بسم الله الرحمن الرحيم
ولمّا كان التّقليد هو شرّ من كلّ وجه، ويكفي أنّه يعطّل أعظم نعمة لله على عباده، وهو إطفاء نور العقل الذي يتميّز به الإنسان عن غيره، فإنّ سبيل الشّيطان في تحجيم دور الحقّ في نفوس أتباعه، ثمّ إماتته، عن طريق الخمول والكسل اللذان استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، والدعوة السّلفيّة في أصلها هي إحياء للقواعد التي أحيت في الأمّة روح البحث، وفجّرت في نفوس الأمّة عوامل البناء والنّظر المبدع، وهكذا ينبغي أن تكون، ويجب على أصحابها المحافظة عليها من عوامل الدّخن والتشويه، فالدعوة السلفيّة هي إحياء المنهج العلمي وتجريده من الشّوائب الفاسدة، والعوامل الدّخيلة، وهي كذلك تحطيم لأغلال الإرادة المعوّقة لاستقلال الإنسان في البحث والنّظر، فتجريد المنهج العلمي، يحمي المرء من الظّنّ الفاسد، والوهم الكاذب، وتحرير الإرادة يمنع المرء من الوقوع في الهوى، والهوى في أهل التّقليد هو الكسل الآمن، وهو الّذي يدفعهم إلى ربط عقولهم بِدَعَةٍ واطمئنان في أيدي غيرهم دون تمحيص ومجاهدة، وقد جمع الله تعالى الظّن والهوى في آية، وجعلهما مقابل الحقّ الّذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {إن يتّبعون إلاّ الظّن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربّهم الهدى}. صلى الله عليه وسلموقد بدأت الدّعوة السّلفيّة بكلّ قوّة في تحطيم أوهام الظّن، ومعوقات الهوى في بداية أمرها، فنشأت بوادر التّحقيق العلمي قريبا من النّص المعصوم، وبعيدا عن الآراء والاجتهادات الواهمة، وشنّت الغارة تلو الغارة على معاقل التّقليد والعصبيّة والمذهبيّة وبدأت عمليّة إحياء المنهج العلمي على صورة تطبيقات لمسائل أغلبها قد بحثت عند المتقدّمين، كتحقيق الصلاة النّبويّة الصّحيحة، وكذلك حقيقة الحجّ ومسائله، والزّكاة ومسائلها، والجنائز وما يتعلّق بها، وبدأ المرء يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه مباشرة يتعامل في أخذ الحكم الشّرعيّ، وكان ممّا دافع به بعض مشايخ السّلفيّة على هذه الاجتهادات، حين اتّهم خصوم السّلفيّة من المذهبيّين والمتعصّبين أنّ على هؤلاء المجتهدين الجدد (السّلفيين) أن يبحثوا في المسائل الجديدة الحادثة، ويجتهدوا في إعطاء الأحكام للنّوازل، لا أن يتعبوا أذهانهم، ويصرفوا جهودهم للمسائل الّتي أشبعت بحثاً.
كان جواب السّلفيين على هذه الانتقادات يقول: إنّنا نتمرّن في الاجتهاد والبحث العلمي في هذه المسائل الأولى والّتي من خلالها نترقّى في الوصول إلى عظائم المسائل ودقائق الأحكام.
وهذا جواب منطقيّ صحيح، وهو اعتراف أنّ هذه الأعمال هي تطبيقات مرحليّة وليست النّهاية ولا منتهى الطّلب.
وقد شنّ السّلفيّون غاراتهم الموفّقة على الكتب المذهبيّة، وأسقطوا عصمتها حين كشفوا للنّاس أن هذه الكتب لا تملك الدّليل المعصوم وهي في أغلبها آراء وأقوال رجال، لا يملكون العصمة في أنفسهم، بل هم عرضة للصّواب والخطأ، فأعرض طالب العلم عن كتب الآراء والفقه المجرّد عن الدّليل، وبدءوا يوجّهون قلوبهم وعقولهم إلى كتب النّصوص، أو إلى كتب الفقه المشبعة بالدّليل، وبدأت صور من المعارك نحو اكتساب الأهداف من الأطراف المتناقضة في هذه المسائل وغيرها، وبدأ الشّباب المجتهد يقيم المعارك في المساجد والجلسات واللقاءات لتحقيق المنهج السّلفيّ الصّحيح، حتّى تحقق له الكثير من المكاسب، وغنم الكثير من الأهداف، وهي مكاسب تحقّقت عن طريق المناقشات الحامية في المساجد حتّى كاد الأمر يصل إلى ما لا يحمد عقباه من رفع الأصوات والتّقاذف بالتّهم والرّمي بالجهل وعدم احترام العلماء، وكذلك تحقّقت كتب حوت أبحاثا علميّة مجرّدة إلاّ من الأحاديث، أو الاجتهادات المصاحبة للدّليل.
وفي النّهاية أوجد هذا التّيار الجديد القديم مكاناً ووجوداً وبدأت علامات الزّهوّ والغرور تستقرّ في عقله ونفسه، فبدأت الانتكاسة في نهاية الدّور الأوّل لهذا الوليد الحيّ. فما الّذي حدث لهذا التّيّار الجديد؟.
أراد هذا الوليد أن يربط المسلم بالنّص من خلال طرحه لمسائل يوميّة ملحّة عليه ويتعامل معها دوماً، فهناك صفة صلاة الرّسول صلى الله عليه وسلم كأنّك تراها، وهناك أحكام الجنائز، وهناك أحكام الحجّ، وهناك أحكام المولود، وهناك .. وهناك وهي كتب أرادت إحياء النّص ليتعامل معه المسلم مباشرة، وما إن أقبل الشّباب المسلم عليها بلهف وشوق، ولعوامل قدريّة سننيّة كان البعض من المشاركين في هذه الكتب يجني بعض المغانم المادّية، وللقاعدة المتّبعة في اتّهام الخصوم (تغيير شكل من أجل الأكل) فإنّ الفكرة ما لبثت أن ماتت في مهدها، فظهرت الكتب المذهبيّة الجديدة، والعصبيّة المتطوّرة فكتاب صفة صلاة الرّسول صلى الله عليه وسلم صار مختصر صفة صلاة الرّسول.
و قد يتوهّم سلفيّ أنّ المختصر إنّما هو الاقتصار على ذكر النّصّ الحديثيّ فقط، ولا زيادة، أي من غير ذكر الاجتهادات الخاصّة والرؤى الذّاتيّة ولكن خاب ظنّهم، بل كان المختصر هو إزالة النّص المعصوم والإبقاء على متنٍ هو خلاصة رؤى ذاتيّة واجتهادات خاصّة، ولمّا سأل سائل لم فعلتم هذا؟ كان الجواب: من أجل أن لانشغل العوامّ بما لا يعنيهم، ولتقريب الفقه إلى غمار النّاس، ومن أراد معرفة الدّليل فليرجع إلى أمّ الكتاب وأصله.
وهكذا صنعت الكتب الأخرى كأحكام الجنائز وغيرها. وعادت السّلفيّة مذهبيّة وتقليداً.
وهذه الحجج الّتي قيلت هي هي بعينها حجج أهل التّقليد الأوائل، فالإمام السّلفيّ محمّد بن إدريس الشّافعيّ حين ألّف كتابه العظيم "الأمّ" وهو كتاب فقهيّ جامع للنّصّ واجتهادات الإمام من تصحيح حديث ومن استنباط مسألة، وهو إمام عظيم كان ينهى أتباعه عن التّقليد، وبدأ تلاميذه يعلّقون على كتابه ويزيدون وينقصون، وبعد طورين أو ثلاثة من وفاة الإمام نشط بعض أتباعه بتقريب فقه الشّافعيّ للعوام، فما كان منهم إلاّ أن اجتهدوا فاختصروا الكتب بأن أبقوا على نصوص الإمام، وأزالوا الأدلّة وقالوا للنّاس ما قاله أتباع المذهب الجديد، وعلى ضوء هذا تشكّل مذهب الشّافعيّ، وهو مَنْ هو في نهي النّاس عن التّقليد، ولو استشير في زمانه أن يكتبوا رأيه بلا دليل لاستشاط غضباً، ولبيّن لهم ضلال فعلهم وصنيعهم، ومثل مذهب الشّافعي تشكّلت كثير من المذاهب الفقهيّة الأخرى من حنفي ومالكي وحنبلي إلى غير ذلك، وهم على كلّ حال تشكّلت مذاهبهم بالصّورة المقيتة بعد وفاتهم، وجزماً بعد وفاة تلامذتهم المباشرين لهم، ولكنّ مذهبيّتنا المعاصرة تشكّلت في عصر أئمّتنا ومشايخنا.
ولمّا سقطت صورة التّقديس الباطلة من نفوس الشّباب نحو الأئمّة وغرست في نفوسهم مقولة: أنّهم بشر، يخطئون ويصيبون، فصار من الأمر المعتاد، والمشاهد المألوفة أن تجد طالباً مبتدئاً أتقن مسألة علميّة وبحثها بحثاً مقبولاً أن يكتشف خطأ أبي حنيفة أو غيره من الأئمّة، فيعلن بكلّ صراحة أنّ مذهب الحنفيّة أخطأ في هذه المسألة، وهي صورة لا تنكر إن قامت على سوق صحيحة، ولكنّ مذهبيّتنا الجديدة صنعت قداسة جديدة لأئمّة محدثّين، وصار من الجرم الّذي لا يغفر، والذّنب الذي لا يتاب منه أن تقترب من حمى الشّيخ، أو أن تردّ عليه.
وقد جاهدت السّلفية الأولى أن تعمّم الفقه خارج دائرة المذاهب الأربعة فصار من العلم وسماته أن يذكر المرء رأي ابن حزم الظّاهريّ أو رأي أهل الحديث كالبخاري ومسلم، ولكنّ عباقرتنا الجدد يأبون علينا أنّ نخرج عن لفظ الأربعة، فلا رأي يقبل ولا قول يحترم إلا إذا خرج من تحت عمائم الشّيوخ "السّلفيّين" وعددهم أربعة، قد يتّفقون على اثنين أو ثلاثة ثمّ يختلفون في الباقي. هذا ما كان من أمر الظّنّ والتّقليد، أما تحرير الإرادة فلها مجال آخر.
ولمّا كان التّقليد هو شرّ من كلّ وجه، ويكفي أنّه يعطّل أعظم نعمة لله على عباده، وهو إطفاء نور العقل الذي يتميّز به الإنسان عن غيره، فإنّ سبيل الشّيطان في تحجيم دور الحقّ في نفوس أتباعه، ثمّ إماتته، عن طريق الخمول والكسل اللذان استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، والدعوة السّلفيّة في أصلها هي إحياء للقواعد التي أحيت في الأمّة روح البحث، وفجّرت في نفوس الأمّة عوامل البناء والنّظر المبدع، وهكذا ينبغي أن تكون، ويجب على أصحابها المحافظة عليها من عوامل الدّخن والتشويه، فالدعوة السلفيّة هي إحياء المنهج العلمي وتجريده من الشّوائب الفاسدة، والعوامل الدّخيلة، وهي كذلك تحطيم لأغلال الإرادة المعوّقة لاستقلال الإنسان في البحث والنّظر، فتجريد المنهج العلمي، يحمي المرء من الظّنّ الفاسد، والوهم الكاذب، وتحرير الإرادة يمنع المرء من الوقوع في الهوى، والهوى في أهل التّقليد هو الكسل الآمن، وهو الّذي يدفعهم إلى ربط عقولهم بِدَعَةٍ واطمئنان في أيدي غيرهم دون تمحيص ومجاهدة، وقد جمع الله تعالى الظّن والهوى في آية، وجعلهما مقابل الحقّ الّذي بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {إن يتّبعون إلاّ الظّن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربّهم الهدى}. صلى الله عليه وسلموقد بدأت الدّعوة السّلفيّة بكلّ قوّة في تحطيم أوهام الظّن، ومعوقات الهوى في بداية أمرها، فنشأت بوادر التّحقيق العلمي قريبا من النّص المعصوم، وبعيدا عن الآراء والاجتهادات الواهمة، وشنّت الغارة تلو الغارة على معاقل التّقليد والعصبيّة والمذهبيّة وبدأت عمليّة إحياء المنهج العلمي على صورة تطبيقات لمسائل أغلبها قد بحثت عند المتقدّمين، كتحقيق الصلاة النّبويّة الصّحيحة، وكذلك حقيقة الحجّ ومسائله، والزّكاة ومسائلها، والجنائز وما يتعلّق بها، وبدأ المرء يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه مباشرة يتعامل في أخذ الحكم الشّرعيّ، وكان ممّا دافع به بعض مشايخ السّلفيّة على هذه الاجتهادات، حين اتّهم خصوم السّلفيّة من المذهبيّين والمتعصّبين أنّ على هؤلاء المجتهدين الجدد (السّلفيين) أن يبحثوا في المسائل الجديدة الحادثة، ويجتهدوا في إعطاء الأحكام للنّوازل، لا أن يتعبوا أذهانهم، ويصرفوا جهودهم للمسائل الّتي أشبعت بحثاً.
كان جواب السّلفيين على هذه الانتقادات يقول: إنّنا نتمرّن في الاجتهاد والبحث العلمي في هذه المسائل الأولى والّتي من خلالها نترقّى في الوصول إلى عظائم المسائل ودقائق الأحكام.
وهذا جواب منطقيّ صحيح، وهو اعتراف أنّ هذه الأعمال هي تطبيقات مرحليّة وليست النّهاية ولا منتهى الطّلب.
وقد شنّ السّلفيّون غاراتهم الموفّقة على الكتب المذهبيّة، وأسقطوا عصمتها حين كشفوا للنّاس أن هذه الكتب لا تملك الدّليل المعصوم وهي في أغلبها آراء وأقوال رجال، لا يملكون العصمة في أنفسهم، بل هم عرضة للصّواب والخطأ، فأعرض طالب العلم عن كتب الآراء والفقه المجرّد عن الدّليل، وبدءوا يوجّهون قلوبهم وعقولهم إلى كتب النّصوص، أو إلى كتب الفقه المشبعة بالدّليل، وبدأت صور من المعارك نحو اكتساب الأهداف من الأطراف المتناقضة في هذه المسائل وغيرها، وبدأ الشّباب المجتهد يقيم المعارك في المساجد والجلسات واللقاءات لتحقيق المنهج السّلفيّ الصّحيح، حتّى تحقق له الكثير من المكاسب، وغنم الكثير من الأهداف، وهي مكاسب تحقّقت عن طريق المناقشات الحامية في المساجد حتّى كاد الأمر يصل إلى ما لا يحمد عقباه من رفع الأصوات والتّقاذف بالتّهم والرّمي بالجهل وعدم احترام العلماء، وكذلك تحقّقت كتب حوت أبحاثا علميّة مجرّدة إلاّ من الأحاديث، أو الاجتهادات المصاحبة للدّليل.
وفي النّهاية أوجد هذا التّيار الجديد القديم مكاناً ووجوداً وبدأت علامات الزّهوّ والغرور تستقرّ في عقله ونفسه، فبدأت الانتكاسة في نهاية الدّور الأوّل لهذا الوليد الحيّ. فما الّذي حدث لهذا التّيّار الجديد؟.
أراد هذا الوليد أن يربط المسلم بالنّص من خلال طرحه لمسائل يوميّة ملحّة عليه ويتعامل معها دوماً، فهناك صفة صلاة الرّسول صلى الله عليه وسلم كأنّك تراها، وهناك أحكام الجنائز، وهناك أحكام الحجّ، وهناك أحكام المولود، وهناك .. وهناك وهي كتب أرادت إحياء النّص ليتعامل معه المسلم مباشرة، وما إن أقبل الشّباب المسلم عليها بلهف وشوق، ولعوامل قدريّة سننيّة كان البعض من المشاركين في هذه الكتب يجني بعض المغانم المادّية، وللقاعدة المتّبعة في اتّهام الخصوم (تغيير شكل من أجل الأكل) فإنّ الفكرة ما لبثت أن ماتت في مهدها، فظهرت الكتب المذهبيّة الجديدة، والعصبيّة المتطوّرة فكتاب صفة صلاة الرّسول صلى الله عليه وسلم صار مختصر صفة صلاة الرّسول.
و قد يتوهّم سلفيّ أنّ المختصر إنّما هو الاقتصار على ذكر النّصّ الحديثيّ فقط، ولا زيادة، أي من غير ذكر الاجتهادات الخاصّة والرؤى الذّاتيّة ولكن خاب ظنّهم، بل كان المختصر هو إزالة النّص المعصوم والإبقاء على متنٍ هو خلاصة رؤى ذاتيّة واجتهادات خاصّة، ولمّا سأل سائل لم فعلتم هذا؟ كان الجواب: من أجل أن لانشغل العوامّ بما لا يعنيهم، ولتقريب الفقه إلى غمار النّاس، ومن أراد معرفة الدّليل فليرجع إلى أمّ الكتاب وأصله.
وهكذا صنعت الكتب الأخرى كأحكام الجنائز وغيرها. وعادت السّلفيّة مذهبيّة وتقليداً.
وهذه الحجج الّتي قيلت هي هي بعينها حجج أهل التّقليد الأوائل، فالإمام السّلفيّ محمّد بن إدريس الشّافعيّ حين ألّف كتابه العظيم "الأمّ" وهو كتاب فقهيّ جامع للنّصّ واجتهادات الإمام من تصحيح حديث ومن استنباط مسألة، وهو إمام عظيم كان ينهى أتباعه عن التّقليد، وبدأ تلاميذه يعلّقون على كتابه ويزيدون وينقصون، وبعد طورين أو ثلاثة من وفاة الإمام نشط بعض أتباعه بتقريب فقه الشّافعيّ للعوام، فما كان منهم إلاّ أن اجتهدوا فاختصروا الكتب بأن أبقوا على نصوص الإمام، وأزالوا الأدلّة وقالوا للنّاس ما قاله أتباع المذهب الجديد، وعلى ضوء هذا تشكّل مذهب الشّافعيّ، وهو مَنْ هو في نهي النّاس عن التّقليد، ولو استشير في زمانه أن يكتبوا رأيه بلا دليل لاستشاط غضباً، ولبيّن لهم ضلال فعلهم وصنيعهم، ومثل مذهب الشّافعي تشكّلت كثير من المذاهب الفقهيّة الأخرى من حنفي ومالكي وحنبلي إلى غير ذلك، وهم على كلّ حال تشكّلت مذاهبهم بالصّورة المقيتة بعد وفاتهم، وجزماً بعد وفاة تلامذتهم المباشرين لهم، ولكنّ مذهبيّتنا المعاصرة تشكّلت في عصر أئمّتنا ومشايخنا.
ولمّا سقطت صورة التّقديس الباطلة من نفوس الشّباب نحو الأئمّة وغرست في نفوسهم مقولة: أنّهم بشر، يخطئون ويصيبون، فصار من الأمر المعتاد، والمشاهد المألوفة أن تجد طالباً مبتدئاً أتقن مسألة علميّة وبحثها بحثاً مقبولاً أن يكتشف خطأ أبي حنيفة أو غيره من الأئمّة، فيعلن بكلّ صراحة أنّ مذهب الحنفيّة أخطأ في هذه المسألة، وهي صورة لا تنكر إن قامت على سوق صحيحة، ولكنّ مذهبيّتنا الجديدة صنعت قداسة جديدة لأئمّة محدثّين، وصار من الجرم الّذي لا يغفر، والذّنب الذي لا يتاب منه أن تقترب من حمى الشّيخ، أو أن تردّ عليه.
وقد جاهدت السّلفية الأولى أن تعمّم الفقه خارج دائرة المذاهب الأربعة فصار من العلم وسماته أن يذكر المرء رأي ابن حزم الظّاهريّ أو رأي أهل الحديث كالبخاري ومسلم، ولكنّ عباقرتنا الجدد يأبون علينا أنّ نخرج عن لفظ الأربعة، فلا رأي يقبل ولا قول يحترم إلا إذا خرج من تحت عمائم الشّيوخ "السّلفيّين" وعددهم أربعة، قد يتّفقون على اثنين أو ثلاثة ثمّ يختلفون في الباقي. هذا ما كان من أمر الظّنّ والتّقليد، أما تحرير الإرادة فلها مجال آخر.