المسألة السادسة: هل تجوز الصلاة في المسجد المجهول الحال، خلف الإمام المجهول الحال؟
المسألة السادسة: هل تجوز الصلاة في المسجد المجهول الحال، خلف الإمام المجهول الحال؟ أو بمعنى آخر هل يجب التحري عن حقيقة المسجد قبل الصلاة فيه؛ هل بني على الضرار أم لا، وهل إمامه الراتب عقيدته صحيحة أم لا؟!
الجواب:
تجوز الصلاة في المسجد المجهول الحال، خلف الإمام المجهول الحال، ولا يجوز التحري - كشرط للصلاة - عن المسجد وغاياته وبواعثه التي بني على أساسها ولأجلها، كما لا يجوز التحري عن عقيدة الإمام واختباره بأسئلة تعرف من هو.. فهذا الصنيع يُعتبر من البدع والتكلف الذي لم يكن سلفنا الصالح يفعله أو يراه جائزاً.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 23/351: (ليس من شروط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال.
وقول القائل لا أسلم مالي إلا لمن أعرف؛ ومراده لا أصلي خلف من لا أعرف، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرف، كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام، فإن المال إذا أودعه الرجل لا لمجهول فقد يخونه فيه، وقد يضيعه. وأما الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم، كما في البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أئمتكم يصلون لكم ولهم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم"، فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم).
وقال رحمه الله 4/542: (وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم). اهـ.
قلت: إذا كان الذي يقول لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته.. هو مبتدع ضال مخالف للصحابة والتابعين وجميع أئمة المسلمين، فمن باب أولى أن يُحمل هذا الحكم والوصف على من يقول لا أصلي الجمعة والجماعة إلا في المسجد الذي أعرف عقيدة ونوايا من قاموا على بناء المسجد وتأسيسه!!
أقول: هذا القول لا يقدم عليه إلا كل متنطع مبتدع متكلف استهوته شذوذات وأهواء الخوارج الغلاة من قبل!
المسألة السابعة: مسجد يعتاده عناصر من المخابرات والجواسيس لغرض التجسس هل يكون المسجد بسبب ذلك ضراراً له أحكامه وصفاته؟
المسألة السابعة: مسجد يعتاده عناصر من المخابرات والجواسيس يعملون كأعين للطواغيت الظالمين، لغرض التجسس على عورات وأخبار المسلمين.. هل يكون المسجد بسبب ذلك ضراراً له أحكامه وصفاته؟
الجواب:
لا يعتبر المسجد بسبب ما ذكر ضراراً، لأنه لم يتأسس على معنى من معاني مسجد الضرار الأول. ولو كانت المساجد بذلك تصبح ضراراً لما سلم مسجد على وجه الأرض إلا وكان ضراراً؛ لأنه وللأسف ما من مسجد - إلا ما ندر - إلا ويعج بالجواسيس الظالمين الذين يتجسسون على المسلمين المصلين لحساب الطواغيت!!
فالمساجد لا يحكم عليها على اعتبار ما يطرأ عليها من صفات وعوامل، وإنما على اعتبار البواعث والنوايا التي بنيت وأسست عليها ابتداءً ومن أول يوم، وهذه قاعدة مطردة ينبغي إعمالها في كل مسجد يثار حوله الجدل والخلاف.
وعليه فإن بناء الجاليات المسلمة - في بلاد الغرب - المساجد للاهتمام برعاياهم وأبنائهم، والمحافظة على إسلامهم وانتمائهم لهذا الدين، وتعليمهم اللغة العربية وغير ذلك من شؤون الدين.. فهذه المساجد كلها ليست ضراراً ولا يجوز أن يُحكم عليها بأنها مساجد ضرار، لأنها أسست على معانٍ شرعية صحيحة ولم تأسس على أي معنى من المعاني التي أسس عليها مسجد الضرار الأول.
والذي يتتبع الأخبار والبرامج التي تقام في هذه المساجد يجد فيها الخير الكثير لأبناء المسلمين،
كما يجد فيها الحلقات العلمية المتنوعة والنافعة، إضافة إلى إقامة الصلوات والجماعة.. فكيف يمكن اعتبار هذه المساجد بأنها ضرار، وأنها أسست على معاني وأهداف مسجد الضرار؟!!
ونحوها المساجد التي تبنيها الجماعات والأحزاب والطوائف الإسلامية، وغيرها.. لا يجوز كذلك أن نحكم عليها "بالكوم" أنها كلها ضرار لا تجوز الصلاة فيها، من دون النظر والتدقيق في البواعث والغايات من إنشاء كل مسجد من تلك المساجد، وهل منها شيء بني على ما بني عليه ولأجله مسجد الضرار الأول؟!
فليس من العلم ولا الفقه ولا التقوى والورع أن يقال ويشار إلى هذه المساجد كلها لكون القائمين عليها جاليات، وأحزاب، وجماعات إسلامية.. بأنها ضرار؟!!
كما أنه ليس من الظن الحسن الذي يجب أن يكون بالمسلمين، وبخاصة منهم الجماعات العاملة للإسلام.. أن يفترض فيهم ابتداءً أنهم يبنون مساجدهم من أجل الغايات والأهداف الهدامة والخطيرة التي بني لأجلها مسجد الضرار الأول.. فالظن فيهم ابتداءً ذلك يخرجهم عن كونهم ووصفهم جماعات تعمل للإسلام.. وهذا لا شك أنه من البغي والظلم والتعسف الذي لا تحمد عقباه ونتائجه.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات: 12. وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} النجم: 23.
المسألة الثامنة: هل تدخل الكنائس والبيع وغيرها من معابد المشركين في حكم الضرار؛ بحيث لا تجوز الصلاة فيها؟
المسألة الثامنة: هل تدخل الكنائس والبيع وغيرها من معابد المشركين في حكم الضرار؛ بحيث لا تجوز الصلاة فيها؟
الجواب:
مما خص الله به هذه الأمة أن جعل لها الأرض كلها طهوراً ومسجداً تصلح للسجود والصلاة إلا بعض المواضع استثنتها النصوص لا تجوز الصلاة فيها.
ولما الكنائس لم تبنى على قصد الضرار، ولم يأت النص الذي يفيد تحريم الصلاة فيها، نقول: يجوز الصلاة في الكنائس والبيع وغيرها من المعابد ما اجتنبت الأصنام والصلبان والتماثيل، والقبور التي تعبد فيها من دون الله تعالى، وهذا أمر لا يُعلم فيه خلاف بين أهل العلم.
قال ابن حزم في المحلى 2/400: (الصلاة في البيعة، والكنيسة، وبيت النار، والمجزرة - ما اجتنب البول والفرث والدم - وعلى قارعة الطريق، وبطن الوادي، ومواضع الخسف، وإلى البعير والناقة، وللتحدث، والنيام وفي كل موضع جائزة، ما لم يأت نص أو إجماع متيقن في تحريم الصلاة في مكان ما؛ فيوقف عند النهي في ذلك.
عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله، أي المساجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد" متفق عليه.
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة، وجابر، وحذيفة، وأنس: أن من فضائلنا أن الأرض جُعلت لنا مسجداً.
وكل ما ذكرنا من الأرض، فالصلاة فيه جائزة، حاشا ما جاء النص من المنع من الصلاة فيه: كعطن الإبل، والحمام، والمقبرة، وإلى قبر وعليه، والمكان المغصوب، والنجس، ومسجد الضرار فقط) [4]. اهـ.
وقال القرطبي في كتابه الجامع 8/255: (الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على الشر؛ وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا - أي الكنيسة ومسجد الضرار من حيث الحكم والباعث على البناء -
وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضعٍ طاهر أن صلاته ماضية جائزة، وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل.
وذكر أبو داود عن عثمان بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم). اهـ. أي حيث كانت أصنامهم التي تعبد من دون الله تعالى، وذلك بعد إزالتها وتطهير الأرض من رجسها.
قلت: إذا كانت الكنائس والبيع القائمة على الشرك لا تدخل في حكم ووصف مسجد الضرار، فكيف يليق بهؤلاء المتسرعين أن يطلقوا أحكامهم الجائرة على مساجد يُعبد فيها الله تعالى وحده، وتقام فيها الصلوات والجماعات، وغير ذلك مما ينفع المسلمين وأطفالهم.. بأنها مساجد ضرار من غير بينة أو دليل سوى الجهل والظن؟!!
[4] يمكن مراجعة الأدلة التي تفيد تحريم الصلاة في هذه المواضع في كتاب المحلى لابن حزم، وغيره من كتب الفقه.
المسألة التاسعة: ما هي آثار الجرأة على بيوت الله تعالى والحكم عليها ظلماً وعدواناً بأنها ضرار؟!
المسألة التاسعة: ما هي آثار الجرأة على بيوت الله تعالى والحكم عليها ظلماً وعدواناً بأنها ضرار؟!
الجواب:
لا شك أن رمي بيوت الله ظلماً وعدواناً بأنها ضرار يترتب عليه آثار ونتائج خطيرة جداً، منها:
أولاً: ما ذكرناه من قبل من أنه يفضي إلى انتهاك جميع حرمات المسجد؛ بحيث تكون المزابل والأماكن التي تلقى فيها القمامات أشرف عنده وأفضل من المساجد - أحب الأماكن إلى الله تعالى وهو بذلك يُحمل عليه قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُه وسعى في خرابها} البقرة: 114. فهو يسعى في خرابها علم بذلك أم لم يعلم.
ثانياً: مؤداه إلى هجر الناس للمساجد، وتركها للجمعة والجماعة في هذه المساجد الجامعة، فينعكس ذلك سلباً على دينهم وسلوكهم وأخلاقهم، وعبادتهم!
ثالثاً: حرمان الأطفال الاستفادة من البرامج المتنوعة والعديدة النافعة لهم الموجودة في تلك المساجد، رغم حاجتهم الماسة لها وبخاصة الأطفال الذين يعيشون في ديار الغرب، والذي أكثرهم قد فقد اللغة العربية، فضلاً عن الجوانب الدينية الأخرى!
فيكون البديل لهؤلاء الأطفال الشوارع الفاسقة، والأندية الماجنة، والمكث الطويل أمام شاشات التلفاز المدمرة للخلق والقيم، فيشب الطفل ليصبح عدواً شرساً ضد دينه وأمته!
رابعاً: مؤداه إلى الفتنة ودب الفرقة والاختلاف بين المسلمين.. فما يراه فلان ضراراً يراه غيره على أنه بيت من بيوت الله تعالى يستحق التعظيم والتوقير!
وما يراه فلان على أنه مسجد ضرار يجب هجره وهدمه وحرقه.. يرى الآخر أنه بيت من بيوت الله تعالى التي تقام فيه الصلوات والجمعة والجماعات، وهو رمز من رموز الإسلام التي يجب الذود عنها بالغالي والنفيس!
وهكذا فالناس ينقسمون إلى فريقين وربما إلى فِرَق متعددة كلها مختلفة فيما بينها متناحرة ومتدابرة، هل هذا المسجد ضرار أم أنه غير ضرار، هل له حرمة المساجد أم ليس له، وهكذا!
فمن غايات إزالة مساجد الضرار إزالة الفرقة وتحقيق الألفة والمحبة بين المسلمين المؤمنين.. وهنا بسبب الأحكام الجائرة على بيوت الله بأنها ضرار يتحقق خلاف ذلك.. فأين المصلحة من وراء هذه الأحكام الجائرة، ومن المستفيد منها، وفي خدمة من تصب؟!!
خامساً: مؤداه إلى رمي الإخوان ورشق بعضهم البعض بعبارات التضليل والتبديع والتفسيق.. فالذي يرى المسجد أنه ضرار يرمي المخالف له بالتفريط وأنه من أهل مسجد الضرار، وأنه جاهل لا يعرف أحكام مساجد ضرار، وأنه يكثر سواد أهل الضرار، ويعينهم على الضرار.. وغير ذلك من قائمة الاتهامات الجارحة التي لا تكاد تنتهي.
وكذلك الذي لا يرى المسجد أنه ضرار لا يقصر في حق مخالفيه فيطلق بحقهم عبارات التبديع والتجهيل، والغلو وغير ذلك.. وهذا كله له ما له من نتائج سلبية قاتلة تنعكس على صفاء القلوب، بل وعلى العمل الإسلامي برمته، فتأمل!!
سادساً: ينتاب الذين يرون المساجد على أنها ضرار شعور شيطاني يميزهم عن بقية الناس؛ فهم عرفوا مالم يعرفه غيرهم، وهم أشد حرصاً على التمسك بتعاليم الدين التي جهلها غيرهم، وهم كذلك أكثر من غيرهم كفراً بالطاغوت، وهم وهم.. وهذا كله له لذة في النفوس الضعيفة القاصرة يحدثها لهم الشيطان ويزينها ويزخرفها، ليوقعهم بالغرور والكبر والترفع على إخوانهم.. فيأتون بحسنة بزعمهم، ليأتوا مقابلها بسيئات مضاعفة!!
فالإفراط والتفريط كلاهما لهما لذة في النفوس الضعيفة مبعثها الشيطان.. ومن لا يفلح الشيطان معه من جهة الإفراط والغلو يأتيه من جهة التفريط والجفاء، فأهل الإفراط والغلو يصور لهم الشيطان أن بيدهم مفاتيح النار يمكن أن يدخلوا فيها من يشاءون ممن يخالفهم أو يخالف اعتقادهم، وأنهم كذلك بجرة قلم يمكن أن يحولوا المسجد إلى ضرار يمنعون الناس من دخوله ومن التعبد فيه.. فهم يملكون عصا التكفير والتخليد في النار يخوفون بها العباد ويهزونها لكل مخالف لا يروق لهم؛ وفي ذلك تحصل لهم نشوة لا تعلوها نشوة، وبخاصة إذا لاحظوا أن الناس الجهلاء يخشونهم ويرجون منهم أن لا يكفروهم أو يخلدوهم في نار جهنم!!
أما أهل التفريط والجفاء والإرجاء فهم على عكس ذلك حيث يصور لهم الشيطان أن مفاتيح الجنة بيدهم، وأنهم بإمكانهم أن يدخلوا من يشاءوا من العباد في الجنة، وفي رحمة الله عز وجل، وبخاصة إذا وجدوا الجهلاء من الناس يرجونهم - بالعطايا السخية وغير ذلك - أن يخلدوهم في الجنة وأن يحكموا لهم أنهم من أهلها بيقين، وأن يحدثوهم عن رحمة الله التي تسعهم وتسع ذنوبهم، وأنهم مغفور لهم بيقين.. فهذا كذلك يحدث لديهم نشوة عظيمة توازي نشوة إخوانهم من أهل الغلو والتفريط نعوذ بالله منها ومن أهلها ومن نشواتهم الشيطانية.. ونبرأ إلى الله تعالى من أهل الإفراط والتفريط سواء، ومن شذوذاتهم وانحرافاتهم، وأخلاقهم، ومن أن نتألى عليه تعالى بشيء بغير علم.. كما ونسأله تعالى أن يلهمنا الوسطية الحنيفية السمحة ملة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، إنه تعالى سميع قريب مجيب.
وصلى الله على سيدنا ونبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير | 1/5/1421 هـ]
المسألة السادسة: هل تجوز الصلاة في المسجد المجهول الحال، خلف الإمام المجهول الحال؟ أو بمعنى آخر هل يجب التحري عن حقيقة المسجد قبل الصلاة فيه؛ هل بني على الضرار أم لا، وهل إمامه الراتب عقيدته صحيحة أم لا؟!
الجواب:
تجوز الصلاة في المسجد المجهول الحال، خلف الإمام المجهول الحال، ولا يجوز التحري - كشرط للصلاة - عن المسجد وغاياته وبواعثه التي بني على أساسها ولأجلها، كما لا يجوز التحري عن عقيدة الإمام واختباره بأسئلة تعرف من هو.. فهذا الصنيع يُعتبر من البدع والتكلف الذي لم يكن سلفنا الصالح يفعله أو يراه جائزاً.
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى 23/351: (ليس من شروط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول: ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف مستور الحال.
وقول القائل لا أسلم مالي إلا لمن أعرف؛ ومراده لا أصلي خلف من لا أعرف، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرف، كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام، فإن المال إذا أودعه الرجل لا لمجهول فقد يخونه فيه، وقد يضيعه. وأما الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم، كما في البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أئمتكم يصلون لكم ولهم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم"، فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم).
وقال رحمه الله 4/542: (وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال: لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم). اهـ.
قلت: إذا كان الذي يقول لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته.. هو مبتدع ضال مخالف للصحابة والتابعين وجميع أئمة المسلمين، فمن باب أولى أن يُحمل هذا الحكم والوصف على من يقول لا أصلي الجمعة والجماعة إلا في المسجد الذي أعرف عقيدة ونوايا من قاموا على بناء المسجد وتأسيسه!!
أقول: هذا القول لا يقدم عليه إلا كل متنطع مبتدع متكلف استهوته شذوذات وأهواء الخوارج الغلاة من قبل!
المسألة السابعة: مسجد يعتاده عناصر من المخابرات والجواسيس لغرض التجسس هل يكون المسجد بسبب ذلك ضراراً له أحكامه وصفاته؟
المسألة السابعة: مسجد يعتاده عناصر من المخابرات والجواسيس يعملون كأعين للطواغيت الظالمين، لغرض التجسس على عورات وأخبار المسلمين.. هل يكون المسجد بسبب ذلك ضراراً له أحكامه وصفاته؟
الجواب:
لا يعتبر المسجد بسبب ما ذكر ضراراً، لأنه لم يتأسس على معنى من معاني مسجد الضرار الأول. ولو كانت المساجد بذلك تصبح ضراراً لما سلم مسجد على وجه الأرض إلا وكان ضراراً؛ لأنه وللأسف ما من مسجد - إلا ما ندر - إلا ويعج بالجواسيس الظالمين الذين يتجسسون على المسلمين المصلين لحساب الطواغيت!!
فالمساجد لا يحكم عليها على اعتبار ما يطرأ عليها من صفات وعوامل، وإنما على اعتبار البواعث والنوايا التي بنيت وأسست عليها ابتداءً ومن أول يوم، وهذه قاعدة مطردة ينبغي إعمالها في كل مسجد يثار حوله الجدل والخلاف.
وعليه فإن بناء الجاليات المسلمة - في بلاد الغرب - المساجد للاهتمام برعاياهم وأبنائهم، والمحافظة على إسلامهم وانتمائهم لهذا الدين، وتعليمهم اللغة العربية وغير ذلك من شؤون الدين.. فهذه المساجد كلها ليست ضراراً ولا يجوز أن يُحكم عليها بأنها مساجد ضرار، لأنها أسست على معانٍ شرعية صحيحة ولم تأسس على أي معنى من المعاني التي أسس عليها مسجد الضرار الأول.
والذي يتتبع الأخبار والبرامج التي تقام في هذه المساجد يجد فيها الخير الكثير لأبناء المسلمين،
كما يجد فيها الحلقات العلمية المتنوعة والنافعة، إضافة إلى إقامة الصلوات والجماعة.. فكيف يمكن اعتبار هذه المساجد بأنها ضرار، وأنها أسست على معاني وأهداف مسجد الضرار؟!!
ونحوها المساجد التي تبنيها الجماعات والأحزاب والطوائف الإسلامية، وغيرها.. لا يجوز كذلك أن نحكم عليها "بالكوم" أنها كلها ضرار لا تجوز الصلاة فيها، من دون النظر والتدقيق في البواعث والغايات من إنشاء كل مسجد من تلك المساجد، وهل منها شيء بني على ما بني عليه ولأجله مسجد الضرار الأول؟!
فليس من العلم ولا الفقه ولا التقوى والورع أن يقال ويشار إلى هذه المساجد كلها لكون القائمين عليها جاليات، وأحزاب، وجماعات إسلامية.. بأنها ضرار؟!!
كما أنه ليس من الظن الحسن الذي يجب أن يكون بالمسلمين، وبخاصة منهم الجماعات العاملة للإسلام.. أن يفترض فيهم ابتداءً أنهم يبنون مساجدهم من أجل الغايات والأهداف الهدامة والخطيرة التي بني لأجلها مسجد الضرار الأول.. فالظن فيهم ابتداءً ذلك يخرجهم عن كونهم ووصفهم جماعات تعمل للإسلام.. وهذا لا شك أنه من البغي والظلم والتعسف الذي لا تحمد عقباه ونتائجه.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات: 12. وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} النجم: 23.
المسألة الثامنة: هل تدخل الكنائس والبيع وغيرها من معابد المشركين في حكم الضرار؛ بحيث لا تجوز الصلاة فيها؟
المسألة الثامنة: هل تدخل الكنائس والبيع وغيرها من معابد المشركين في حكم الضرار؛ بحيث لا تجوز الصلاة فيها؟
الجواب:
مما خص الله به هذه الأمة أن جعل لها الأرض كلها طهوراً ومسجداً تصلح للسجود والصلاة إلا بعض المواضع استثنتها النصوص لا تجوز الصلاة فيها.
ولما الكنائس لم تبنى على قصد الضرار، ولم يأت النص الذي يفيد تحريم الصلاة فيها، نقول: يجوز الصلاة في الكنائس والبيع وغيرها من المعابد ما اجتنبت الأصنام والصلبان والتماثيل، والقبور التي تعبد فيها من دون الله تعالى، وهذا أمر لا يُعلم فيه خلاف بين أهل العلم.
قال ابن حزم في المحلى 2/400: (الصلاة في البيعة، والكنيسة، وبيت النار، والمجزرة - ما اجتنب البول والفرث والدم - وعلى قارعة الطريق، وبطن الوادي، ومواضع الخسف، وإلى البعير والناقة، وللتحدث، والنيام وفي كل موضع جائزة، ما لم يأت نص أو إجماع متيقن في تحريم الصلاة في مكان ما؛ فيوقف عند النهي في ذلك.
عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله، أي المساجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم حيثما أدركتك الصلاة فصل، فهو مسجد" متفق عليه.
وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي هريرة، وجابر، وحذيفة، وأنس: أن من فضائلنا أن الأرض جُعلت لنا مسجداً.
وكل ما ذكرنا من الأرض، فالصلاة فيه جائزة، حاشا ما جاء النص من المنع من الصلاة فيه: كعطن الإبل، والحمام، والمقبرة، وإلى قبر وعليه، والمكان المغصوب، والنجس، ومسجد الضرار فقط) [4]. اهـ.
وقال القرطبي في كتابه الجامع 8/255: (الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على الشر؛ وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا - أي الكنيسة ومسجد الضرار من حيث الحكم والباعث على البناء -
وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضعٍ طاهر أن صلاته ماضية جائزة، وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل.
وذكر أبو داود عن عثمان بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم). اهـ. أي حيث كانت أصنامهم التي تعبد من دون الله تعالى، وذلك بعد إزالتها وتطهير الأرض من رجسها.
قلت: إذا كانت الكنائس والبيع القائمة على الشرك لا تدخل في حكم ووصف مسجد الضرار، فكيف يليق بهؤلاء المتسرعين أن يطلقوا أحكامهم الجائرة على مساجد يُعبد فيها الله تعالى وحده، وتقام فيها الصلوات والجماعات، وغير ذلك مما ينفع المسلمين وأطفالهم.. بأنها مساجد ضرار من غير بينة أو دليل سوى الجهل والظن؟!!
[4] يمكن مراجعة الأدلة التي تفيد تحريم الصلاة في هذه المواضع في كتاب المحلى لابن حزم، وغيره من كتب الفقه.
المسألة التاسعة: ما هي آثار الجرأة على بيوت الله تعالى والحكم عليها ظلماً وعدواناً بأنها ضرار؟!
المسألة التاسعة: ما هي آثار الجرأة على بيوت الله تعالى والحكم عليها ظلماً وعدواناً بأنها ضرار؟!
الجواب:
لا شك أن رمي بيوت الله ظلماً وعدواناً بأنها ضرار يترتب عليه آثار ونتائج خطيرة جداً، منها:
أولاً: ما ذكرناه من قبل من أنه يفضي إلى انتهاك جميع حرمات المسجد؛ بحيث تكون المزابل والأماكن التي تلقى فيها القمامات أشرف عنده وأفضل من المساجد - أحب الأماكن إلى الله تعالى وهو بذلك يُحمل عليه قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُه وسعى في خرابها} البقرة: 114. فهو يسعى في خرابها علم بذلك أم لم يعلم.
ثانياً: مؤداه إلى هجر الناس للمساجد، وتركها للجمعة والجماعة في هذه المساجد الجامعة، فينعكس ذلك سلباً على دينهم وسلوكهم وأخلاقهم، وعبادتهم!
ثالثاً: حرمان الأطفال الاستفادة من البرامج المتنوعة والعديدة النافعة لهم الموجودة في تلك المساجد، رغم حاجتهم الماسة لها وبخاصة الأطفال الذين يعيشون في ديار الغرب، والذي أكثرهم قد فقد اللغة العربية، فضلاً عن الجوانب الدينية الأخرى!
فيكون البديل لهؤلاء الأطفال الشوارع الفاسقة، والأندية الماجنة، والمكث الطويل أمام شاشات التلفاز المدمرة للخلق والقيم، فيشب الطفل ليصبح عدواً شرساً ضد دينه وأمته!
رابعاً: مؤداه إلى الفتنة ودب الفرقة والاختلاف بين المسلمين.. فما يراه فلان ضراراً يراه غيره على أنه بيت من بيوت الله تعالى يستحق التعظيم والتوقير!
وما يراه فلان على أنه مسجد ضرار يجب هجره وهدمه وحرقه.. يرى الآخر أنه بيت من بيوت الله تعالى التي تقام فيه الصلوات والجمعة والجماعات، وهو رمز من رموز الإسلام التي يجب الذود عنها بالغالي والنفيس!
وهكذا فالناس ينقسمون إلى فريقين وربما إلى فِرَق متعددة كلها مختلفة فيما بينها متناحرة ومتدابرة، هل هذا المسجد ضرار أم أنه غير ضرار، هل له حرمة المساجد أم ليس له، وهكذا!
فمن غايات إزالة مساجد الضرار إزالة الفرقة وتحقيق الألفة والمحبة بين المسلمين المؤمنين.. وهنا بسبب الأحكام الجائرة على بيوت الله بأنها ضرار يتحقق خلاف ذلك.. فأين المصلحة من وراء هذه الأحكام الجائرة، ومن المستفيد منها، وفي خدمة من تصب؟!!
خامساً: مؤداه إلى رمي الإخوان ورشق بعضهم البعض بعبارات التضليل والتبديع والتفسيق.. فالذي يرى المسجد أنه ضرار يرمي المخالف له بالتفريط وأنه من أهل مسجد الضرار، وأنه جاهل لا يعرف أحكام مساجد ضرار، وأنه يكثر سواد أهل الضرار، ويعينهم على الضرار.. وغير ذلك من قائمة الاتهامات الجارحة التي لا تكاد تنتهي.
وكذلك الذي لا يرى المسجد أنه ضرار لا يقصر في حق مخالفيه فيطلق بحقهم عبارات التبديع والتجهيل، والغلو وغير ذلك.. وهذا كله له ما له من نتائج سلبية قاتلة تنعكس على صفاء القلوب، بل وعلى العمل الإسلامي برمته، فتأمل!!
سادساً: ينتاب الذين يرون المساجد على أنها ضرار شعور شيطاني يميزهم عن بقية الناس؛ فهم عرفوا مالم يعرفه غيرهم، وهم أشد حرصاً على التمسك بتعاليم الدين التي جهلها غيرهم، وهم كذلك أكثر من غيرهم كفراً بالطاغوت، وهم وهم.. وهذا كله له لذة في النفوس الضعيفة القاصرة يحدثها لهم الشيطان ويزينها ويزخرفها، ليوقعهم بالغرور والكبر والترفع على إخوانهم.. فيأتون بحسنة بزعمهم، ليأتوا مقابلها بسيئات مضاعفة!!
فالإفراط والتفريط كلاهما لهما لذة في النفوس الضعيفة مبعثها الشيطان.. ومن لا يفلح الشيطان معه من جهة الإفراط والغلو يأتيه من جهة التفريط والجفاء، فأهل الإفراط والغلو يصور لهم الشيطان أن بيدهم مفاتيح النار يمكن أن يدخلوا فيها من يشاءون ممن يخالفهم أو يخالف اعتقادهم، وأنهم كذلك بجرة قلم يمكن أن يحولوا المسجد إلى ضرار يمنعون الناس من دخوله ومن التعبد فيه.. فهم يملكون عصا التكفير والتخليد في النار يخوفون بها العباد ويهزونها لكل مخالف لا يروق لهم؛ وفي ذلك تحصل لهم نشوة لا تعلوها نشوة، وبخاصة إذا لاحظوا أن الناس الجهلاء يخشونهم ويرجون منهم أن لا يكفروهم أو يخلدوهم في نار جهنم!!
أما أهل التفريط والجفاء والإرجاء فهم على عكس ذلك حيث يصور لهم الشيطان أن مفاتيح الجنة بيدهم، وأنهم بإمكانهم أن يدخلوا من يشاءوا من العباد في الجنة، وفي رحمة الله عز وجل، وبخاصة إذا وجدوا الجهلاء من الناس يرجونهم - بالعطايا السخية وغير ذلك - أن يخلدوهم في الجنة وأن يحكموا لهم أنهم من أهلها بيقين، وأن يحدثوهم عن رحمة الله التي تسعهم وتسع ذنوبهم، وأنهم مغفور لهم بيقين.. فهذا كذلك يحدث لديهم نشوة عظيمة توازي نشوة إخوانهم من أهل الغلو والتفريط نعوذ بالله منها ومن أهلها ومن نشواتهم الشيطانية.. ونبرأ إلى الله تعالى من أهل الإفراط والتفريط سواء، ومن شذوذاتهم وانحرافاتهم، وأخلاقهم، ومن أن نتألى عليه تعالى بشيء بغير علم.. كما ونسأله تعالى أن يلهمنا الوسطية الحنيفية السمحة ملة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، إنه تعالى سميع قريب مجيب.
وصلى الله على سيدنا ونبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير | 1/5/1421 هـ]