مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
وبعد:
فقد كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن مساجد ضرار - التي يجب اعتزالها - وعن صفاتها وغاياتها وبواعثها، وخاض الخائضون في المسألة بعلم وبغير علم.. وجنح بعضهم إلى الإفراط والغلو والتشدد؛ فحكموا على مساجد المسلمين لظنون وشبهات واهية ضعيفة لا ترقى إلى درجة الدليل بأنها مساجد ضرار، وأن الصلاة فيها لا تجوز!
فانعكس ذلك سلباً على أخلاق وسلوك وعبادة المسلمين، فتُركت الجمعة والجماعات، وهجرت المساجد - على قلتها في بلاد الغرب - من المصلين.. حتى أصبح من المألوف على المسامع إن سألت أحدهم عن سبب هجره للمساجد والجماعات العامة - رغم مجاورته للمسجد - بأن يقول لك - بكل بساطة - إنها مساجد ضرار، لا تجوز الصلاة فيها!
ولو وقف الأمر على هجره للمساجد بنفسه لهان الخطب، ولكنه لا يكتفي بذلك حتى يشنع على غيره من إخوانه ممن لا يرى رأيه ولا يذهب مذهبه في مساجد المسلمين، فيرميه بالتخاذل والتهاون وغير ذلك من عبارات التجريح والطعن إلى أن يحمله على هجر المساجد التي هي في ظنه ضرار!
فاتسع الخرق، وعم الخطب، وازداد الخطر، واضطرب الشباب - بين مؤيد ومعارض ومتسائل - خوفاً على صحة صلاتهم وعبادتهم.. كل ذلك مما حدانا للكتابة في الموضوع وبحث المسألة بإنصاف وتجرد عن مذاهب ومشارب أهل الإفراط والتفريط، أهل الغلو والجفاء سواء، سائلين الله تعالى السداد والتوفيق.. فإن أصبت فمن الله تعالى وفضله ومنِّه الواسع، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأنا أبرأ إلى الله تعالى منه وأتوب.
أقول: مرد الحكم على الأشياء إلى الله ورسوله فقط لا غير، وهذا من لوازم وشروط صحة التوحيد والإيمان، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء: 59. وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} النساء: 65.
من هنا نجد لزاماً على أنفسنا جميعاً أن نرد المسألة المثارة للبحث إلى الكتاب والسنة، لنرى ماذا يقول فيها ربنا عز وجل وماذا يحكم في مسجد ضرار، ومن هو مسجد ضرار، وما هي صفاته ووظيفته، وما هي غاياته وبواعثه، وبالتالي على أي المساجد يمكن أن يُجرى ويسحب عليها وصف وحكم الضرار؟
قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه من قبل وليَحلفنَّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنّهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أُسس على التقوى من أول يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطَّهرين} التوبة: 107-108.
لكي يتضح المعنى جلياً لا بد من أن نذكر السبب الذي نزلت فيه هذه الآيات والأشخاص الذين نزلت فيهم.
أطبقت كتب التفسير على أن هذه الآيات نزلت في رجلٍ جند نفسه لحرب الله ورسوله، ولم يدع حرباً ضد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد شارك فيها وهو أبو عامر الراهب، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق، وكان مما فعله هذا الرجل أنه التجأ إلى هرقل ملك الروم يستنجده العون لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى أصحابه من المنافقين في المدينة وكان عددهم اثنا عشر رجلاً أن يبنوا له مسجداً ضراراً وإرصاداً؛ أي ترقباً وانتظاراً لقدومه مع جيش الروم يستخدمه كقاعدة لحرب الله ورسوله والمؤمنين، إضافة للمهام الأخرى التي ذكرتها الآية الكريمة، والتي سنأتي على بيانها - إن شاء الله - بشيء من التفصيل.
أقوال بعض أهل العلم والتفسير فيما تقدم
وإليك أقوال بعض أهل العلم والتفسير فيما تقدم:
قال ابن جرير الطبري في التفسير 6/470: (فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجداً ضراراً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفراً بالله لمحادتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا، {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل}، يقول: وإعداداً له لأبي عامر الكافر، الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما، وقاتل رسول الله، {من قبل} يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد؛ وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب لقتال رسول الله، فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذُكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم، إذا رجع إليهم، ففعلوا ذلك، وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل}.
وعن أبن عباس قوله: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً}، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوةٍ ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه: {لا تقم فيه أبداً لمسجد أُسس على التقوى من أول يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه}.
وقال - أي ابن عباس -: قوله {لمن حارب الله ورسوله} يعني رجلاً منهم يقال له أبو عامر، كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، كانوا يرون أنه سيظهر على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ورسوله.
وعن مجاهد: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} قال: المنافقون، {لمن حارب الله ورسوله}، لأبي عامر الراهب). انتهى كلام ابن جرير، والاقتباس من تفسيره.
قال ابن كثير في التفسير 2/402: (سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يُقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدمو عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان.. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشُج رأسه صلوات الله وسلامه عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يُسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة؛ وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم من أهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض اليوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس في أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد مَن هدمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله عز وجل {لا تقم فيه أبداً} إلى قوله {الظالمين} وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة وغير واحد من العلماء). انتهى.
وقال القرطبي في التفسير 8/257: ({وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه} يعني أبا عامر الراهب؛ وسُمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافراً بقِنَّسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمداً من المدينة، فبنوا مسجد الضرار). انتهى.
ونحو الذي قاله الطبري، وابن كثير، والقرطبي قاله غيرهم من أهل العلم والتفسير في كتبهم، والذي دعانا إلى هذا التفصيل النسبي في ذكر سبب نزول آيات مسجد الضرار هو أن يدرك القارئ خطورة مسجد ضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، وحجم المؤامرة الضخمة التي كانت تحاك من وراء بناء هذا المسجد المذكور، حتى إن أراد القياس عليه يحسن القياس والتقدير، وهذا أمر مهم جداً لكل من أراد أن يبحث ويدقق في شأن مساجد الضرار..
وليعرف القارئ كذلك أن الذي بنى مسجد الضرار هم المنافقون إرصاداً وترقباً لمقدم أبي عامر الكافر ومعه جند الروم ليكون لهم قاعدة ومعقلاً - كما سماه ابن كثير - ينطلقون منه لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم.. وليس أن الذي بنى المسجد هو أبو عامر كما ذُكر في بعض المقالات! والفرق بين الأمرين والنقلين من حيث الدلالة على حجم خطورة مسجد ضرار الذي استحق الهدم والحرق واضح لكل ذي بصر وبصيرة.
بواعث وغايات ومهام مسجد الضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه
تتلخص بواعث وغايات ومهام مسجد ضرار كما ذكرتها الآيات القرآنية في أربعة نقاط، وهي:
أولاً: الإضرار والضرر:
كما قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً}، فكلمة {ضراراً} جاءت بصيغة المفعول لأجله؛ أي ما حملهم على بناء المسجد شيء إلا من أجل إنزال الضرر والأذى بالمسجد المجاور لهم الذي أسس على التقوى من أول يوم من إنشائه؛ وهو مسجد قباء
وقيل هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم [1]، ولإنزال الضرر كذلك بالجماعة المسلمة المؤمنة والتي على رأسها النبي صلوات ربي وسلامه عليه.. فهم ليس لهم رغبة وهدف من وراء بناء هذا المسجد سوى الضرر والإضرار، وطلبه والسعي لتحقيقه!
ولا يُسمى الشيء ضراراً إلا إذا عُدم نفعه وكان شراً وضرراً محضاً كما هو حال مسجد ضرار المذكور، أو كان ضرره يرجح على نفعه وخيره، كالخمر والميسر.. وفي كلا الحالتين الضرر يُزال ولا يُزال بمثله أو أكثر منه.
كما في الحديث: (لا ضرر ولا ضِرار، من ضار ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه). والقاعدة الفقهية تقول: (الضرر يُزال).
وفي معنى الضرر والضِرار يقول القرطبي في التفسير 8/254: (قال بعض العلماء: الضرر الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعاً على جهة التأكيد). انتهى.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير 3/500: (ضراراً انتصب مفعولاً له، المعنى: اتخذوه للضرار.. قال المفسرون والضرار بمعنى المضارة لمسجد قباء). اهـ.
وفي روح المعاني للألوسي 11/17: (ضراراً؛ مفعول له وكذا ما بعده.. وقيل مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضراراً، والضرار طلب الضرر ومحاولته). اهـ.
ثانياً: من الغايات كذلك التي بني لأجلها مسجد ضرار الكفر بالله ورسوله، وتقوية للكفر وأهله، ومحاربة لله ولرسوله وجماعة المؤمنين:
وذلك باستخدامه كقاعدة للمنافقين ومأوى لهم يُحيكون فيه المؤامرات على الدولة المسلمة الفتية، وكذلك لكي يكون مقراً لأبي عامر الكافر ومن معه من جند الروم عندما يصلون إلى المدينة المنورة ليخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها، فهم بنوا المسجد وأرادوا منه إضافة للضرار الكفر بالله ورسوله، والانتصار للكفر وأهله، كما قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكفراً.. } فقوله: {وكفراً} معطوف على ضرار؛ أي من أجل الكفر والإلحاد والمحاربة، فهم أضمروا هذه النية الخطيرة في قلوبهم منذ اللحظة الأولى من بنائهم وتأسيسهم لمسجدهم المشؤوم.
قال البغوي في التفسير: ({وكفراً} بالله ورسوله). اهـ.
وفي روح المعاني للألوسي: ({وكفراً} أي ليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه). اهـ.
وفي فتح القدير للشوكاني 2/403: (فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. والثاني الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام؛ لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق..) اهـ.
وفي تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 11/39، أرادوا: (الكفر أو تقوية الكفر، وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك). اهـ.
ثالثاً: من البواعث والغايات التي أرادوها من وراء بنائهم لمسجد ضرار - إضافة لما تقدم - تفريق جماعة المسلمين إلى جماعات:
ليقللوا عدد الذين يجتمعوا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مسجد قباء، وفي ذلك فيه ما فيه من إضعاف للشوكة، وتشتيت للكلمة، وإبعاد للمسلمين عن التأثر والتوجيه المباشر من شخص النبي صلى الله عليه وسلم.. إضافة إلى التقليل من سواد المسلمين في الجماعة الواحدة، والذي يُعتبر ذلك - أي تكثير السواد في الجماعة الواحدة - مطلباً من مطالب الشريعة، ومقصداً هاماً من مقاصد صلاة الجماعة.
وفي قوله تعالى: {وتفريقاً بين المؤمنين}، قال الشوكاني: (لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة مالا يخفى). اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: (كانوا يصلون في مسجد قباء جميعاً، فأرادوا تفريق جماعتهم) اهـ.
وقال البغوي في التفسير: (لأنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة) اهـ.
وقال القرطبي في التفسير: ({وتفريقاً بين المؤمنين} أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقدُ الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضَر الأحقاد) [2] اهـ.
رابعاً: {وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولهَ من قبل}؛
أي ترقباً وانتظاراً لمقدم من حارب الله ورسوله من قبل أن يبنى مسجد الضرار، وهو أبو عامر الفاسق الذي جند نفسه لمحاربة الله ورسوله، وكان قد خاض الحروب العديدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبنى مسجد الضرار. والذي كان قد وعدهم ومناهم بأنه سيأتي ومعه جيش الروم ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة المنورة!
فطلب منهم تمهيداً لذلك أن يبنوا له مسجداً - في الظاهر - ليستغله كقاعدة عسكرية ينطلق منه لحرب الإسلام والمسلمين.. فهو مسجد في الظاهر، لكنه في حقيقة أمره قلعة من قلاع الحرب والمكر والكفر!
قال البغوي في التفسير: (أرسل أبو عامر الفاسق إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتِ بجندٍ من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: {وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه من قبل}، وهو أبو عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام. قوله {من قبل} يرجع إلى أبي عامر؛ يعني حارب الله ورسوله من قبل أي من قبل بناء مسجد الضرار). اهـ.
وفي زاد المسير لابن الجوزي: (الإرصاد؛ الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار). اهـ.
وقال محمد رشيد رضا في التفسير: (الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محارباً، فيجد مكاناً مرصداً له، وقوماً راصدين مستعدين للحرب معه، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصداً لذلك.
واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يُعرف بأبي عامر الراهب، وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه). اهـ.
قلت: هذا المسجد بصفاته وغاياته وأهدافه الهدامة الخطيرة - الآنفة الذكر - هو مسجد الضرار، وهو المسجد الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، ونهى عن الصلاة فيه.. فهل هكذا هي المساجد التي يشار إليها في زماننا بأنها ضرار؟!!
مسجد الضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، واعتزاله - من خلال أهدافه وغاياته وبواعثه المبينة من قبل - لم يُنشأ لغرض العبادة أو التعبد، وإنما هو في حقيقته معقلاً وقلعة عسكرية من قلاع الحرب والكفر والنفاق يُنطلق منها لحرب الله ورسوله.. فهل هكذا هي المساجد في زماننا التي يشار إليها بأنها ضرار؟!!
[1] قال ابن جرير الطبري في التفسير: (وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله). اهـ.
[2] في ذلك عظة وعبرة لكثير من الناس الذين يحرصون أن لا يصلوا إلا في مكانٍ معين ربما لا تتوفر فيه صفات المسجد الجامع، متجاوزين في ذلك الأميال الكثيرة والمساجد الجامعة عصبية لشيخ معين، أو لطريقة معينة عليها ذلك الشيخ أو المكان.. حتى أنهم يُعرفون بنسبتهم إلى ذلك الشيخ أو المكان، وفي ذلك من التفرق وبذر بذور الاختلاف والتفرق والضغائن بين المسلمين مالا يخفى على أحد.
الخلاصة وبيان الحكم
من خلال ما تقدم نقول:
أيما مسجد يكون الباعث على بنائه الغايات والأهداف الثابتة لمسجد الضرار الأول - الآنفة الذكر - أو بعضها، أو إحداها.. فهو مسجد الضرار الذي يجب اعتزاله، وعدم الصلاة فيه، لقوله تعالى: {لا تقم فيه أبداً} أي لا تقم فيه للصلاة..
ولا يكون المسجد ضراراً لمجرد اتصافه بصفات مسجد الضرار إلا إذا كانت هذه الصفات والغايات مبيتة ومضمرة قبل بناء المسجد، أما إذا بني المسجد على التقوى ثم طرأ عليه غلبة الكفر وأهله، واستغل المسجد لبعض غايات مسجد الضرار فإنه لا يُعتبر في ذلك الحين مسجد ضرار ولا يأخذ حكمه ولا اسمه، لأن العبرة في ذلك القصد والنية المبيتة الباعثة على البناء قبل البناء وليس بعده، وهذه مسألة سنعود إليها إن شاء الله.
قال ابن القيم في زاد المعاد 3/571: (لما كان بناؤه - أي مسجد ضرار - ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِع له). اهـ.
توسع لا دليل عليه
قد ألحق بعض أهل العلم - كالزمخشري وغيره! - باعثاً آخر على بناء المسجد يلحقه بوصف وحكم مسجد الضرار، وهو قصد الرياء والسمعة من بناء المسجد، فقالوا: من بنى مسجداً رياءً فحكمه حكم مسجد ضرار.. وقد تابعهم على هذا القول بعض طلاب العلم المعاصرين - ونشروه بين الناس - وقاسوا عليه قياسات باطلة، ترتب عليها إدخال ما لا يجوز إدخاله من المساجد التي بناها المسلمون على أنها مساجد ضرار!!
أقول: هذا توسع لا يصح، وهو مردود من أوجه:
منها؛ لانتفاء الدليل من الكتاب والسنة الذي يدل على أن الرياء من الصفات التي تحيل المسجد إلى وصف وحكم مسجد الضرار..
ومنها؛ أن حرمة مال المسلم - الذي منه يبنى المسجد - مصانة بأدلة محكمة من الكتاب والسنة، لا يجوز معارضة هذه الأدلة وردها وإبطالها بقول لآحاد من أهل العلم!
فمال المسلم مصان بالدليل، فكيف تنتهك حرمته بغير دليل؟!
ومنها؛ الرياء موضعه القلب لا يمكن معرفته بيقين والجزم به؛ فكم من مظهرٍ لعمله لا يكون مرائياً، وكم من مخفٍ لعمله يظهره من طرفٍ خفي يكون مرائياً عند الله تعالى، وكم من امرئٍ يترك العمل رياءً وحتى لا يقال عنه مراءٍ وهذا باب واسع لا يحيط به إلا الله تعالى.. لذا فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: (شرك السرائر.. والشرك الخفي). لحجبه عن أعين الناس وعلمهم، وربما عن صاحبه نفسه.
فإن قيل: يمكن معرفة الرياء من خلال قرائن تدل عليه!
أقول: هذه القرائن لا ترقى أن تكون ظنية، والظن لا يغني من الحق شيئاً.. والأحكام - وبخاصة منها مسألتنا هذه - لا تبنى على الظن، وليس بالظن تنتهك الحرمات، وتعتزل المساجد وتهدم وتحرق.
ومنها؛ أن المؤمن من طبعه أن تسره الحسنة، ويعجبه ثناء الصالحين عليه بالخير لأنهم هم شهداء الله في الأرض، وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، ومثل هذا السرور والرضى قد يفسر عند كثير من الناس بأنه رياء.. فيبنون على ذلك التصور الخاطئ الأحكام الجائرة، وتهجر المساجد، ويتسع الخرق إلى حد يصعب ترقيعه أو سده!
ومنها؛ أن حجة الرياء قد تكون ذريعة لكل منافق أو ضعيف الإيمان تحمله على هجر المساجد والجماعات، وربما ترك الصلاة.. فإن سألت أحدهم عن سبب تركه للجماعة وهجره للمسجد الذي قد يكون مجاوراً له، يقول لك أنا أعرف من باني هذا المسجد مالا تعرف، فقد بناه وأراد من بنائه الرياء.. وهكذا تحت ذريعة الرياء تهجر المساجد والجماعات!!
ومنها؛ انعدام الموازين التي من خلالها يضبط ويوزن ويُعرف الرياء، والتي يمكن أن تكون محل اتفاق عند جميع العقلاء.. فالعمل الذي تفسره أنت على أنه رياء، قد يفسره غيرك على أنه صدع بالحق، وأمر بالمعروف ونهي عن والمنكر.. أو هو خشوع صادق، أو عمل صادق، ومثل هذا التباين لو عمل به لأفضى إلى الفرقة والتنازع والاختلاف، وبخاصة في مسألة كمسألة مسجد الضرار.
ومنها؛ أن مثل هذا التوسع في إصدار الأحكام على المساجد بأنها ضرار ينعكس على المسلمين وأطفالهم وحياتهم سلباً، وبخاصة الذين يعيشون في أوربة والتي تُعرف بقلة المساجد فيها، حتى أن المسلمين لقلة المساجد يلجأون إلى إقامة الجمعة والجماعات في أماكن تحوَّل بعد الصلاة مباشرة إلى دور للفسق وشرب الخمر والعهر، وإحياء المنكرات!!
أيعقل في مثل هذا الواقع المؤلم الحرج أن يُضيق على العباد أكثر مما هم فيه من ضيق وعسر ويقال لهم لا يجوز لكم أن تصلوا في هذه المساجد لاحتمال شبهة وجود الرياء؟!!
لا يجوز أن تأخذوا أطفالكم إلى هذه المساجد، مع علمهم أن البديل عنها ستكون الأندية والأسواق الماجنة، ومصاحبة أقران السوء، والجلوس أمام شاشة التلفاز الساعات الطوال ليستقبلوا السموم المدمرة التي تبث إليهم عبر القنوات المحلية والفضائية!
والقاعدة الفقهية تقول: (إذا ضاقت اتسعت)، وليس إذا ضاقت ضاقت واشتدت ضيقاً وخناقاً وشدة!
والله تعالى يقول: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} الشرح: 5-6. فليس من الدين والفقه أن نُتبع العسر عسراً وشدة.. فالعسر دائماً يتبعه اليسر والسعة - من غير تفريط - إلى أن يُرفع الحرج عن الأمة والعباد.
ومنها؛ أن صلاة الجماعة وما يلحق بها من مقاصد شرعية عظيمة وهامة، إلى درجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد همَّ بأن يحرق بيوت المتخلفين عنها لولا وجود الأطفال والنساء فيها.. لا يمكن أن تعطل هذه المقاصد الشرعية كلها من أجل شبهة الرياء التي لا ترقى إلى مستوى الدليل الصحيح!!
مسائل هامة لها علاقة بالموضوع: المسألة الأولى: مسجد بني على التقوى ثم طرأت عليه صفات مسجد الضرار أو بعضها، فهل له حكم مسجد ضرار؟
المسألة الأولى: مسجد بني على التقوى ثم طرأت عليه صفات مسجد الضرار أو بعضها، فهل له حكم مسجد ضرار؟
الجواب:
المسجد الذي يؤسس على التقوى ثم تطرأ عليه بعض صفات مسجد الضرار، لا يتحول إلى مسجد ضرار، ولا يأخذ حكمه ولا وصفه.. ودليل ذلك مسجد الحرم المكي فقد أسس على التقوى والتوحيد، وعلى يد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.. ثم بعد ذلك طرأ عليه الكفر والشرك، ونصبت فيه الأوثان لتعبد من دون الله، واستغله كفار قريش كقاعدة لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه من أصحابه وغير ذلك.. فرغم كل هذا التغيير الذي طرأ على المسجد الحرام لم يحوله إلى مسجد الضرار، ولم يأخذ حكمه ولا اسمه ولا وصفه، بل كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر أصحابه أن يصلوا فيه، وكان ولا يزال، ولن يزال أفضل وأشرف بقعة على وجه الأرض يتعبد فيها لله عز وجل.
وكذلك رغم استيلاء زنادقة القرامطة على الحرم المكي لفترة طويلة وأخذهم للحجر الأسود، - كما يحدِّث بذلك ابن كثير وغيره من المؤرخين - لم يتوقف العباد والعلماء عن الصلاة فيه، وما أشار أحد من أهل العلم أن الحرم المكي قد أصبح بسبب استيلاء القرامطة عليه مسجد ضرار لا تجوز الصلاة فيه!
وحصل مثل ذلك في التاريخ البعيد والقريب الشيء الكثير لبيوت الله عز وجل وفي أماكن متعددة ومختلفة، وما أحد من أهل العلم نص على أنها أصبحت بذلك مساجد الضرار.
المسألة الثانية: مسجد يؤسس على التقوى ثم يظهر أنه يحقق ضرراً أكيداً لمسجد جامع بجواره، فهل يكون بذلك مسجد ضرار؟
المسألة الثانية: مسجد يؤسس على التقوى ثم يظهر أنه يحقق ضرراً أكيداً لمسجد جامع بجواره، فهل يكون بذلك مسجد ضرار؟
الجواب:
لا يكون مسجد ضرار؛ لأنه لم يؤسس على نية وقصد الضرر.. ولكن ذلك لا يمنع من أن يُزال الضرر المتحقق من غير زيادة ولا نقصان، لأن الضرر يُزال، ولا يُزال بمثله ولا أكثر منه.
المسألة الثالثة: هل من الممكن أن نحكم في زماننا على مساجد بأعيانها بأنها ضرار؟
المسألة الثالثة: هل من الممكن أن نحكم في زماننا على مساجد بأعيانها بأنها ضرار؟
الجواب:
نعم يمكن أن يحكم على مسجد بعينه أنه مسجد ضرار، ولكن بشرطين، هما:
أولاً: أن يتم التثبت بيقين - وليس بالظن - أن هذا المسجد كان الباعث على بنائه وقيامه
تحقيق الغايات - أو بعضها - التي بني لأجلها مسجد الضرار الأول. فإذا انتفت المقدرة على التثبت والتحقق من ذلك، أو جهلت الغاية من بناء هذا المسجد بسبب وفاة من قام على بنائه أو غير ذلك.. لا يجوز أن يُحكم عليه بأنه ضرار.
ثانياً: أن يقوم بمهمة التحري والتثبت من واقع المسجد المشار إليه ومن ثم بيان الحكم عليه
العلماء العاملين الأتقياء؛ لأن البحث في واقع المسجد - هل بني على الضرار أم لا - من الأمور الخفية التي تتعلق بالنيات والبواعث على البناء، ومن ثم الإلمام بالقرائن والأدلة الدالة على تلك البواعث والنيات.. كل ذلك وغيره يحتاج إلى بحث واجتهاد وتثبت ومعرفة دقيقة بواقع المسألة وبالأدلة الشرعية عليها. وبالتالي لا نرى لعوام الناس أن يشغلوا أنفسهم بإطلاق الأحكام على بيوت الله بأنها ضرار؛ لما يترتب على ذلك من نتائج وآثار لا تحمد عواقبها!!
فبيوت الله - يا عبد الله - لها حرمة وحق، وهي من شعائر الله التي ينبغي لها التعظيم والتوقير، وتعظيمها من تقوى القلوب وعلامة عليه، كما قال تعالى: {ذلك ومن يُعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} الحج: 30. وقال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} الحج: 32.
ثم لأن تُلقي في بيوت الله القاذورات والأوساخ، وتكون عندك موضعاً للتبرز والتبول.. لهي أهون عليك - من حيث الوزر والإثم - من أن تحكم عليها ظلماً وجهلاً بأنها ضرار!
فالأول ينتهك بعض حرمات المسجد.. بينما الآخر الذي يحكم على المسجد ظلماً وعدواناً بأنه ضرار فإنه ينتهك جميع حرماته بغير وجه حق!
المسألة الرابعة: هل يجب هدم وحرق مساجد ضرار؟
المسألة الرابعة: هل يجب هدم وحرق مساجد ضرار؟
الجواب:
مرد الأمر إلى الإمام أو من ينوب عنه من أمراء الجند والجهاد من ذوي الشوكة والقوة والمنعة، فإن رأى من المصلحة والسياسة الشرعية حرقه وهدمه يُحرق ويهدم، وإن رأى من المصلحة أن يغير صورته ويخرجه عما وضع له فله ذلك كذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: (فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له). اهـ.
قلت: وبخاصة إن كان هذا المسجد كبيراً قد كلف تشييده وبناؤه ملايين الدولارات.. فإن الإقدام على هدمه وحرقه قد يفتن الناس عن دينهم، وتحصل من جراء ذلك فتن ومضار أكبر من المفسدة التي يراد إزالتها؛ ففي مثل هذه الحالة لا شك أنه من الأحسن والأسلم أن تغير صورته ووظيفته، ويوضع لما فيه مصالح العباد والبلاد.
وفي السنة ما يدل على اعتبار ذلك: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن هدم الكعبة وبنائها
من جديد على قواعد إبراهيم عليه السلام بسبب أن أهل مكة كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي عليهم الفتنة، وأن لا يتحملوا رؤية الكعبة وهي تتهدم!
المسألة الخامسة: هل انحراف الإمام الراتب للمسجد يؤثر على المسجد ويحيله إلى مسجد ضرار؟!
المسألة الخامسة: هل انحراف الإمام الراتب للمسجد يؤثر على المسجد ويحيله إلى مسجد ضرار؟!
الجواب:
لا يتأثر المسجد بانحراف إمامه عن الحق والصواب، ولا يحيله ذلك إلى مسجد ضرار، كما لا يتأثر لو اعتاده أناس من أهل الأهواء والبدع.. حيث يبقى له وصفه وحكمه الذي أنشئ عليه من أول يوم.
فكما أن مسجد الضرار لو صلى فيه التقي وكان فيه إماماً راتباً للناس لا يرفع عنه وصف الضرار وحكمه، كذلك المسجد الذي أسس على التقوى لو صلى فيه المبتدع المنحرف كإمامٍ راتب للناس لا يرفع عنه وصفه وحكمه كبيت من بيوت الله ينبغي لها التعظيم.
لكن انحراف الإمام على نوعين:
نوع يكون فيه كافراً؛ وذلك عندما يقع في الكفر البواح من غير مانع شرعي معتبر.. فحينها يجب اعتزال الصلاة خلفه، دون اعتزال الصلاة في المسجد؛ فالصلاة خلفه لا تجوز ولا تصح، بينما صلاته في المسجد تجوز وتصح.
ونوع يكون فيه مبتدعاً فاسقاً لا يرقى به انحرافه إلى درجة الكفر البواح، ففي مثل هذه الحالة تجوز الصلاة في المسجد وخلف هذا الإمام المبتدع المنحرف [3]، وبخاصة إن خشي فوات الصلاة مع الجماعة فحينها تتعين عليه الصلاة خلفه، ولا يمنع انحرافه من ذلك.
قال ابن حزم في المحلى 3/129: (عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور، فقال له: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال له عثمان: إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم؛ وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، ونجدة: أحدهما خارجي، والثاني أفسق البرية!
وكان ابن عمر يقول: الصلاة حسنة ما أبالي من شركني فيها.
وعن ابن جريج قلت لعطاء: أرأيت إماماً يؤخر الصلاة حتى يصليها مفرطاً فيها؟ قال:
أصلي مع الجماعة أحب إلي، قلت: وإن اصفرت الشمس ولحقت برؤوس الجبال؟ قال: نعم، ما لم تغب؛ قلت لعطاء: فالإمام لا يوفي الصلاة، أعتزل الجماعة معه؟ قال: بل صل معه، وأوف ما استطعت، الجماعة أحب إلي..
وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عقبة عن أبي وائل: أنه كان يجمع مع المختار الكذاب!
وعن أبي الأشعث قال: ظهرت الخوارج علينا فسألت يحيى بن أبي كثير، فقلت: يا أبا نصر، كيف ترى في الصلاة خلف هؤلاء؟ قال: القرآن إمامك، صل معهم ما صلوها؟
وعن إبراهيم النخعي قلت لعلقمة: إمامنا لا يتم الصلاة؟ قال علقمة: لكنا نتمها؛ يعني نصلي معه ونتمها.
وعن الحسن: لا تضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاته خلف المؤمن.
وعن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: أنصلي خلف الحجاج؟ قال: إنا نصلي خلف من هو شر منه!
قال علي - أي ابن حزم -: ما نعلم أحداً من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد الله بن زياد، والحجاج؛ ولا فاسق أفسق من هؤلاء. وكل هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان). اهـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 23/343: (كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع). اهـ.
قلت: مما تقدم يُعلم فساد الأحكام والاطلاقات الجائرة التي يطلقها بعض المتسرعين من الشباب - عن جهل - على بيوت الله لمجرد علمهم بأن فيها إماماً مبتدعاً أو عنده بعض الانحرافات.. بأنها مساجد الضرار لا تجوز الصلاة فيها، فيؤدي ذلك بهم إلى ترك الجمعة والجماعات!!
[3] إذا كان الإمام من ذوي البدع والأهواء، يستحسن هجران الصلاة خلفه - من قبل ذوي الهيئات والفضل والعلم - تعزيراً وتبكيتاً له عسى أن يردعه ذلك عن انحرافه وفجوره، شريطة أن يجدوا المسجد والجماعة الأخرى الأفضل التي يمكن أن يلتحقوا بها ويصلوا الصلوات معها، فإن انعدم المسجد البديل وخشوا على أنفسهم أن تفوتهم صلات الجماعة تعين عليهم الصلاة خلفه ولا بد.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
وبعد:
فقد كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن مساجد ضرار - التي يجب اعتزالها - وعن صفاتها وغاياتها وبواعثها، وخاض الخائضون في المسألة بعلم وبغير علم.. وجنح بعضهم إلى الإفراط والغلو والتشدد؛ فحكموا على مساجد المسلمين لظنون وشبهات واهية ضعيفة لا ترقى إلى درجة الدليل بأنها مساجد ضرار، وأن الصلاة فيها لا تجوز!
فانعكس ذلك سلباً على أخلاق وسلوك وعبادة المسلمين، فتُركت الجمعة والجماعات، وهجرت المساجد - على قلتها في بلاد الغرب - من المصلين.. حتى أصبح من المألوف على المسامع إن سألت أحدهم عن سبب هجره للمساجد والجماعات العامة - رغم مجاورته للمسجد - بأن يقول لك - بكل بساطة - إنها مساجد ضرار، لا تجوز الصلاة فيها!
ولو وقف الأمر على هجره للمساجد بنفسه لهان الخطب، ولكنه لا يكتفي بذلك حتى يشنع على غيره من إخوانه ممن لا يرى رأيه ولا يذهب مذهبه في مساجد المسلمين، فيرميه بالتخاذل والتهاون وغير ذلك من عبارات التجريح والطعن إلى أن يحمله على هجر المساجد التي هي في ظنه ضرار!
فاتسع الخرق، وعم الخطب، وازداد الخطر، واضطرب الشباب - بين مؤيد ومعارض ومتسائل - خوفاً على صحة صلاتهم وعبادتهم.. كل ذلك مما حدانا للكتابة في الموضوع وبحث المسألة بإنصاف وتجرد عن مذاهب ومشارب أهل الإفراط والتفريط، أهل الغلو والجفاء سواء، سائلين الله تعالى السداد والتوفيق.. فإن أصبت فمن الله تعالى وفضله ومنِّه الواسع، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، وأنا أبرأ إلى الله تعالى منه وأتوب.
أقول: مرد الحكم على الأشياء إلى الله ورسوله فقط لا غير، وهذا من لوازم وشروط صحة التوحيد والإيمان، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء: 59. وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} النساء: 65.
من هنا نجد لزاماً على أنفسنا جميعاً أن نرد المسألة المثارة للبحث إلى الكتاب والسنة، لنرى ماذا يقول فيها ربنا عز وجل وماذا يحكم في مسجد ضرار، ومن هو مسجد ضرار، وما هي صفاته ووظيفته، وما هي غاياته وبواعثه، وبالتالي على أي المساجد يمكن أن يُجرى ويسحب عليها وصف وحكم الضرار؟
قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه من قبل وليَحلفنَّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنّهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً لمسجدٌ أُسس على التقوى من أول يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطَّهرين} التوبة: 107-108.
لكي يتضح المعنى جلياً لا بد من أن نذكر السبب الذي نزلت فيه هذه الآيات والأشخاص الذين نزلت فيهم.
أطبقت كتب التفسير على أن هذه الآيات نزلت في رجلٍ جند نفسه لحرب الله ورسوله، ولم يدع حرباً ضد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وقد شارك فيها وهو أبو عامر الراهب، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق، وكان مما فعله هذا الرجل أنه التجأ إلى هرقل ملك الروم يستنجده العون لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى أصحابه من المنافقين في المدينة وكان عددهم اثنا عشر رجلاً أن يبنوا له مسجداً ضراراً وإرصاداً؛ أي ترقباً وانتظاراً لقدومه مع جيش الروم يستخدمه كقاعدة لحرب الله ورسوله والمؤمنين، إضافة للمهام الأخرى التي ذكرتها الآية الكريمة، والتي سنأتي على بيانها - إن شاء الله - بشيء من التفصيل.
أقوال بعض أهل العلم والتفسير فيما تقدم
وإليك أقوال بعض أهل العلم والتفسير فيما تقدم:
قال ابن جرير الطبري في التفسير 6/470: (فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجداً ضراراً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفراً بالله لمحادتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا، {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل}، يقول: وإعداداً له لأبي عامر الكافر، الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما، وقاتل رسول الله، {من قبل} يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد؛ وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب لقتال رسول الله، فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذُكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم، إذا رجع إليهم، ففعلوا ذلك، وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل}.
وعن أبن عباس قوله: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً}، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدوا بما استطعتم من قوةٍ ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه: {لا تقم فيه أبداً لمسجد أُسس على التقوى من أول يومٍ أحقُّ أن تقوم فيه}.
وقال - أي ابن عباس -: قوله {لمن حارب الله ورسوله} يعني رجلاً منهم يقال له أبو عامر، كان محارباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، كانوا يرون أنه سيظهر على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكان قد خرج من المدينة محارباً لله ورسوله.
وعن مجاهد: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً} قال: المنافقون، {لمن حارب الله ورسوله}، لأبي عامر الراهب). انتهى كلام ابن جرير، والاقتباس من تفسيره.
قال ابن كثير في التفسير 2/402: (سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يُقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدمو عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان.. وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشُج رأسه صلوات الله وسلامه عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يُسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً فنالته هذه الدعوة؛ وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر الرسول في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم من أهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: (إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض اليوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس في أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد مَن هدمه قبل مقدمه المدينة، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم وأخرج محمداً وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله عز وجل {لا تقم فيه أبداً} إلى قوله {الظالمين} وكذا روي عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وقتادة وغير واحد من العلماء). انتهى.
وقال القرطبي في التفسير 8/257: ({وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه} يعني أبا عامر الراهب؛ وسُمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافراً بقِنَّسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الروم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمداً من المدينة، فبنوا مسجد الضرار). انتهى.
ونحو الذي قاله الطبري، وابن كثير، والقرطبي قاله غيرهم من أهل العلم والتفسير في كتبهم، والذي دعانا إلى هذا التفصيل النسبي في ذكر سبب نزول آيات مسجد الضرار هو أن يدرك القارئ خطورة مسجد ضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، وحجم المؤامرة الضخمة التي كانت تحاك من وراء بناء هذا المسجد المذكور، حتى إن أراد القياس عليه يحسن القياس والتقدير، وهذا أمر مهم جداً لكل من أراد أن يبحث ويدقق في شأن مساجد الضرار..
وليعرف القارئ كذلك أن الذي بنى مسجد الضرار هم المنافقون إرصاداً وترقباً لمقدم أبي عامر الكافر ومعه جند الروم ليكون لهم قاعدة ومعقلاً - كما سماه ابن كثير - ينطلقون منه لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم.. وليس أن الذي بنى المسجد هو أبو عامر كما ذُكر في بعض المقالات! والفرق بين الأمرين والنقلين من حيث الدلالة على حجم خطورة مسجد ضرار الذي استحق الهدم والحرق واضح لكل ذي بصر وبصيرة.
بواعث وغايات ومهام مسجد الضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه
تتلخص بواعث وغايات ومهام مسجد ضرار كما ذكرتها الآيات القرآنية في أربعة نقاط، وهي:
أولاً: الإضرار والضرر:
كما قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضراراً}، فكلمة {ضراراً} جاءت بصيغة المفعول لأجله؛ أي ما حملهم على بناء المسجد شيء إلا من أجل إنزال الضرر والأذى بالمسجد المجاور لهم الذي أسس على التقوى من أول يوم من إنشائه؛ وهو مسجد قباء
وقيل هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم [1]، ولإنزال الضرر كذلك بالجماعة المسلمة المؤمنة والتي على رأسها النبي صلوات ربي وسلامه عليه.. فهم ليس لهم رغبة وهدف من وراء بناء هذا المسجد سوى الضرر والإضرار، وطلبه والسعي لتحقيقه!
ولا يُسمى الشيء ضراراً إلا إذا عُدم نفعه وكان شراً وضرراً محضاً كما هو حال مسجد ضرار المذكور، أو كان ضرره يرجح على نفعه وخيره، كالخمر والميسر.. وفي كلا الحالتين الضرر يُزال ولا يُزال بمثله أو أكثر منه.
كما في الحديث: (لا ضرر ولا ضِرار، من ضار ضار الله به، ومن شاق شاق الله عليه). والقاعدة الفقهية تقول: (الضرر يُزال).
وفي معنى الضرر والضِرار يقول القرطبي في التفسير 8/254: (قال بعض العلماء: الضرر الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة. والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة. وقد قيل هما بمعنى واحد، تكلم بهما جميعاً على جهة التأكيد). انتهى.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير 3/500: (ضراراً انتصب مفعولاً له، المعنى: اتخذوه للضرار.. قال المفسرون والضرار بمعنى المضارة لمسجد قباء). اهـ.
وفي روح المعاني للألوسي 11/17: (ضراراً؛ مفعول له وكذا ما بعده.. وقيل مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضراراً، والضرار طلب الضرر ومحاولته). اهـ.
ثانياً: من الغايات كذلك التي بني لأجلها مسجد ضرار الكفر بالله ورسوله، وتقوية للكفر وأهله، ومحاربة لله ولرسوله وجماعة المؤمنين:
وذلك باستخدامه كقاعدة للمنافقين ومأوى لهم يُحيكون فيه المؤامرات على الدولة المسلمة الفتية، وكذلك لكي يكون مقراً لأبي عامر الكافر ومن معه من جند الروم عندما يصلون إلى المدينة المنورة ليخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها، فهم بنوا المسجد وأرادوا منه إضافة للضرار الكفر بالله ورسوله، والانتصار للكفر وأهله، كما قال تعالى: {والذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكفراً.. } فقوله: {وكفراً} معطوف على ضرار؛ أي من أجل الكفر والإلحاد والمحاربة، فهم أضمروا هذه النية الخطيرة في قلوبهم منذ اللحظة الأولى من بنائهم وتأسيسهم لمسجدهم المشؤوم.
قال البغوي في التفسير: ({وكفراً} بالله ورسوله). اهـ.
وفي روح المعاني للألوسي: ({وكفراً} أي ليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه). اهـ.
وفي فتح القدير للشوكاني 2/403: (فقد أخبر الله سبحانه أن الباعث لهم على بناء هذا المسجد أمور أربعة: الأول الضرار لغيرهم، وهو المضاررة. والثاني الكفر بالله والمباهاة لأهل الإسلام؛ لأنهم أرادوا ببنائه تقوية أهل النفاق..) اهـ.
وفي تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 11/39، أرادوا: (الكفر أو تقوية الكفر، وتسهيل أعماله من فعل وترك، كتمكين المنافقين من ترك الصلاة هنالك مع خفاء ذلك على المؤمنين لعدم اجتماعهم في مسجد واحد، والتشاور بينهم في الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك). اهـ.
ثالثاً: من البواعث والغايات التي أرادوها من وراء بنائهم لمسجد ضرار - إضافة لما تقدم - تفريق جماعة المسلمين إلى جماعات:
ليقللوا عدد الذين يجتمعوا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك مسجد قباء، وفي ذلك فيه ما فيه من إضعاف للشوكة، وتشتيت للكلمة، وإبعاد للمسلمين عن التأثر والتوجيه المباشر من شخص النبي صلى الله عليه وسلم.. إضافة إلى التقليل من سواد المسلمين في الجماعة الواحدة، والذي يُعتبر ذلك - أي تكثير السواد في الجماعة الواحدة - مطلباً من مطالب الشريعة، ومقصداً هاماً من مقاصد صلاة الجماعة.
وفي قوله تعالى: {وتفريقاً بين المؤمنين}، قال الشوكاني: (لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعة المسلمين، وفي ذلك من اختلاف الكلمة وبطلان الألفة مالا يخفى). اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: (كانوا يصلون في مسجد قباء جميعاً، فأرادوا تفريق جماعتهم) اهـ.
وقال البغوي في التفسير: (لأنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة) اهـ.
وقال القرطبي في التفسير: ({وتفريقاً بين المؤمنين} أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقدُ الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضَر الأحقاد) [2] اهـ.
رابعاً: {وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولهَ من قبل}؛
أي ترقباً وانتظاراً لمقدم من حارب الله ورسوله من قبل أن يبنى مسجد الضرار، وهو أبو عامر الفاسق الذي جند نفسه لمحاربة الله ورسوله، وكان قد خاض الحروب العديدة ضد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبنى مسجد الضرار. والذي كان قد وعدهم ومناهم بأنه سيأتي ومعه جيش الروم ليخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة المنورة!
فطلب منهم تمهيداً لذلك أن يبنوا له مسجداً - في الظاهر - ليستغله كقاعدة عسكرية ينطلق منه لحرب الإسلام والمسلمين.. فهو مسجد في الظاهر، لكنه في حقيقة أمره قلعة من قلاع الحرب والمكر والكفر!
قال البغوي في التفسير: (أرسل أبو عامر الفاسق إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتِ بجندٍ من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى: {وإرصاداً لمن حارب اللهَ ورسولَه من قبل}، وهو أبو عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام. قوله {من قبل} يرجع إلى أبي عامر؛ يعني حارب الله ورسوله من قبل أي من قبل بناء مسجد الضرار). اهـ.
وفي زاد المسير لابن الجوزي: (الإرصاد؛ الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار). اهـ.
وقال محمد رشيد رضا في التفسير: (الإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل اتخاذ هذا المسجد، أي الانتظار والترقب لمن حارب الله ورسوله أن يجيء محارباً، فيجد مكاناً مرصداً له، وقوماً راصدين مستعدين للحرب معه، وهم هؤلاء المنافقون الذين بنوا هذا المسجد مرصداً لذلك.
واتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد لهذا الغرض رجل من الخزرج يُعرف بأبي عامر الراهب، وعدهم بأن سيأتيهم بجيش من الروم لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه). اهـ.
قلت: هذا المسجد بصفاته وغاياته وأهدافه الهدامة الخطيرة - الآنفة الذكر - هو مسجد الضرار، وهو المسجد الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، ونهى عن الصلاة فيه.. فهل هكذا هي المساجد التي يشار إليها في زماننا بأنها ضرار؟!!
مسجد الضرار الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه، واعتزاله - من خلال أهدافه وغاياته وبواعثه المبينة من قبل - لم يُنشأ لغرض العبادة أو التعبد، وإنما هو في حقيقته معقلاً وقلعة عسكرية من قلاع الحرب والكفر والنفاق يُنطلق منها لحرب الله ورسوله.. فهل هكذا هي المساجد في زماننا التي يشار إليها بأنها ضرار؟!!
[1] قال ابن جرير الطبري في التفسير: (وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله). اهـ.
[2] في ذلك عظة وعبرة لكثير من الناس الذين يحرصون أن لا يصلوا إلا في مكانٍ معين ربما لا تتوفر فيه صفات المسجد الجامع، متجاوزين في ذلك الأميال الكثيرة والمساجد الجامعة عصبية لشيخ معين، أو لطريقة معينة عليها ذلك الشيخ أو المكان.. حتى أنهم يُعرفون بنسبتهم إلى ذلك الشيخ أو المكان، وفي ذلك من التفرق وبذر بذور الاختلاف والتفرق والضغائن بين المسلمين مالا يخفى على أحد.
الخلاصة وبيان الحكم
من خلال ما تقدم نقول:
أيما مسجد يكون الباعث على بنائه الغايات والأهداف الثابتة لمسجد الضرار الأول - الآنفة الذكر - أو بعضها، أو إحداها.. فهو مسجد الضرار الذي يجب اعتزاله، وعدم الصلاة فيه، لقوله تعالى: {لا تقم فيه أبداً} أي لا تقم فيه للصلاة..
ولا يكون المسجد ضراراً لمجرد اتصافه بصفات مسجد الضرار إلا إذا كانت هذه الصفات والغايات مبيتة ومضمرة قبل بناء المسجد، أما إذا بني المسجد على التقوى ثم طرأ عليه غلبة الكفر وأهله، واستغل المسجد لبعض غايات مسجد الضرار فإنه لا يُعتبر في ذلك الحين مسجد ضرار ولا يأخذ حكمه ولا اسمه، لأن العبرة في ذلك القصد والنية المبيتة الباعثة على البناء قبل البناء وليس بعده، وهذه مسألة سنعود إليها إن شاء الله.
قال ابن القيم في زاد المعاد 3/571: (لما كان بناؤه - أي مسجد ضرار - ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين، ومأوى للمنافقين، وكل مكان هذا شأنه، فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وُضِع له). اهـ.
توسع لا دليل عليه
قد ألحق بعض أهل العلم - كالزمخشري وغيره! - باعثاً آخر على بناء المسجد يلحقه بوصف وحكم مسجد الضرار، وهو قصد الرياء والسمعة من بناء المسجد، فقالوا: من بنى مسجداً رياءً فحكمه حكم مسجد ضرار.. وقد تابعهم على هذا القول بعض طلاب العلم المعاصرين - ونشروه بين الناس - وقاسوا عليه قياسات باطلة، ترتب عليها إدخال ما لا يجوز إدخاله من المساجد التي بناها المسلمون على أنها مساجد ضرار!!
أقول: هذا توسع لا يصح، وهو مردود من أوجه:
منها؛ لانتفاء الدليل من الكتاب والسنة الذي يدل على أن الرياء من الصفات التي تحيل المسجد إلى وصف وحكم مسجد الضرار..
ومنها؛ أن حرمة مال المسلم - الذي منه يبنى المسجد - مصانة بأدلة محكمة من الكتاب والسنة، لا يجوز معارضة هذه الأدلة وردها وإبطالها بقول لآحاد من أهل العلم!
فمال المسلم مصان بالدليل، فكيف تنتهك حرمته بغير دليل؟!
ومنها؛ الرياء موضعه القلب لا يمكن معرفته بيقين والجزم به؛ فكم من مظهرٍ لعمله لا يكون مرائياً، وكم من مخفٍ لعمله يظهره من طرفٍ خفي يكون مرائياً عند الله تعالى، وكم من امرئٍ يترك العمل رياءً وحتى لا يقال عنه مراءٍ وهذا باب واسع لا يحيط به إلا الله تعالى.. لذا فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: (شرك السرائر.. والشرك الخفي). لحجبه عن أعين الناس وعلمهم، وربما عن صاحبه نفسه.
فإن قيل: يمكن معرفة الرياء من خلال قرائن تدل عليه!
أقول: هذه القرائن لا ترقى أن تكون ظنية، والظن لا يغني من الحق شيئاً.. والأحكام - وبخاصة منها مسألتنا هذه - لا تبنى على الظن، وليس بالظن تنتهك الحرمات، وتعتزل المساجد وتهدم وتحرق.
ومنها؛ أن المؤمن من طبعه أن تسره الحسنة، ويعجبه ثناء الصالحين عليه بالخير لأنهم هم شهداء الله في الأرض، وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، ومثل هذا السرور والرضى قد يفسر عند كثير من الناس بأنه رياء.. فيبنون على ذلك التصور الخاطئ الأحكام الجائرة، وتهجر المساجد، ويتسع الخرق إلى حد يصعب ترقيعه أو سده!
ومنها؛ أن حجة الرياء قد تكون ذريعة لكل منافق أو ضعيف الإيمان تحمله على هجر المساجد والجماعات، وربما ترك الصلاة.. فإن سألت أحدهم عن سبب تركه للجماعة وهجره للمسجد الذي قد يكون مجاوراً له، يقول لك أنا أعرف من باني هذا المسجد مالا تعرف، فقد بناه وأراد من بنائه الرياء.. وهكذا تحت ذريعة الرياء تهجر المساجد والجماعات!!
ومنها؛ انعدام الموازين التي من خلالها يضبط ويوزن ويُعرف الرياء، والتي يمكن أن تكون محل اتفاق عند جميع العقلاء.. فالعمل الذي تفسره أنت على أنه رياء، قد يفسره غيرك على أنه صدع بالحق، وأمر بالمعروف ونهي عن والمنكر.. أو هو خشوع صادق، أو عمل صادق، ومثل هذا التباين لو عمل به لأفضى إلى الفرقة والتنازع والاختلاف، وبخاصة في مسألة كمسألة مسجد الضرار.
ومنها؛ أن مثل هذا التوسع في إصدار الأحكام على المساجد بأنها ضرار ينعكس على المسلمين وأطفالهم وحياتهم سلباً، وبخاصة الذين يعيشون في أوربة والتي تُعرف بقلة المساجد فيها، حتى أن المسلمين لقلة المساجد يلجأون إلى إقامة الجمعة والجماعات في أماكن تحوَّل بعد الصلاة مباشرة إلى دور للفسق وشرب الخمر والعهر، وإحياء المنكرات!!
أيعقل في مثل هذا الواقع المؤلم الحرج أن يُضيق على العباد أكثر مما هم فيه من ضيق وعسر ويقال لهم لا يجوز لكم أن تصلوا في هذه المساجد لاحتمال شبهة وجود الرياء؟!!
لا يجوز أن تأخذوا أطفالكم إلى هذه المساجد، مع علمهم أن البديل عنها ستكون الأندية والأسواق الماجنة، ومصاحبة أقران السوء، والجلوس أمام شاشة التلفاز الساعات الطوال ليستقبلوا السموم المدمرة التي تبث إليهم عبر القنوات المحلية والفضائية!
والقاعدة الفقهية تقول: (إذا ضاقت اتسعت)، وليس إذا ضاقت ضاقت واشتدت ضيقاً وخناقاً وشدة!
والله تعالى يقول: {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} الشرح: 5-6. فليس من الدين والفقه أن نُتبع العسر عسراً وشدة.. فالعسر دائماً يتبعه اليسر والسعة - من غير تفريط - إلى أن يُرفع الحرج عن الأمة والعباد.
ومنها؛ أن صلاة الجماعة وما يلحق بها من مقاصد شرعية عظيمة وهامة، إلى درجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد همَّ بأن يحرق بيوت المتخلفين عنها لولا وجود الأطفال والنساء فيها.. لا يمكن أن تعطل هذه المقاصد الشرعية كلها من أجل شبهة الرياء التي لا ترقى إلى مستوى الدليل الصحيح!!
مسائل هامة لها علاقة بالموضوع: المسألة الأولى: مسجد بني على التقوى ثم طرأت عليه صفات مسجد الضرار أو بعضها، فهل له حكم مسجد ضرار؟
المسألة الأولى: مسجد بني على التقوى ثم طرأت عليه صفات مسجد الضرار أو بعضها، فهل له حكم مسجد ضرار؟
الجواب:
المسجد الذي يؤسس على التقوى ثم تطرأ عليه بعض صفات مسجد الضرار، لا يتحول إلى مسجد ضرار، ولا يأخذ حكمه ولا وصفه.. ودليل ذلك مسجد الحرم المكي فقد أسس على التقوى والتوحيد، وعلى يد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.. ثم بعد ذلك طرأ عليه الكفر والشرك، ونصبت فيه الأوثان لتعبد من دون الله، واستغله كفار قريش كقاعدة لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه من أصحابه وغير ذلك.. فرغم كل هذا التغيير الذي طرأ على المسجد الحرام لم يحوله إلى مسجد الضرار، ولم يأخذ حكمه ولا اسمه ولا وصفه، بل كان يصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر أصحابه أن يصلوا فيه، وكان ولا يزال، ولن يزال أفضل وأشرف بقعة على وجه الأرض يتعبد فيها لله عز وجل.
وكذلك رغم استيلاء زنادقة القرامطة على الحرم المكي لفترة طويلة وأخذهم للحجر الأسود، - كما يحدِّث بذلك ابن كثير وغيره من المؤرخين - لم يتوقف العباد والعلماء عن الصلاة فيه، وما أشار أحد من أهل العلم أن الحرم المكي قد أصبح بسبب استيلاء القرامطة عليه مسجد ضرار لا تجوز الصلاة فيه!
وحصل مثل ذلك في التاريخ البعيد والقريب الشيء الكثير لبيوت الله عز وجل وفي أماكن متعددة ومختلفة، وما أحد من أهل العلم نص على أنها أصبحت بذلك مساجد الضرار.
المسألة الثانية: مسجد يؤسس على التقوى ثم يظهر أنه يحقق ضرراً أكيداً لمسجد جامع بجواره، فهل يكون بذلك مسجد ضرار؟
المسألة الثانية: مسجد يؤسس على التقوى ثم يظهر أنه يحقق ضرراً أكيداً لمسجد جامع بجواره، فهل يكون بذلك مسجد ضرار؟
الجواب:
لا يكون مسجد ضرار؛ لأنه لم يؤسس على نية وقصد الضرر.. ولكن ذلك لا يمنع من أن يُزال الضرر المتحقق من غير زيادة ولا نقصان، لأن الضرر يُزال، ولا يُزال بمثله ولا أكثر منه.
المسألة الثالثة: هل من الممكن أن نحكم في زماننا على مساجد بأعيانها بأنها ضرار؟
المسألة الثالثة: هل من الممكن أن نحكم في زماننا على مساجد بأعيانها بأنها ضرار؟
الجواب:
نعم يمكن أن يحكم على مسجد بعينه أنه مسجد ضرار، ولكن بشرطين، هما:
أولاً: أن يتم التثبت بيقين - وليس بالظن - أن هذا المسجد كان الباعث على بنائه وقيامه
تحقيق الغايات - أو بعضها - التي بني لأجلها مسجد الضرار الأول. فإذا انتفت المقدرة على التثبت والتحقق من ذلك، أو جهلت الغاية من بناء هذا المسجد بسبب وفاة من قام على بنائه أو غير ذلك.. لا يجوز أن يُحكم عليه بأنه ضرار.
ثانياً: أن يقوم بمهمة التحري والتثبت من واقع المسجد المشار إليه ومن ثم بيان الحكم عليه
العلماء العاملين الأتقياء؛ لأن البحث في واقع المسجد - هل بني على الضرار أم لا - من الأمور الخفية التي تتعلق بالنيات والبواعث على البناء، ومن ثم الإلمام بالقرائن والأدلة الدالة على تلك البواعث والنيات.. كل ذلك وغيره يحتاج إلى بحث واجتهاد وتثبت ومعرفة دقيقة بواقع المسألة وبالأدلة الشرعية عليها. وبالتالي لا نرى لعوام الناس أن يشغلوا أنفسهم بإطلاق الأحكام على بيوت الله بأنها ضرار؛ لما يترتب على ذلك من نتائج وآثار لا تحمد عواقبها!!
فبيوت الله - يا عبد الله - لها حرمة وحق، وهي من شعائر الله التي ينبغي لها التعظيم والتوقير، وتعظيمها من تقوى القلوب وعلامة عليه، كما قال تعالى: {ذلك ومن يُعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} الحج: 30. وقال تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} الحج: 32.
ثم لأن تُلقي في بيوت الله القاذورات والأوساخ، وتكون عندك موضعاً للتبرز والتبول.. لهي أهون عليك - من حيث الوزر والإثم - من أن تحكم عليها ظلماً وجهلاً بأنها ضرار!
فالأول ينتهك بعض حرمات المسجد.. بينما الآخر الذي يحكم على المسجد ظلماً وعدواناً بأنه ضرار فإنه ينتهك جميع حرماته بغير وجه حق!
المسألة الرابعة: هل يجب هدم وحرق مساجد ضرار؟
المسألة الرابعة: هل يجب هدم وحرق مساجد ضرار؟
الجواب:
مرد الأمر إلى الإمام أو من ينوب عنه من أمراء الجند والجهاد من ذوي الشوكة والقوة والمنعة، فإن رأى من المصلحة والسياسة الشرعية حرقه وهدمه يُحرق ويهدم، وإن رأى من المصلحة أن يغير صورته ويخرجه عما وضع له فله ذلك كذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: (فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم وتحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له). اهـ.
قلت: وبخاصة إن كان هذا المسجد كبيراً قد كلف تشييده وبناؤه ملايين الدولارات.. فإن الإقدام على هدمه وحرقه قد يفتن الناس عن دينهم، وتحصل من جراء ذلك فتن ومضار أكبر من المفسدة التي يراد إزالتها؛ ففي مثل هذه الحالة لا شك أنه من الأحسن والأسلم أن تغير صورته ووظيفته، ويوضع لما فيه مصالح العباد والبلاد.
وفي السنة ما يدل على اعتبار ذلك: فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن هدم الكعبة وبنائها
من جديد على قواعد إبراهيم عليه السلام بسبب أن أهل مكة كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي عليهم الفتنة، وأن لا يتحملوا رؤية الكعبة وهي تتهدم!
المسألة الخامسة: هل انحراف الإمام الراتب للمسجد يؤثر على المسجد ويحيله إلى مسجد ضرار؟!
المسألة الخامسة: هل انحراف الإمام الراتب للمسجد يؤثر على المسجد ويحيله إلى مسجد ضرار؟!
الجواب:
لا يتأثر المسجد بانحراف إمامه عن الحق والصواب، ولا يحيله ذلك إلى مسجد ضرار، كما لا يتأثر لو اعتاده أناس من أهل الأهواء والبدع.. حيث يبقى له وصفه وحكمه الذي أنشئ عليه من أول يوم.
فكما أن مسجد الضرار لو صلى فيه التقي وكان فيه إماماً راتباً للناس لا يرفع عنه وصف الضرار وحكمه، كذلك المسجد الذي أسس على التقوى لو صلى فيه المبتدع المنحرف كإمامٍ راتب للناس لا يرفع عنه وصفه وحكمه كبيت من بيوت الله ينبغي لها التعظيم.
لكن انحراف الإمام على نوعين:
نوع يكون فيه كافراً؛ وذلك عندما يقع في الكفر البواح من غير مانع شرعي معتبر.. فحينها يجب اعتزال الصلاة خلفه، دون اعتزال الصلاة في المسجد؛ فالصلاة خلفه لا تجوز ولا تصح، بينما صلاته في المسجد تجوز وتصح.
ونوع يكون فيه مبتدعاً فاسقاً لا يرقى به انحرافه إلى درجة الكفر البواح، ففي مثل هذه الحالة تجوز الصلاة في المسجد وخلف هذا الإمام المبتدع المنحرف [3]، وبخاصة إن خشي فوات الصلاة مع الجماعة فحينها تتعين عليه الصلاة خلفه، ولا يمنع انحرافه من ذلك.
قال ابن حزم في المحلى 3/129: (عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور، فقال له: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال له عثمان: إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسن الناس فأحسن معهم؛ وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
وكان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، ونجدة: أحدهما خارجي، والثاني أفسق البرية!
وكان ابن عمر يقول: الصلاة حسنة ما أبالي من شركني فيها.
وعن ابن جريج قلت لعطاء: أرأيت إماماً يؤخر الصلاة حتى يصليها مفرطاً فيها؟ قال:
أصلي مع الجماعة أحب إلي، قلت: وإن اصفرت الشمس ولحقت برؤوس الجبال؟ قال: نعم، ما لم تغب؛ قلت لعطاء: فالإمام لا يوفي الصلاة، أعتزل الجماعة معه؟ قال: بل صل معه، وأوف ما استطعت، الجماعة أحب إلي..
وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عقبة عن أبي وائل: أنه كان يجمع مع المختار الكذاب!
وعن أبي الأشعث قال: ظهرت الخوارج علينا فسألت يحيى بن أبي كثير، فقلت: يا أبا نصر، كيف ترى في الصلاة خلف هؤلاء؟ قال: القرآن إمامك، صل معهم ما صلوها؟
وعن إبراهيم النخعي قلت لعلقمة: إمامنا لا يتم الصلاة؟ قال علقمة: لكنا نتمها؛ يعني نصلي معه ونتمها.
وعن الحسن: لا تضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاته خلف المؤمن.
وعن قتادة قلت لسعيد بن المسيب: أنصلي خلف الحجاج؟ قال: إنا نصلي خلف من هو شر منه!
قال علي - أي ابن حزم -: ما نعلم أحداً من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار، وعبيد الله بن زياد، والحجاج؛ ولا فاسق أفسق من هؤلاء. وكل هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان). اهـ.
وقال ابن تيمية في الفتاوى 23/343: (كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة، ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقاً معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع). اهـ.
قلت: مما تقدم يُعلم فساد الأحكام والاطلاقات الجائرة التي يطلقها بعض المتسرعين من الشباب - عن جهل - على بيوت الله لمجرد علمهم بأن فيها إماماً مبتدعاً أو عنده بعض الانحرافات.. بأنها مساجد الضرار لا تجوز الصلاة فيها، فيؤدي ذلك بهم إلى ترك الجمعة والجماعات!!
[3] إذا كان الإمام من ذوي البدع والأهواء، يستحسن هجران الصلاة خلفه - من قبل ذوي الهيئات والفضل والعلم - تعزيراً وتبكيتاً له عسى أن يردعه ذلك عن انحرافه وفجوره، شريطة أن يجدوا المسجد والجماعة الأخرى الأفضل التي يمكن أن يلتحقوا بها ويصلوا الصلوات معها، فإن انعدم المسجد البديل وخشوا على أنفسهم أن تفوتهم صلات الجماعة تعين عليهم الصلاة خلفه ولا بد.