بسم الله الرحمن الرحيم
(ثانياً) وإنّ من الموازين الخاطئة في مدح البعض، وإطلاق اسم العلماء وصفة العلم عليهم، هو ظنّ الجاهل أنّه بمقدار تفرّغ المرء عن أخبار الحياة، وبعده عن أحداثها، وتوحّده، وعزلته، وانشغاله ببطون الكتب. يعيش معها وبها. يكون العالم عالماً حقّاً، وإماماً يقتدى به، فالمرء يأخذه العجب حين يرى أحدهم يسوق عن شيخه، أو إمامه أو محبوبه، على جهة المدح والتّعظيم أنّ شيخنا - بفضل الله تعالى - بعيد كلّ البعد عن الدنيا، فهو - رضي الله عنه - لا يجد الوقت لسماع أخبار الحياة، ولم تدخل الجريدة يوماً بيته، بل هو - حفظه الله ورعاه - لا يقتني جهاز مذياع، بل جلّ وقته في طلب العلم، وفي تعليم طلبة العلم.
ثمّ يأخذه العجب ويشتدّ به الوجد فيسوق لك الأخبار تلو الأخبار في إعراض شيخه عن معرفة ما يدور حوله، فشيخنا -حفظه الله تعالى -، إذا حاول بعضهم أن يذكر شيئاً من أمور السّياسة، وأخبار السّياسيين، تجهّم الشّيخ، وتغيّر وجهه، وتكلّم معه بكلام بليغ، وذكّر هذا (الآبق) أنّ طالب العلم عليه أن يصرف كلّ وقته للعلم، فهو يستشهد دوماً بمقولة السّلف: “إذا أعطى الرّجل كلّ وقته للعلم، أعطاه العلم بعضه”.
وهكذا تدور هذه الكلمات على ألسنتهم، ويظنّون أنّهم بهذا قدّموا صورة جميلة عن شيخهم، وهم في الحقيقة لم يزيدوا سوى أن عرّفوا النّاس: أنّ شيخهم هذا هو من أجهل خلق الله، وأنّ شيخهم هذا يجب أن يحجر عليه فلا يُسأل، ولا يفتي، لأنّ من شرط المفتي أن يكون بصيراً بحال أهل زمنه، عالماً بمداخل الحياة وسبلها، وإلاّ فما هو هذا العلم الّذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولم جاء العلم؟.
أجاء العلم ليكون حبيس السّراديب؟.
أم ليتمتّع به بعضهم في خلواته؟.
ومن غرائب هؤلاء الشّيوخ وعجائبهم وكذلك من غرائب تلامذتهم أنهم إذا سئلوا عن الأمور العظيمة في الحياة لم يتورّعوا أبداً في الخوض فيها بألسنتهم السّرطانية الطّويلة، وتكلّموا فيها وهم لا يدرون شيئاً، وخاضوا فيها وهم من أبعد النّاس عنها فهماً ومعرفة.
على ضوء هذا التّفكير المنحطّ، وهذا السّلوك الجاهل، أفرز في عالم المسلمين ثنائيّات لم تكن معروفة لدى الأوائل، وقد حاول بعضهم بشيء من التعالم الغثّ أن يجعل هذا من وضع الاختصاص المعاصر الذي لا بدّ منه، مع أنّ هذا الاختصاص إذا وقع فقد كلّ طرفٍ ما حمّل من خصوصيّات.
هذه الثّنائيّات هي:
أوّلاً: التّفريق بين السّياسيّ والفقيه: فالسّياسيّ عند النّاس هو البصير بأمور الحياة، القادر على تفسير أحداثها، وهو من يستشار ويسأل عن تفسير الكونيّات والوقائع، وهو كذلك من له حقّ قيادة الحياة ورعاية شئونه، وهذا من خلال ما أعطي من قدرات سياسية، وأما الفقيه فهو حبيس الكتاب ولا يسأل إلاّ فيما يخصّ الغيب، فالسّياسيّ له عالم الشّهادة، والفقيه له عالم الغيب، وهذه ثنائيّة باطلة لم تكن معروفة لدى الأوائل، بل إنّ كلمة الفقه لا تقع إلاّ إذا اجتمع أمران:
أولاهما: إدراك الحياة على ما هي عليه، ومعرفة أحداثها، وهذا من أعظم الفقه، فإنّ الله تعالى قال: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالمون}العنكبوت، فالعالم هو من فسّر الأمور على طريقة سننيّة لها تمام الوضوح في عالم الشّهادة، ولا تغيب عنه الآخرة، فهو الجامع بينهما.
وإنّ من طامّات مشايخنا في كلامهم عن وقائع حياتنا أنهم يعتمدون على مبدأ الكشف الصّوفي، ولا ينسون أن يفتح الله عليهم بالفهم في تفسير الأحداث، وهذا كلّه باطل من القول وزور فإنّ معرفة المرء للحدث لا تقع على وجهها الصّحيح إلاّ إذا درسه دراسة عقليّة سننيّة، ونظر إليه كما هو في عالم الشّهادة، فحينئذٍ ينطلق إلى الأمر الآخر وهو :
ثانيهما: معرفة حكم الله في هذه الواقعة، أي يأتي بعد ذلك الحكم الشّرعي، ولا يمكن لأحدً أن يطلق حكماً شرعياً صحيحاً إلاّ إذا فهم الواقع فهماً صحيحاً، فالخلق أوّلاً، ثمّ الشّرع، قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين}الأعراف. وبعد أن يدرك تطابق الخلق والأمر لابدّ أن تصدر منه كلمات التّسبيح والتّعظيم والتّقديس، فيزداد يقيناً بحكمة الخالق، وتترسّخ مبادئه في حكمة الشّريعة حينئذٍ تخرج منه {تبارك الله ربّ العالمين}. صلى الله عليه وسلمفلو أننا قلنا إنّ السّياسي هو من أدرك الأمر الأوّل فقط (عالم الشّهادة) وغاب عنه الأمر الثّاني (معرفة حكم الله فيه) فإنّ هذا لن يكون سياسيّا مسلماً، وستنطلق رؤاه في التّعامل مع الأمور على مبدأ المنفعة الّتي ليس لها ضابط سوى النّظر إلى الفرديّة الذاتية، أو الشّهوة الّتي يعود مآلها إلى فساد الحياة، وإذا قلنا إنّ الفقيه هو من أدرك الحكم الشّرعي دون معرفته بوقائع الحياة على ما هي عليه فسيكون علمه هذا حبيس ذهنه وعقله، وليس له من أمر الحياة شيء، حينئذٍ سيقتصر دوره على الوعظ الكنَسيّ الّذي يحتاجه النّاس يوماً في الأسبوع لتخرج منهم زفرات الضّيق ارتقاباً بانتهاء غثائيّة الشّيخ.
وعلى هذا فإنّ الفقيه لن يكون فقيهاً في ديننا ولا يسمّى فقيهاً وعالما إلا إذا كان سياسيّاً بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى ووقع على النّفوس، وعلى الشّباب المسلم أن يسقط من حسّه ومن احترامه من يقول: إنّ من السّياسة ترك السّياسة، لأنّه حين يكون كذلك، أي حين لا يكون سياسيّا لن يكون فقيهاً بل يكون شيخ جهلٍ وتجهيل، وعلى مثل هؤلاء الشّيوخ الجهلة يعتمد الطّاغوت في إمرار باطله على النّاس، وفي إصباغ الشّرعيّة على نفسه، فشيوخنا كمخدَّرات البيوت، يلقون على أنفسهم الحجاب، ويرفع حجابهم عندما يبدأ مسرح الدّجل أمام الطّاغوت، ليقرأ عليهم نصوص الحكمة ليدلّل لهم على أنّه الوفيّ للإسلام وأهله، وإلاّ ففسّروا لنا ماذا نسمّي هذا القطيع البهيميّ الّذي يتحلّق حول الطّاغوت وقد زيّن الرّؤوس بعمائم خربة، ولم ينسَ أن يطلق شعرات الخديعة على لحيته (ولعلّه نسي أن يحلقها في ذلك اليوم لاضطرابه)، ثمّ يخرج من عنده وهو يمدح ويثني ويقسم الأيمان المغلّظة على أنّ حاكمنا هو وليّ الأمر الشّرعيّ الّذي يجب طاعته.
أهكذا يصنع الفقه بأهله؟.
أم هكذا يكون العلماء؟.
أم أنّ الفقيه كلّ الفقه هو عمر بن الخطّاب حين يقول: “لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني”، وكذلك صاحبه حذيفة حين يقول: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن الخير وكنت أسأله عن الشّرّ مخافة أن يدركني”.
من هو الفقيه والعالم في ديننا؟.
أهذه النماذج الجاهلة التي تعيش في عصرنا أم أولئك الذين سادوا الدنيا وحكموا الوجود ؟.
إن هؤلاء الجهلة الذين لا يدرون عن الحياة وما يدور فيها، ولا يسمعون تصريحات قادتهم أمام الأعداء، ولا يعرفون شيئا عما يقال عن حركة دولهم والى أين تسير، هؤلاء من العار في ديننا، وإنّه ممّا يخجل منه أن يكونوا هم العلماء، ولو رضينا أن نطلق عليهم وصف العلم والفقه لكان هذا شتماً وقذفاً لديننا، لأنّنا علّمنا النّاس أنّ عالم هذا الدّين، وفقيه هذه الشّريعة هو جاهل الحياة، غبيّ الزّمن، ومن أجل ذلك لئن نشتم هؤلاء القوم ونخرجهم من زمرة العلماء، خير وألف خيرٍ من أن نصبغ في أذهان النّاس صورة قذرة عن الفقيه المسلم.
الثّاني: التّفريق بين المقاتل والفقيه: كنت أعجب زمناً طويلاً، لماذا يلبس هؤلاء الشّيوخ هذا الزّي الكهنوتيّ، طربوش على الرّأس (ثقيل نوعاً ما)، طيلسان (رداء فضفاض)، له أكمام تتسع لقطّة أبي هريرة رضي الله عنه كما يزعمون، لكنّي أدركت الآن شيئاً من سرّ هذا اللباس المقرف، ولعلّ من أسباب ذلك أن ينطبع في أذهان النّاس وقبل ذلك في أذهان أصحاب هذا اللباس أنّهم لا يصلحون لشيءٍ سوى الكلام.
فدور مشايخنا محصور فقط في الكلمة، ومن المستهجن الغريب أن يكون الشّيخ قائداً عسكرياً، أو مقاتلاً شديداً، فهذا محمّد الغزالي يعلن بكلّ صراحة غريبة: أنّه لا يطيق رؤية دم دجاجة وهي تذبح، لكنّه قطعاً يفرح هو وإخوانه المشايخ في رؤية الدّجاج على مائدة الطّعام.
هذه الصّورة المنكوسة للشّيوخ جعلت الشّباب يتساءلون: لماذا خلا تاريخنا من العلماء المقاتلين؟ وشبابنا على الجملة يحترمون شيخ الإسلام “ابن تيمية” - رحمه الله تعالى - لأنّهم رأوا فيه صورة العالم الفقيه المقاتل، وظنّوا أنّه لا يوجد له مثال وشبيه، وهذا خطأ فإنّ من القليل النّادر أن تجد عالماً من علمائنا الأوائل إلاّ وهو مقاتل من الدّرجة الأولى، بل إنّ بعضهم كان في مرتبة القيادة العسكرية، مثل أسد بن الفرات، وإنّ الكثير من أئمّة الحديث قد صنّفوا كتبهم، وعقدوا مجالس التّحديث في الأربطة القتاليّة، على ثغور المسلمين.
ومثل هذه الثّنائيّات الباطلة، التّفريق بين الإداريّ والفقيه، والقائد والفقيه، وغير ذلك ممّا أعطت صورة غثائيّة عن الفقيه المسلم.
(ثانياً) وإنّ من الموازين الخاطئة في مدح البعض، وإطلاق اسم العلماء وصفة العلم عليهم، هو ظنّ الجاهل أنّه بمقدار تفرّغ المرء عن أخبار الحياة، وبعده عن أحداثها، وتوحّده، وعزلته، وانشغاله ببطون الكتب. يعيش معها وبها. يكون العالم عالماً حقّاً، وإماماً يقتدى به، فالمرء يأخذه العجب حين يرى أحدهم يسوق عن شيخه، أو إمامه أو محبوبه، على جهة المدح والتّعظيم أنّ شيخنا - بفضل الله تعالى - بعيد كلّ البعد عن الدنيا، فهو - رضي الله عنه - لا يجد الوقت لسماع أخبار الحياة، ولم تدخل الجريدة يوماً بيته، بل هو - حفظه الله ورعاه - لا يقتني جهاز مذياع، بل جلّ وقته في طلب العلم، وفي تعليم طلبة العلم.
ثمّ يأخذه العجب ويشتدّ به الوجد فيسوق لك الأخبار تلو الأخبار في إعراض شيخه عن معرفة ما يدور حوله، فشيخنا -حفظه الله تعالى -، إذا حاول بعضهم أن يذكر شيئاً من أمور السّياسة، وأخبار السّياسيين، تجهّم الشّيخ، وتغيّر وجهه، وتكلّم معه بكلام بليغ، وذكّر هذا (الآبق) أنّ طالب العلم عليه أن يصرف كلّ وقته للعلم، فهو يستشهد دوماً بمقولة السّلف: “إذا أعطى الرّجل كلّ وقته للعلم، أعطاه العلم بعضه”.
وهكذا تدور هذه الكلمات على ألسنتهم، ويظنّون أنّهم بهذا قدّموا صورة جميلة عن شيخهم، وهم في الحقيقة لم يزيدوا سوى أن عرّفوا النّاس: أنّ شيخهم هذا هو من أجهل خلق الله، وأنّ شيخهم هذا يجب أن يحجر عليه فلا يُسأل، ولا يفتي، لأنّ من شرط المفتي أن يكون بصيراً بحال أهل زمنه، عالماً بمداخل الحياة وسبلها، وإلاّ فما هو هذا العلم الّذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولم جاء العلم؟.
أجاء العلم ليكون حبيس السّراديب؟.
أم ليتمتّع به بعضهم في خلواته؟.
ومن غرائب هؤلاء الشّيوخ وعجائبهم وكذلك من غرائب تلامذتهم أنهم إذا سئلوا عن الأمور العظيمة في الحياة لم يتورّعوا أبداً في الخوض فيها بألسنتهم السّرطانية الطّويلة، وتكلّموا فيها وهم لا يدرون شيئاً، وخاضوا فيها وهم من أبعد النّاس عنها فهماً ومعرفة.
على ضوء هذا التّفكير المنحطّ، وهذا السّلوك الجاهل، أفرز في عالم المسلمين ثنائيّات لم تكن معروفة لدى الأوائل، وقد حاول بعضهم بشيء من التعالم الغثّ أن يجعل هذا من وضع الاختصاص المعاصر الذي لا بدّ منه، مع أنّ هذا الاختصاص إذا وقع فقد كلّ طرفٍ ما حمّل من خصوصيّات.
هذه الثّنائيّات هي:
أوّلاً: التّفريق بين السّياسيّ والفقيه: فالسّياسيّ عند النّاس هو البصير بأمور الحياة، القادر على تفسير أحداثها، وهو من يستشار ويسأل عن تفسير الكونيّات والوقائع، وهو كذلك من له حقّ قيادة الحياة ورعاية شئونه، وهذا من خلال ما أعطي من قدرات سياسية، وأما الفقيه فهو حبيس الكتاب ولا يسأل إلاّ فيما يخصّ الغيب، فالسّياسيّ له عالم الشّهادة، والفقيه له عالم الغيب، وهذه ثنائيّة باطلة لم تكن معروفة لدى الأوائل، بل إنّ كلمة الفقه لا تقع إلاّ إذا اجتمع أمران:
أولاهما: إدراك الحياة على ما هي عليه، ومعرفة أحداثها، وهذا من أعظم الفقه، فإنّ الله تعالى قال: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلاّ العالمون}العنكبوت، فالعالم هو من فسّر الأمور على طريقة سننيّة لها تمام الوضوح في عالم الشّهادة، ولا تغيب عنه الآخرة، فهو الجامع بينهما.
وإنّ من طامّات مشايخنا في كلامهم عن وقائع حياتنا أنهم يعتمدون على مبدأ الكشف الصّوفي، ولا ينسون أن يفتح الله عليهم بالفهم في تفسير الأحداث، وهذا كلّه باطل من القول وزور فإنّ معرفة المرء للحدث لا تقع على وجهها الصّحيح إلاّ إذا درسه دراسة عقليّة سننيّة، ونظر إليه كما هو في عالم الشّهادة، فحينئذٍ ينطلق إلى الأمر الآخر وهو :
ثانيهما: معرفة حكم الله في هذه الواقعة، أي يأتي بعد ذلك الحكم الشّرعي، ولا يمكن لأحدً أن يطلق حكماً شرعياً صحيحاً إلاّ إذا فهم الواقع فهماً صحيحاً، فالخلق أوّلاً، ثمّ الشّرع، قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين}الأعراف. وبعد أن يدرك تطابق الخلق والأمر لابدّ أن تصدر منه كلمات التّسبيح والتّعظيم والتّقديس، فيزداد يقيناً بحكمة الخالق، وتترسّخ مبادئه في حكمة الشّريعة حينئذٍ تخرج منه {تبارك الله ربّ العالمين}. صلى الله عليه وسلمفلو أننا قلنا إنّ السّياسي هو من أدرك الأمر الأوّل فقط (عالم الشّهادة) وغاب عنه الأمر الثّاني (معرفة حكم الله فيه) فإنّ هذا لن يكون سياسيّا مسلماً، وستنطلق رؤاه في التّعامل مع الأمور على مبدأ المنفعة الّتي ليس لها ضابط سوى النّظر إلى الفرديّة الذاتية، أو الشّهوة الّتي يعود مآلها إلى فساد الحياة، وإذا قلنا إنّ الفقيه هو من أدرك الحكم الشّرعي دون معرفته بوقائع الحياة على ما هي عليه فسيكون علمه هذا حبيس ذهنه وعقله، وليس له من أمر الحياة شيء، حينئذٍ سيقتصر دوره على الوعظ الكنَسيّ الّذي يحتاجه النّاس يوماً في الأسبوع لتخرج منهم زفرات الضّيق ارتقاباً بانتهاء غثائيّة الشّيخ.
وعلى هذا فإنّ الفقيه لن يكون فقيهاً في ديننا ولا يسمّى فقيهاً وعالما إلا إذا كان سياسيّاً بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى ووقع على النّفوس، وعلى الشّباب المسلم أن يسقط من حسّه ومن احترامه من يقول: إنّ من السّياسة ترك السّياسة، لأنّه حين يكون كذلك، أي حين لا يكون سياسيّا لن يكون فقيهاً بل يكون شيخ جهلٍ وتجهيل، وعلى مثل هؤلاء الشّيوخ الجهلة يعتمد الطّاغوت في إمرار باطله على النّاس، وفي إصباغ الشّرعيّة على نفسه، فشيوخنا كمخدَّرات البيوت، يلقون على أنفسهم الحجاب، ويرفع حجابهم عندما يبدأ مسرح الدّجل أمام الطّاغوت، ليقرأ عليهم نصوص الحكمة ليدلّل لهم على أنّه الوفيّ للإسلام وأهله، وإلاّ ففسّروا لنا ماذا نسمّي هذا القطيع البهيميّ الّذي يتحلّق حول الطّاغوت وقد زيّن الرّؤوس بعمائم خربة، ولم ينسَ أن يطلق شعرات الخديعة على لحيته (ولعلّه نسي أن يحلقها في ذلك اليوم لاضطرابه)، ثمّ يخرج من عنده وهو يمدح ويثني ويقسم الأيمان المغلّظة على أنّ حاكمنا هو وليّ الأمر الشّرعيّ الّذي يجب طاعته.
أهكذا يصنع الفقه بأهله؟.
أم هكذا يكون العلماء؟.
أم أنّ الفقيه كلّ الفقه هو عمر بن الخطّاب حين يقول: “لست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني”، وكذلك صاحبه حذيفة حين يقول: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن الخير وكنت أسأله عن الشّرّ مخافة أن يدركني”.
من هو الفقيه والعالم في ديننا؟.
أهذه النماذج الجاهلة التي تعيش في عصرنا أم أولئك الذين سادوا الدنيا وحكموا الوجود ؟.
إن هؤلاء الجهلة الذين لا يدرون عن الحياة وما يدور فيها، ولا يسمعون تصريحات قادتهم أمام الأعداء، ولا يعرفون شيئا عما يقال عن حركة دولهم والى أين تسير، هؤلاء من العار في ديننا، وإنّه ممّا يخجل منه أن يكونوا هم العلماء، ولو رضينا أن نطلق عليهم وصف العلم والفقه لكان هذا شتماً وقذفاً لديننا، لأنّنا علّمنا النّاس أنّ عالم هذا الدّين، وفقيه هذه الشّريعة هو جاهل الحياة، غبيّ الزّمن، ومن أجل ذلك لئن نشتم هؤلاء القوم ونخرجهم من زمرة العلماء، خير وألف خيرٍ من أن نصبغ في أذهان النّاس صورة قذرة عن الفقيه المسلم.
الثّاني: التّفريق بين المقاتل والفقيه: كنت أعجب زمناً طويلاً، لماذا يلبس هؤلاء الشّيوخ هذا الزّي الكهنوتيّ، طربوش على الرّأس (ثقيل نوعاً ما)، طيلسان (رداء فضفاض)، له أكمام تتسع لقطّة أبي هريرة رضي الله عنه كما يزعمون، لكنّي أدركت الآن شيئاً من سرّ هذا اللباس المقرف، ولعلّ من أسباب ذلك أن ينطبع في أذهان النّاس وقبل ذلك في أذهان أصحاب هذا اللباس أنّهم لا يصلحون لشيءٍ سوى الكلام.
فدور مشايخنا محصور فقط في الكلمة، ومن المستهجن الغريب أن يكون الشّيخ قائداً عسكرياً، أو مقاتلاً شديداً، فهذا محمّد الغزالي يعلن بكلّ صراحة غريبة: أنّه لا يطيق رؤية دم دجاجة وهي تذبح، لكنّه قطعاً يفرح هو وإخوانه المشايخ في رؤية الدّجاج على مائدة الطّعام.
هذه الصّورة المنكوسة للشّيوخ جعلت الشّباب يتساءلون: لماذا خلا تاريخنا من العلماء المقاتلين؟ وشبابنا على الجملة يحترمون شيخ الإسلام “ابن تيمية” - رحمه الله تعالى - لأنّهم رأوا فيه صورة العالم الفقيه المقاتل، وظنّوا أنّه لا يوجد له مثال وشبيه، وهذا خطأ فإنّ من القليل النّادر أن تجد عالماً من علمائنا الأوائل إلاّ وهو مقاتل من الدّرجة الأولى، بل إنّ بعضهم كان في مرتبة القيادة العسكرية، مثل أسد بن الفرات، وإنّ الكثير من أئمّة الحديث قد صنّفوا كتبهم، وعقدوا مجالس التّحديث في الأربطة القتاليّة، على ثغور المسلمين.
ومثل هذه الثّنائيّات الباطلة، التّفريق بين الإداريّ والفقيه، والقائد والفقيه، وغير ذلك ممّا أعطت صورة غثائيّة عن الفقيه المسلم.