار، نعم هناك (يا أيّها الأرقام) باب في كتب الفقه يسمّى "باب اللصوصيّة في بلاد الكفر"، فأمركم لا يخرج عن هذا الأمر - أرقام - لصوص - لاجئ - متسوّل - هذه أوصافكم، أمّا أن تظنّوا أنّكم مخاطبون بخطاب النّصر والعزة، فلا وألف لا، وقد يسأل سائل (صبيّ): وهل أنت كذلك؟، فأقول نعم وألف نعم، وقد أحسن إليّ بعضهم حين سمّاني: مستريحاً، وهو قد رقّق العبارة، وهذّبها، فجزاه الله خيرا.
وفي الختام فإنّي اليوم قد خنت الأمانة بأمرين: أولاهما: حين خاطبت أرقاماً مهزومة، ولم أوطّن نفسي على ذلك من قبل، ولأنّ هذا المنبر موجّه إلى (الطّائفة المنصورة). ثانيهما: حين نسيت أن أضع إصبعي على أذني وأنا أؤذّن، فأصابني شيء من زمزمة الكهّان.
مناجاة: سيّدي نواصي الكلّ بيدك، وما فيهم من يقدر لي على ضرّ، إلاّ أن تجريه على يديه، وأنت قلت سبحانك: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله}، وطيّبت المبتلى بقولك: {قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا}، فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني، كان خوفي على ما نصرته أكثر من خوفي على نفسي، لئلاّ يقال: لو كان على الحقّ ما خذل، غير أني أعيش بما نصرته من السنّة، فأدخلني في خفارته. (صيد الخاطر).
حين يكرم الله تعالى عبداً من عباده، يجعله داعياً إليه بلسانه أو بقلمه، حيث يقوم على منبر الدّعوة يعظّم فيه الرّب، ويحبّب العباد بهذا الإله العظيم، فيشرح لهم صفات الله تعالى، ويجلّيها لهم، ثمّ يبيّن لهم شرع الله، ويبيّن لهم ماذا يحبّ الربّ وماذا يكره؟.
أقول حين يكرم الله تعالى عبداً بهذه المنزلة حينئذٍ من تمام عبوديّته لله أن يردّد مع ابن الجوزيّ دعاءه الذي كان يقوله، ويتحبّب به إلى ربّ العزّة والجلال، هذا الدّعاء هو: "اللهم لا تعذّب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، فبعزّتك لا تدخلني النّار، فقد علم أهلها أنّي كنت أذبّ عن دينك".
هذا كلّه من كرم الله تعالى، ويذهب هذا الفضل، ويقلّ أثره، بل يصبح من الإهانة والخيانة أن ينتكس المرء، فبدل أن يدلّ على الله وشرعه يصبح دالاّ على نفسه وهواه، وبدل أن يعظّم الرّب ويشير إليه مرغّباً فيه، يصبح من جماعة: اعرفوني، وقصّة "اعرفوني" هذه قصّة طريفة، فقد ذكر أبو عبد الرّحمن السّلمي في تفسيره أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه دخل المسجد يوماً فوجد رجلاً قاصّاً، يحدّث النّاس بالغرائب. فقال له عليّ رضي الله عنه: "ما اسمك؟"، فانتسب الرّجل وذكر اسمه، فقال عليّ رضي الله عنه: "بل أنت من قوم اعرفوني اعرفوني". أي أنّه من قوم يدعون إلى أنفسهم لا إلى الله، فمن الخيانة العظمى أن يسخّر هذا العبد منبر الدّعوة وبيان شرعه إلى منبرٍ يدعو لشخصه وهواه، فيدافع عن نفسه، ويردّ على كلام الخصوم، ثمّ من الخيانة أيضا أن يفسد هذا الدّاعي مزاج النّاس، وإفساده لهم هو أن يعاملهم بمرتبة الأغبياء، وهم الذين لا يقرؤون الكلمات، ولكنهم يحاولون الحذلقة واصطناع الذّكاء، فيمارسون القراءة بين السّطور بنفسيّة الخصم المتلاعب، وهم كما قيل: "المس مس أرنب، والطّبع طبع ثعلب"، فحين يكتب المرء لهؤلاء فيضيّع وقته في الشّروح المملّة، أو في بيان ما لا ضرورة لبيانه، حينئذٍ يكون هذا الدّاعي خائناً للأمانة، ولم يقم بها حقّ القيام، وأكره أن أكونهم.
والداعي إلى الله لا بدّ أن يبتلى دائماً بصنفين:
أولاهما: أهل الغباوة والبلادة.
وثانيهما: الخصوم والأعداء.
وقد حاولت بفضل الله تعالى حين شرعت في كتابة هذه المقالات أن أقوم مقام المؤذّن، ومن السنّة في حقّه - أي المؤذن - أن يصرخ في النّاس الحقّ (الدّعوة التّامّة كما سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأثناء هذا النّداء عليه أن لا ينسى أن يضع إصبعيه في أذنيه، ولعلّ وضعه هذا - وهو أن يصرخ وهو واضع إصبعيه في أذنيه - يشير إلى ما ينبغي أن يكون عليه الدّاعي إلى الله، وهو ألاّ ينشغل بحديث النّاس معه، أو بحديث النّاس عليه، فلو أنّ رجلاً صرخ على المؤذّن وهو يؤذّن لصلاة الفجر قائلاً له: لقد أقلقت نومنا، أو أفسدت علينا أحلامنا، فإنّ المؤذّن لن يسمعه، وكيف يسمعه وهو واضع إصبعيه (السبّابتين) في أذنيه، ولو أنّ رجلا صرخ فيه، وهو يؤذّن لصلاة الظّهر: لو أنّك أخّرت أذانك قليلاً حتى أنهي صفقتي وتجارتي فلن يسمعه، وكيف يسمعه وهو واضع سبّابتيه في أذنيه، فهذا هو أمر الدّاعي إلى الله تعالى. يصرخ في النّاس الحقّ، ويدعو النّاس إلى الفلاح، ولا يأبه أبداً باعتذار الحالمين أو الواهمين، بل هو قائم لله بحجّة حتى يلقى الله.
وقد آليت على نفسي أن لا أخطّ في هذا المنبر - وهو منبر من حقّ المجاهدين في كلّ مكان - إلاّ ما يقوّي عزائمهم، ويشدّ من أزرهم، ويكشف عيوب غيرهم، وفجاجة أفكار خصومهم، لئلاّ يهنوا أو يضعفوا أو يستكينوا، وشهد الله تعالى أنّي لم أكتب حرفاً إلاّ وهم في مخيّلتي، فإن مدحت فهم أمدح، وإن ذممت فخصومهم أذِمّ:
فأنا أصرخ دائماً وها أنا أعلن: أنا لا أكتب إلاّ لأولئك، فلا يغضبني أبداً أن لا يقرأ لي غيرهم، أو يعرض عن هذه المقالات من لا يحبّ اللحاق بهم، ويدعوا لذلك صباح مساء، بل يفرحني أشدّ الفرح أن لا يرضى عليّ خصومهم، ويفرحني أشدّ الفرح أن يغضبوا عليّ أشدّ الغضب، وليت الغضب يصل بهم إلى ارتجاف شفاههم وأيديهم وأرجلهم حتّى الشّلل، وأنا أردّد مع ذلك الرّجل الشّاعر حين قال:
غضـبان ممتلـئ علي إهـابه إنّي - وحقّك - سُخطُه يرضيني
وللذّكر، فلست امرأة تطلب زوجاً فتتحسّن لكلّ طارق، وبضاعتي ليست كاسدةً حتّى أنثرها بين سارحة النّعم، ولولا رجاء إخوة أحبّة لي أن لا أكسر قلمي، لكسرته منذ زمن، وقراءتي أحبّ إليّ من هذه الكتابة:
وإذا رضي الحبيب فلا أبالي أقام الحيّ أو جدّ الرحيـل
أقول هذا الكلام لأنّي شعرت أنّ قوماً سرقوا منّي جوهرة ثمينة، أردت منذ زمن أن أقلّدها لأولئك الرّجال الذين يعيشون هناك في جبال الجزائر وهضاب أريتريا، وفي وديان بلاد الشّام، وفي أزقّة القاهرة، وفي بساتين الصّعيد، وفي أدغال أندونيسيا، نعم: هذه الجوهرة أردت أن أهديها لأولئك الرّجال الّذين يرتفقون أسلحتهم، ويستشعرون العزّة والنّصر والتأييد، ذلك لأنّي أعتقد أنّ أولئك القوم هم - رغم أنف الشّانئين والحاقدين والمنافقين - هم الطّائفة المنصورة. لأنّهم طائفة حقّ وقتال، وقلت فيما قلت عنهم في العدد السّابق: إنّ من دلائل دخولهم في الطّائفة المنصورة أنّهم يأكلون ويرزقون من غنيمة من أزاغه الله تعالى، وظننت أنّ كلامي جدّ مفهوم، ولا يحتاج إلى كبير شرح وبيان، ولكن جاء من جاء من أهل البلادة والغباوة ليقول: إنّ الكاتب يطلب من المسلمين المقيمين في أوروبا أن يسرقوا من أموال الكفّار هناك ليأكلوا منها، ووالله إنّي غضبت أشدّ الغضب، لا لنسبة هذه الفتوى إليّ، ولكن حين شعرت أنّ قوماً من المسلمين، يقيمون هناك في أوروبا، يظنّون أنفسهم أنّهم من الطّائفة المنصورة، واسترجعت سائلي المرّة تلو الأخرى: هل هو متأكّد مما يقول؟ وهل ما أسمع حقّاً؟ لقد ذهلت أن يظنّ أحد أيّ أحد، وكائناً من كان هذا الأحد أنّه من الطّائفة المنصورة وهو مقيم في أوروبا، يا الله: هل فقد النّاس الحياء؟ هل سقط برقع الفضيلة عن وجوههم؟، يعيشون في أوروبّا، وهم لا يعتبرون إلاّ رقما خسيساً، تتعامل معه دول أوروبا، ويظنّ نفسه أنّه من الطّائفة المنصورة، ووالله إني غرت على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقلّده رقم صغير مخذول مهزوم، وعجبت كيف تفقد الحقائق معالمها هذه الأيّام، وهؤلاء لو راجعوا اللفظ لوجدوه ينفر منهم أشدّ النّفرة، ويصرخ بملء فيه أنّي لست منهم، وليسوا منّي، فهذا اللفظ مشتقّ من (النّصر)، فأيّ نصر أنتم تعيشونه هنا في أوروبّا أيتها الأرقام الخسيسة؟ (وما أبرّئ نفسي).
هذه الأرقام الخسيسة، المهزومة، المخذولة، حقّها أن تبحث في كتب الفقه في باب يسمّى باب "اللصوصيّة"، إن أردت أن تأكل شيئاً من مال الكفّار، نعم هناك (يا أيّها الأرقام) باب في كتب الفقه يسمّى "باب اللصوصيّة في بلاد الكفر"، فأمركم لا يخرج عن هذا الأمر - أرقام - لصوص - لاجئ - متسوّل - هذه أوصافكم، أمّا أن تظنّوا أنّكم مخاطبون بخطاب النّصر والعزة، فلا وألف لا، وقد يسأل سائل (صبيّ): وهل أنت كذلك؟، فأقول نعم وألف نعم، وقد أحسن إليّ بعضهم حين سمّاني: مستريحاً، وهو قد رقّق العبارة، وهذّبها، فجزاه الله خيرا.
وفي الختام فإنّي اليوم قد خنت الأمانة بأمرين: أولاهما: حين خاطبت أرقاماً مهزومة، ولم أوطّن نفسي على ذلك من قبل، ولأنّ هذا المنبر موجّه إلى (الطّائفة المنصورة). ثانيهما: حين نسيت أن أضع إصبعي على أذني وأنا أؤذّن، فأصابني شيء من زمزمة الكهّان.
مناجاة: سيّدي نواصي الكلّ بيدك، وما فيهم من يقدر لي على ضرّ، إلاّ أن تجريه على يديه، وأنت قلت سبحانك: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله}، وطيّبت المبتلى بقولك: {قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا}، فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني، كان خوفي على ما نصرته أكثر من خوفي على نفسي، لئلاّ يقال: لو كان على الحقّ ما خذل، غير أني أعيش بما نصرته من السنّة، فأدخلني في خفارته. (صيد الخاطر).