بسم الله الرحمن الرحيم
يكثر الحديث الشيق في القرآن الكريم عن سنة إهلاك الله تعالى الكافرين، وهو حديث يرطب قلب المؤمن في صحراء الغربة القاحلة، فالمؤمن في زمن الضياع، وزمن قلة الإخوان والخلان، ونضوب القيم والفضائل، واستعلاء الباطل وغطرسته، وتبجّحه أنّه صاحب الأمر والشأن، وأنه لا رادّ لأمره، ولا فناء لملكه، أقول في هذا الزمن يكون الحديث القرآني حادي حق، وصادح أمل للنفوس العطشى، المرتقبة أمر السماء العلوي بحصول القضاء الإلهي العاجل بين المستضعفين وأعدائهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعالجات النفسية للمستضعفين في غير موطن فيه، ومنها قوله عن لوط عليه السلام لحظة استعلاء فجور قومه عليه ومراودتهم لضيوفه قال سبحانه وتعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد، قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قالوا يا لوط إنّا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} هود.
فتمعن أخي في الله إلى عبارات لوط عليه السلام وما تحمل من آلام نفسية، وما تضمر من مخبآت تبين عن هذه الغربة التي يعيشها نبي الله لوط عليه السلام.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى عنه: {وضاق بهم ذرعا}.
نعم لقد ضاقت نفسه، وذهب انبساطها، والعرب تقول ضاق بالأمر ذرعا: أي لم يطقه ولم يقو عليه.
هل رأيتم نبيا عظيما يصل إلى هذه المرحلة وإلى هذه الصورة في استقبال ضيوفه؟، والأنبياء هم الأنبياء، خلقا ودينا، كرما وشجاعة، لكنه عليه السلام: لم يطق ضيوفه، ولم يفرح لقدومهم، بل قال: {هذا يوم عصيب}.
ثم تابع الحدث حكايته، وتزداد الأزمة حبكتها بين طرفين:
الأول: يملك الحق {قوم يتطهرون} ولكنه غريب بحقه، ضعيف بأدوات مصارعته.
والثاني: الباطل بكل صلفه وخبثه، يتحدث حديث الفجور باستعلاء وإعلان: {لقد علمت مالنا في بناتك من حق}.
باطل يتحدث عن الحقوق، ويراعيها، وينبه خصمه إلى قواعد الشرعية الدستورية، ويلبس مسوح الحكماء {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} انظروا بالله عليكم إلى طريقته في الحديث، واعجبوا كيف صدرت كلمة “الحق” منه، وإلى طريقة تقرير القانون {لقد علمت}، هم أصحاب الحق والقانون، والخصم. لوط عليه السلام. نسي قواعد الحق، والباطل يذكره بها، آه وألف آه!! وصدق من قال: “كم يخيفني الشيطان عندما يذكر اسم الله تعالى”!!.
ثم تواصل القصة. كما يقول البلغاء تأزمها.
هؤلاء قوم: ليس فيهم رجل رشيد، إنهم يتحدثون عن أمور لا رشد فيها ولا عقل ومع ذلك يقولون عن كل هذا الطيش الذي يخرج من رؤوسهم حقا، هل هؤلاء القوم تردهم الكلمة؟ أو تزجرهم الموعظة؟ أو تهديهم النصيحة؟.
هنا في هذه اللحظة تخرج كلمات الأسى والغضب، تخرج هذه الكلمات كأنها الجمر تريد أن تحرق من أمامها، تخرج هذه الكلمات من فم نبي من أنبياء الله تعالى: {لو أن لي بكم قوة} ماذا ستفعل بهذه القوة يا لوط؟ هل تصلح لهم بها بنيانهم؟ هل تصلح بها اقتصادهم؟ هل تدافع بها عن أعداء قومك؟ لا وألف لا:
بل لو أن لي بكم قوة لأدوس بها رؤوسكم العفنة، لو أن لي بكم قوة لأريكم العذاب ألوانا، لو أن لي بكم قوة لصنعت بكم ما صنع خاتم الأنبياء بــ “عكل” و “عرين”، قطع أيديهم وأرجلهم وجدع أنوفهم وقطع آذانهم ثم أحمى الحديد على النار حتى احمرّ ثم كحل عيونهم به ثم رماهم في الحرة يستسقون الماء ولا يسقون، هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحكمة، بل من تمام الحكمة معهم أن تبيد خضراءهم وأن تقتلع رؤوسهم عن أكتافهم، وعلى هذا فإن الذين يظنون أن الحق لا يحتاج إلى قوة تحميه وتبيد أعداءه هم أصحاب عقول عفنة لم تفهم سياسة الدنيا والدين.
{لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} إن لوطا عليه السلام نسي. والأنبياء ينسون كما ينسى الناس وآدم من قبل قد نسي. أقول أن عليه السلام نسي أنه هو في ركن شديد، قال ابن كثير: “ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا وفي ثروة من قومه))”. ا. هـ. إن هذه العبارات التي خرجت من فم نبي الله لوط عليه السلام تدل على حالة هي أشد ما يلقى الإنسان من القهر والظلم، ولكن هل انتهى المشهد أم أن هذه بداية النهاية؟. قال تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} يوسف.
في تلك اللحظة أتصور المشهد بالصورة التالية: لوط عليه السلام يقف أمام الباب وهو ينظر إلى تلك الحيوانات البهيمية من قومه، لوط يرتجف غضبا، وحبات العرق النقية تنساب على جبهته، يداه ترتفعان حينا بالتهديد وبالإنذار، وحينا بالرجاء {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}، وأما تلك الحيوانات الإنسية فإن منظرها لن يكون إلا على الصورة التالية: سكرى يتمايلون باستهزاء وسخرية، ويهرشون أبدانهم القذرة ارتقابا بعاجل الشهوة، وليس بعيدا أنهم يحملون معهم بعض الأوراق كتب عليها “الدستور لقرية سدوم” (قرية نبي الله لوط عليه السلام)، وفي هذا الدستور مكتوب فيه: “قرر الشعب أن يختار حرية الجنس بين المتماثلين”، في هذه اللحظات التي امتدت في نفس لوط إلى ملايين السنين، ونسي كل شيء وغابت عنه أعظم الحقائق. وهو كونه يأوي إلى ركن شديد. في تلك اللحظة التي بلغت فيها الأزمة ذروتها يخرج ضيف كأنه البدر ويضرب كتف لوط قائلا له: {إنّا رسل ربك}، أي نحن ملائكة العذاب. يا الله!: جاء الفرج، جاء الفرج، وهنا أخي في الله املأ مخيلتك بمشهد لوط عليه السلام: تخيل ماذا قال؟ وتخيل ماذا فعل؟ نعم في البداية جحظت عيناه من هول المفاجأة ولم يصدق ما سمع، لكنه جزما رأى ابتسامة على وجه الملك ردّت إليه روح الأمل فصرخ: ماذا؟ ملائكة الله؟ ملائكة العذاب؟: هيا عذبوهم، اقتلوهم، أروني بهم ما يسر ويبسط نفسي ويفرح قلبي. أرجوكم الآن لأشفي قلبي منهم. لكنّ الجواب: {إن موعدهم الصبح} هذا جوابهم. قال لوط: ماذا؟ الصبح! الصبح بعيد، وكان الوقت عصرا - كما قال أهل التفسير - أريد أن أشفي قلبي منهم الآن! قال الملائكة: بل انتظر، الصبح قريب. نعم فكان ما كان: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود (أي مصنوعة في السماء) مسومة (أي مختومة بختم الصنع وإما بأسماء أصحابها) عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}، وانتهى المشهد بكل حركته وبكل عظمته، وظهر أمر الله وهم كارهون.
أخي في الله هذا الحديث القرآني يفيدنا عدة فوائد منها:
أولاً: أن الباطل لابد إلى زوال، وأن فيه عوامل الفناء والفساد، وأنه مهما طال الليل فلا بد من الصبح.
وقد جعل الله الصبح علامة مباركة لأمور عدة أهمها:
أن الصبح هو ميقات حركة الخيل المجاهدة، قال تعالى: {والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا}العاديات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر: ((الله أكبر خربت خيبر إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين)). وكما قال الله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}. فعلى الاخوة أن لا ييأسوا، ولا يستبطئوا النصر فإن لكل أجل كتاب، والصبح يأتي في موعده، ولن يطفئ نوره شيء.
ثانياً: أن الهلاك القدري بالسنن الكونية كما كان يقع في الأقوام الكافرة السابقة قد توقف، وأن الله يعذب الكافرين الآن بأيدي المؤمنين، فإذا أراد الله بقوم عذابا أغرى بهم عباده المؤمنين، فنزلوا بساحتهم. قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} القصص. قال ابن كثير في تفسيرها: “يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمّة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا المشركين.” ا. هـ. فعلى هذا فإن البديل عن ملائكة العذاب لقوم لوط هم أولئك الفتية صبح الوجوه كما قال أبو الطيب: “من طول ما التثموا مُرد”. يضربون وجوه الكفرة بأيد من حديد يتشبهون بالملائكة، فالملائكة: {غلاظ شداد} التوبة، والفتية {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} التوبة، وهم {وليجدوا فيكم غلظة} التوبة، وهم { أشدّاء على الكفار}. ورحم الله من لم يرحم الكافرين، ولا رحم الله من كان في قلبه رحمة للكافرين.
يكثر الحديث الشيق في القرآن الكريم عن سنة إهلاك الله تعالى الكافرين، وهو حديث يرطب قلب المؤمن في صحراء الغربة القاحلة، فالمؤمن في زمن الضياع، وزمن قلة الإخوان والخلان، ونضوب القيم والفضائل، واستعلاء الباطل وغطرسته، وتبجّحه أنّه صاحب الأمر والشأن، وأنه لا رادّ لأمره، ولا فناء لملكه، أقول في هذا الزمن يكون الحديث القرآني حادي حق، وصادح أمل للنفوس العطشى، المرتقبة أمر السماء العلوي بحصول القضاء الإلهي العاجل بين المستضعفين وأعدائهم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعالجات النفسية للمستضعفين في غير موطن فيه، ومنها قوله عن لوط عليه السلام لحظة استعلاء فجور قومه عليه ومراودتهم لضيوفه قال سبحانه وتعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد، قالوا لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قالوا يا لوط إنّا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب} هود.
فتمعن أخي في الله إلى عبارات لوط عليه السلام وما تحمل من آلام نفسية، وما تضمر من مخبآت تبين عن هذه الغربة التي يعيشها نبي الله لوط عليه السلام.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى عنه: {وضاق بهم ذرعا}.
نعم لقد ضاقت نفسه، وذهب انبساطها، والعرب تقول ضاق بالأمر ذرعا: أي لم يطقه ولم يقو عليه.
هل رأيتم نبيا عظيما يصل إلى هذه المرحلة وإلى هذه الصورة في استقبال ضيوفه؟، والأنبياء هم الأنبياء، خلقا ودينا، كرما وشجاعة، لكنه عليه السلام: لم يطق ضيوفه، ولم يفرح لقدومهم، بل قال: {هذا يوم عصيب}.
ثم تابع الحدث حكايته، وتزداد الأزمة حبكتها بين طرفين:
الأول: يملك الحق {قوم يتطهرون} ولكنه غريب بحقه، ضعيف بأدوات مصارعته.
والثاني: الباطل بكل صلفه وخبثه، يتحدث حديث الفجور باستعلاء وإعلان: {لقد علمت مالنا في بناتك من حق}.
باطل يتحدث عن الحقوق، ويراعيها، وينبه خصمه إلى قواعد الشرعية الدستورية، ويلبس مسوح الحكماء {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} انظروا بالله عليكم إلى طريقته في الحديث، واعجبوا كيف صدرت كلمة “الحق” منه، وإلى طريقة تقرير القانون {لقد علمت}، هم أصحاب الحق والقانون، والخصم. لوط عليه السلام. نسي قواعد الحق، والباطل يذكره بها، آه وألف آه!! وصدق من قال: “كم يخيفني الشيطان عندما يذكر اسم الله تعالى”!!.
ثم تواصل القصة. كما يقول البلغاء تأزمها.
هؤلاء قوم: ليس فيهم رجل رشيد، إنهم يتحدثون عن أمور لا رشد فيها ولا عقل ومع ذلك يقولون عن كل هذا الطيش الذي يخرج من رؤوسهم حقا، هل هؤلاء القوم تردهم الكلمة؟ أو تزجرهم الموعظة؟ أو تهديهم النصيحة؟.
هنا في هذه اللحظة تخرج كلمات الأسى والغضب، تخرج هذه الكلمات كأنها الجمر تريد أن تحرق من أمامها، تخرج هذه الكلمات من فم نبي من أنبياء الله تعالى: {لو أن لي بكم قوة} ماذا ستفعل بهذه القوة يا لوط؟ هل تصلح لهم بها بنيانهم؟ هل تصلح بها اقتصادهم؟ هل تدافع بها عن أعداء قومك؟ لا وألف لا:
بل لو أن لي بكم قوة لأدوس بها رؤوسكم العفنة، لو أن لي بكم قوة لأريكم العذاب ألوانا، لو أن لي بكم قوة لصنعت بكم ما صنع خاتم الأنبياء بــ “عكل” و “عرين”، قطع أيديهم وأرجلهم وجدع أنوفهم وقطع آذانهم ثم أحمى الحديد على النار حتى احمرّ ثم كحل عيونهم به ثم رماهم في الحرة يستسقون الماء ولا يسقون، هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحكمة، بل من تمام الحكمة معهم أن تبيد خضراءهم وأن تقتلع رؤوسهم عن أكتافهم، وعلى هذا فإن الذين يظنون أن الحق لا يحتاج إلى قوة تحميه وتبيد أعداءه هم أصحاب عقول عفنة لم تفهم سياسة الدنيا والدين.
{لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} إن لوطا عليه السلام نسي. والأنبياء ينسون كما ينسى الناس وآدم من قبل قد نسي. أقول أن عليه السلام نسي أنه هو في ركن شديد، قال ابن كثير: “ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا وفي ثروة من قومه))”. ا. هـ. إن هذه العبارات التي خرجت من فم نبي الله لوط عليه السلام تدل على حالة هي أشد ما يلقى الإنسان من القهر والظلم، ولكن هل انتهى المشهد أم أن هذه بداية النهاية؟. قال تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} يوسف.
في تلك اللحظة أتصور المشهد بالصورة التالية: لوط عليه السلام يقف أمام الباب وهو ينظر إلى تلك الحيوانات البهيمية من قومه، لوط يرتجف غضبا، وحبات العرق النقية تنساب على جبهته، يداه ترتفعان حينا بالتهديد وبالإنذار، وحينا بالرجاء {هؤلاء بناتي هن أطهر لكم}، وأما تلك الحيوانات الإنسية فإن منظرها لن يكون إلا على الصورة التالية: سكرى يتمايلون باستهزاء وسخرية، ويهرشون أبدانهم القذرة ارتقابا بعاجل الشهوة، وليس بعيدا أنهم يحملون معهم بعض الأوراق كتب عليها “الدستور لقرية سدوم” (قرية نبي الله لوط عليه السلام)، وفي هذا الدستور مكتوب فيه: “قرر الشعب أن يختار حرية الجنس بين المتماثلين”، في هذه اللحظات التي امتدت في نفس لوط إلى ملايين السنين، ونسي كل شيء وغابت عنه أعظم الحقائق. وهو كونه يأوي إلى ركن شديد. في تلك اللحظة التي بلغت فيها الأزمة ذروتها يخرج ضيف كأنه البدر ويضرب كتف لوط قائلا له: {إنّا رسل ربك}، أي نحن ملائكة العذاب. يا الله!: جاء الفرج، جاء الفرج، وهنا أخي في الله املأ مخيلتك بمشهد لوط عليه السلام: تخيل ماذا قال؟ وتخيل ماذا فعل؟ نعم في البداية جحظت عيناه من هول المفاجأة ولم يصدق ما سمع، لكنه جزما رأى ابتسامة على وجه الملك ردّت إليه روح الأمل فصرخ: ماذا؟ ملائكة الله؟ ملائكة العذاب؟: هيا عذبوهم، اقتلوهم، أروني بهم ما يسر ويبسط نفسي ويفرح قلبي. أرجوكم الآن لأشفي قلبي منهم. لكنّ الجواب: {إن موعدهم الصبح} هذا جوابهم. قال لوط: ماذا؟ الصبح! الصبح بعيد، وكان الوقت عصرا - كما قال أهل التفسير - أريد أن أشفي قلبي منهم الآن! قال الملائكة: بل انتظر، الصبح قريب. نعم فكان ما كان: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجّيل منضود (أي مصنوعة في السماء) مسومة (أي مختومة بختم الصنع وإما بأسماء أصحابها) عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}، وانتهى المشهد بكل حركته وبكل عظمته، وظهر أمر الله وهم كارهون.
أخي في الله هذا الحديث القرآني يفيدنا عدة فوائد منها:
أولاً: أن الباطل لابد إلى زوال، وأن فيه عوامل الفناء والفساد، وأنه مهما طال الليل فلا بد من الصبح.
وقد جعل الله الصبح علامة مباركة لأمور عدة أهمها:
أن الصبح هو ميقات حركة الخيل المجاهدة، قال تعالى: {والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا}العاديات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح خيبر: ((الله أكبر خربت خيبر إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين)). وكما قال الله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون، فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين}. فعلى الاخوة أن لا ييأسوا، ولا يستبطئوا النصر فإن لكل أجل كتاب، والصبح يأتي في موعده، ولن يطفئ نوره شيء.
ثانياً: أن الهلاك القدري بالسنن الكونية كما كان يقع في الأقوام الكافرة السابقة قد توقف، وأن الله يعذب الكافرين الآن بأيدي المؤمنين، فإذا أراد الله بقوم عذابا أغرى بهم عباده المؤمنين، فنزلوا بساحتهم. قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون} القصص. قال ابن كثير في تفسيرها: “يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمّة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا المشركين.” ا. هـ. فعلى هذا فإن البديل عن ملائكة العذاب لقوم لوط هم أولئك الفتية صبح الوجوه كما قال أبو الطيب: “من طول ما التثموا مُرد”. يضربون وجوه الكفرة بأيد من حديد يتشبهون بالملائكة، فالملائكة: {غلاظ شداد} التوبة، والفتية {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} التوبة، وهم {وليجدوا فيكم غلظة} التوبة، وهم { أشدّاء على الكفار}. ورحم الله من لم يرحم الكافرين، ولا رحم الله من كان في قلبه رحمة للكافرين.