بسم الله الرحمن الرحيم
ما زلنا نتابع معك أخي القارئ الكشف عن الأئمّة المضلّين، تكلّمنا سابقاً عن الصّوفيّة والآن إلى الطائفة الثّانية من أئمّة الضّلال:
2 - أهل الرأي (الآرائتيون): على الرّغم من أنّ هذا الوصف يطلق بتوسّع في كثير من الكتب على كل من اشتغل بالفقه، وأُثر عنه الفتوى (حتّى أن ابن قتيبة في كتابه المعارف ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى من أهل الرّأي)، إلا أننا نقصد بأهل الرّأي هنا: من آثر عقله على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحسن قولاً أو مذهباً والنصّ بين يديه على خلافه.
وحتى يستطيع الأخ المجاهد أن يتابع معنا المراد فإننا نسوق له الموضوع على شكل نقاط ثمّ نفيض بالأمثلة:
(1 اعلم أخي في الله أن الكتاب والسنّة (بنصوصهما) تستوعب الزّمان والمكان، فلا يوجد واقعة أو حادثة إلاّ وفي النّصوص المعصومة ما يكشف لك أمرها بعينها وذاتها، فإنّ الله تعالى لم يبق للنّاس شيئا يحتاجونه إلا وكشفه لهم، وبيّن لهم أمره، علمه من علمه، وجهله من جهله. فالكتاب والسنّة هما دليلا الحقّ دون سواهما، وقد يظنّ البعض أن هذا القول هو نفي للإجماع والقياس، وليس الأمر كذلك، فكيف ذلك؟.
إليك الجواب: أمّا بالنّسبة للإجماع: فإن القول الحقيق بالقبول أنّ الإجماع يقسم إلى قسمين:
(أ) إجماع قطعي: وهو ما يسمّى بالمعلوم من الدّين بالضرورة، وقد ضرب الإمام الشافعي في رسالته الأمثلة عليه، وهذا لا يجوز لمسلم مخالفته، وهو الّذي قيل فيه: مخالفته كفر، وهذا إجماع لا يقع إلاّ بنص، إذ لا يقع هذا الإجماع إلا وله أدلّة في الكتاب والسنّة، إلاّ ما ذكره الإمام الشّافعي عن مسألة القراض (المضاربة) والصّحيح أنّها داخلة في عموم النّصوص المحكمة المبيحة أمر المشاركة والتّجارة.
(ب) إجماع ظنّي: وهو قول الفقيه: لا أعلم فيه خلافاً، وهو إجماع استقرائيّ، وهذا رفض الإمام أحمد بن حنبل إطلاق اسم الإجماع عليه وهو المقصود بقوله: من ادّعى الإجماع فقد كذب، لعلّ الناس اختلفوا. ا. هـ.
وهذا إجماع متوهّم، وأغلبه منقوض، إن لم يكن كلّه. بل قد يكون المشهور خلافه، إذن فأمر الإجماع الحقيقي لا يقوم إلاّ على دليل، فعاد الأمر إلى الأصل.
أمّا بالنّسبة للقياس: فالمشتهر عند الناّس أمور عدّة بالنّسبة للقياس، وهي خطأ، وهي:
أولاً: قولهم أنّ القياس دليل شرعي، وهذا خطأ والصّحيح أنّ القياس المصيب يكشف لك الحكم الشّرعي الّذي غاب (بنصه). والنّصّ يغيب عن الفقيه لسببين:
(أ) لعدم معرفته له ابتداءً، كما غاب عن كثير من الصّحابة بعض الأحكام الشّرعية بنصوصها، وأمثلة ذلك كثيرة.
(ب) لعدم معرفة المجتهد دلالة النّص، مع أنّه بين يديه، وذلك لسببين: إمّا لأمور تعود إلى نفس النّص، إذ أنّ دلالة النّصوص الشّرعية على الأحكام ليست على مرتبة واحدة، بل مراتب متعددة، أو لسبب يعود إلى نفس المجتهد، ككلال ذهنه، أو ضعفه في البحث والتّنقيب، أو لضعف بعض أدوات الاجتهاد لديه.
ثانياً: أن القياس يتم به الإلزام، وهذا خطأ، والصّحيح أنّه لا إلزام بالقياس.
إذا تبيّن لك هذا علمت أنّ القياس لا يذهب إليه لعدم وجود النّصّ في الحقيقة، ولكن لعدم معرفة المجتهد لهذا الدّليل (النّص).
وعلى هذا فإنّ القائل من أهل الأصول: إنّ الشّريعة - بنصوصها - لا تفي عشر الحوادث والوقائع هو قول واهم مخطئ، دفعه له عدم توسّعه في الإطلاع على كتب الحديث، ومعرفتها معرفة صحيحة.
لماذا يردّ النّص من (الأرائتي)؟.
أسباب الإعراض عن النّص من قبل المفكّر أو الفقيه عديدة (ونحن هنا نتكلّم عن الإسلاميين) أهمها:
1 - ظنّ المفكّر أو الفقيه أنّ النّص يخالف العقل، أو بعبارة بعض الفقهاء: هذا نصّ على خلاف القياس، وبعبارة أهل الكلام: تعارض العقل مع النّقل.
وقائلوا هذه العبارات يقعون في هذه الأخطاء الفاحشة لعدّة أسباب منها:
أن هؤلاء المفكّرين قد يغلب على ظنّهم صواب بعض القواعد العقلية الوافدة، ويجعلونها يقينيّة، فيلتفتون إلى النّصّ الشّرعي فيرونه مخالفاً، فينشأ لديهم هذا التصوّر الفاسد.
ومن أسباب هذه الأخطاء كذلك: عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التّمييز بين النّصّ الثابت والنّص الضّعيف، فيصبّون جام غضبهم على النّص الضعيف، وبه يتّهمون النّص بمخالفة العقل أو القياس.
2 - ظنّ المفكّر أو الفقيه تحقيق المصلحة بعيداً عن النّص:
وهؤلاء لمّا رأوا مجموع النّصوص داعية إلى اعتبار المقاصد والمآلات، فظنّوا أن تحقيق المآلات هو الدّليل الشّرعي الكافي لإصدار الحكم الشّرعي، وحتّى لا يخرج البحث عن عدد الورقات المطلوبة في هذه النّشرة فإننا نكتفي بإيراد المقصود الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)):
اعلم أخي في الله أنّه لا يوجد حكم شرعي ثبت في الكتاب والسّنة إلا وهو بذاته يحقّق المصلحة للعباد في الحال والمآل، ثم اعلم أن المصالح تتعارض فلا بدّ من تقديم الأقوى على الأضعف، ولهذا لا يمكن معرفته عند تفاوت العقول إلاّ بالنّص، ثمّ اعلم أنّ المصلحة لا يمكن تحقّق حدوثها ومآلها إلاّ بالوعد المحمول داخل النّص.
هذه الأمور وغيرها الكثير ترشدك: أنّ العصمة للنّص وهي القادرة على معرفة الضّرر والضّرار، والعقل قد تتفاوت مراتبه وتقديراته فالإيحال عليه إيحال على غير ثابت. صلى الله عليه وسلم3 - ظنّ المفكّر أو الفقيه عدم كفاية الثّبوت في ذات النّص كقول بعضهم: حديث الآحاد لا يفيد العلم، وهذا قول أهل الكلام. وهذا التّفريق بين القطعيّ والظّنّي على هذه الصّور المعروضة هي صورة حادثة لا تعرف عند الأوائل، وهي من إفرازات أهل الرّأي والكلام والحديث في هذا الباب يطول.
هذه الأسباب الظّاهرة (العقلية) التي يطرحها صاحب الرّأي لردّ النصّ المعصوم وهي عندي كافية (كافية عند أهل السنّة والجماعة) لاعتبار الرّجل متأولاً مع أنّه مخطئ ولا شكّ.
لكن ماذا عن الأمور الباطنية؟ أي ما هي الأسباب النّفسية التي تدفع المفكّر أو الفقيه لردّ النّص المعصوم؟.
هناك أسباب نفسية عدّة تدفع المفكّر لهذا المسلك البدعي أهمّها:
(1) عدم الخلوص من أهواء النّفوس، لأنّ العبوديّة لله تعالى تعني تجرّد العبد من جميع أهوائه، وأعظم الأهواء في هذا الباب هو أن يعتبر الإنسان أنّ له قولاً ورأياً، وأنّه صاحب شخصيّة معتبرة، ينسب لها القول، ويشار إليها بالاعتبار والتقدير.
(2) محاولة تليين الإسلام وليّه ليوافق رغبة الإنسان وهواه، أو ليوافق الواقع، وهذا نراه في أغلب أرائيّة زماننا، فإنّهم لهزيمتهم النّفسيّة أمام استعلاء الكفر واستكباره في هذا الزّمان تدفعهم هذه الهزيمة لمحاولة ليّ أعناق النّصوص لتوافق رغبات النّاس وأهوائهم، واستعجالاً بضرب الأمثلة (مع أننا أجّلناها لعدد قادم)، إلاّ أنّ الشّيخ المصري محمّد الغزالي خير دليل على ذلك، وخاصّة كتابه “السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”، فقد رأينا هذا الأزهري يشرح لقرّائه عن عجزه في تقديم الحكم الشّرعي المستمدّ من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)).
فيقول هذا المنهزم: كيف نستطيع أن نقدّم الإسلام ومنه هذا الحديث لأهل بريطانيا مثلاً وهم استطاعوا أن يحقّقوا بعض مطامحهم، برئاسة “مارجريت تاتشر”؟.
فالنّتيجة عند هذا الشّيخ وأمثاله هي أن نضع أيدينا على هذا الحديث خجلاً منه (كما فعلت يهود بآيات الرّجم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك من أجل أصحاب العيون الزّرقاء من الإنجليز وغيرهم.
إن هذه الانهزامية في تقديم الإسلام الحقّ كما أراده الله لنا، هي سبب رئيسي تدفع هؤلاء القوم إلى الإعراض عن بعض النّصوص النّبوية، ودفع هذه النّصوص له طرق كثيرة عند هؤلاء الأرائتيين.
4 - كما تقدّم إنّ عظم التكاليف الشّرعيّة، وكونها فتنة للنّاس، وهي تحمل المرء على ترك عوائده، فرغباته النّفسية تدفعه إلى البحث عن المخرج من هذه التّكاليف.
ومن أمثلة تلك الصّورة المعروضة للجهاد من أجل تحقيق الحقّ الإلهيّ في الأرض، وما فيه من سوء للنّفوس المريضة، وما فيه من امتحان وفتنة للنّاس، فلو عرض لهذه النّفس مخرج آخر مع توهّمه أنّ فيه تحقيقاً لرغبات النّفس وأهوائها فإنّها تطير إلى هذا البديل الرّغيد.
هذه بعض النّفسية الباطنية الّتي تدفع صاحب الرّأي إلى ترك النصّ والإقبال على هواه ورأيه. والآن أين هؤلاء الأرائتيون الضّالّون في هذا العصر؟.
--------------------------------------------------------------------------------
ما زلنا نتابع معك أخي القارئ الكشف عن الأئمّة المضلّين، تكلّمنا سابقاً عن الصّوفيّة والآن إلى الطائفة الثّانية من أئمّة الضّلال:
2 - أهل الرأي (الآرائتيون): على الرّغم من أنّ هذا الوصف يطلق بتوسّع في كثير من الكتب على كل من اشتغل بالفقه، وأُثر عنه الفتوى (حتّى أن ابن قتيبة في كتابه المعارف ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى من أهل الرّأي)، إلا أننا نقصد بأهل الرّأي هنا: من آثر عقله على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحسن قولاً أو مذهباً والنصّ بين يديه على خلافه.
وحتى يستطيع الأخ المجاهد أن يتابع معنا المراد فإننا نسوق له الموضوع على شكل نقاط ثمّ نفيض بالأمثلة:
(1 اعلم أخي في الله أن الكتاب والسنّة (بنصوصهما) تستوعب الزّمان والمكان، فلا يوجد واقعة أو حادثة إلاّ وفي النّصوص المعصومة ما يكشف لك أمرها بعينها وذاتها، فإنّ الله تعالى لم يبق للنّاس شيئا يحتاجونه إلا وكشفه لهم، وبيّن لهم أمره، علمه من علمه، وجهله من جهله. فالكتاب والسنّة هما دليلا الحقّ دون سواهما، وقد يظنّ البعض أن هذا القول هو نفي للإجماع والقياس، وليس الأمر كذلك، فكيف ذلك؟.
إليك الجواب: أمّا بالنّسبة للإجماع: فإن القول الحقيق بالقبول أنّ الإجماع يقسم إلى قسمين:
(أ) إجماع قطعي: وهو ما يسمّى بالمعلوم من الدّين بالضرورة، وقد ضرب الإمام الشافعي في رسالته الأمثلة عليه، وهذا لا يجوز لمسلم مخالفته، وهو الّذي قيل فيه: مخالفته كفر، وهذا إجماع لا يقع إلاّ بنص، إذ لا يقع هذا الإجماع إلا وله أدلّة في الكتاب والسنّة، إلاّ ما ذكره الإمام الشّافعي عن مسألة القراض (المضاربة) والصّحيح أنّها داخلة في عموم النّصوص المحكمة المبيحة أمر المشاركة والتّجارة.
(ب) إجماع ظنّي: وهو قول الفقيه: لا أعلم فيه خلافاً، وهو إجماع استقرائيّ، وهذا رفض الإمام أحمد بن حنبل إطلاق اسم الإجماع عليه وهو المقصود بقوله: من ادّعى الإجماع فقد كذب، لعلّ الناس اختلفوا. ا. هـ.
وهذا إجماع متوهّم، وأغلبه منقوض، إن لم يكن كلّه. بل قد يكون المشهور خلافه، إذن فأمر الإجماع الحقيقي لا يقوم إلاّ على دليل، فعاد الأمر إلى الأصل.
أمّا بالنّسبة للقياس: فالمشتهر عند الناّس أمور عدّة بالنّسبة للقياس، وهي خطأ، وهي:
أولاً: قولهم أنّ القياس دليل شرعي، وهذا خطأ والصّحيح أنّ القياس المصيب يكشف لك الحكم الشّرعي الّذي غاب (بنصه). والنّصّ يغيب عن الفقيه لسببين:
(أ) لعدم معرفته له ابتداءً، كما غاب عن كثير من الصّحابة بعض الأحكام الشّرعية بنصوصها، وأمثلة ذلك كثيرة.
(ب) لعدم معرفة المجتهد دلالة النّص، مع أنّه بين يديه، وذلك لسببين: إمّا لأمور تعود إلى نفس النّص، إذ أنّ دلالة النّصوص الشّرعية على الأحكام ليست على مرتبة واحدة، بل مراتب متعددة، أو لسبب يعود إلى نفس المجتهد، ككلال ذهنه، أو ضعفه في البحث والتّنقيب، أو لضعف بعض أدوات الاجتهاد لديه.
ثانياً: أن القياس يتم به الإلزام، وهذا خطأ، والصّحيح أنّه لا إلزام بالقياس.
إذا تبيّن لك هذا علمت أنّ القياس لا يذهب إليه لعدم وجود النّصّ في الحقيقة، ولكن لعدم معرفة المجتهد لهذا الدّليل (النّص).
وعلى هذا فإنّ القائل من أهل الأصول: إنّ الشّريعة - بنصوصها - لا تفي عشر الحوادث والوقائع هو قول واهم مخطئ، دفعه له عدم توسّعه في الإطلاع على كتب الحديث، ومعرفتها معرفة صحيحة.
لماذا يردّ النّص من (الأرائتي)؟.
أسباب الإعراض عن النّص من قبل المفكّر أو الفقيه عديدة (ونحن هنا نتكلّم عن الإسلاميين) أهمها:
1 - ظنّ المفكّر أو الفقيه أنّ النّص يخالف العقل، أو بعبارة بعض الفقهاء: هذا نصّ على خلاف القياس، وبعبارة أهل الكلام: تعارض العقل مع النّقل.
وقائلوا هذه العبارات يقعون في هذه الأخطاء الفاحشة لعدّة أسباب منها:
أن هؤلاء المفكّرين قد يغلب على ظنّهم صواب بعض القواعد العقلية الوافدة، ويجعلونها يقينيّة، فيلتفتون إلى النّصّ الشّرعي فيرونه مخالفاً، فينشأ لديهم هذا التصوّر الفاسد.
ومن أسباب هذه الأخطاء كذلك: عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التّمييز بين النّصّ الثابت والنّص الضّعيف، فيصبّون جام غضبهم على النّص الضعيف، وبه يتّهمون النّص بمخالفة العقل أو القياس.
2 - ظنّ المفكّر أو الفقيه تحقيق المصلحة بعيداً عن النّص:
وهؤلاء لمّا رأوا مجموع النّصوص داعية إلى اعتبار المقاصد والمآلات، فظنّوا أن تحقيق المآلات هو الدّليل الشّرعي الكافي لإصدار الحكم الشّرعي، وحتّى لا يخرج البحث عن عدد الورقات المطلوبة في هذه النّشرة فإننا نكتفي بإيراد المقصود الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)):
اعلم أخي في الله أنّه لا يوجد حكم شرعي ثبت في الكتاب والسّنة إلا وهو بذاته يحقّق المصلحة للعباد في الحال والمآل، ثم اعلم أن المصالح تتعارض فلا بدّ من تقديم الأقوى على الأضعف، ولهذا لا يمكن معرفته عند تفاوت العقول إلاّ بالنّص، ثمّ اعلم أنّ المصلحة لا يمكن تحقّق حدوثها ومآلها إلاّ بالوعد المحمول داخل النّص.
هذه الأمور وغيرها الكثير ترشدك: أنّ العصمة للنّص وهي القادرة على معرفة الضّرر والضّرار، والعقل قد تتفاوت مراتبه وتقديراته فالإيحال عليه إيحال على غير ثابت. صلى الله عليه وسلم3 - ظنّ المفكّر أو الفقيه عدم كفاية الثّبوت في ذات النّص كقول بعضهم: حديث الآحاد لا يفيد العلم، وهذا قول أهل الكلام. وهذا التّفريق بين القطعيّ والظّنّي على هذه الصّور المعروضة هي صورة حادثة لا تعرف عند الأوائل، وهي من إفرازات أهل الرّأي والكلام والحديث في هذا الباب يطول.
هذه الأسباب الظّاهرة (العقلية) التي يطرحها صاحب الرّأي لردّ النصّ المعصوم وهي عندي كافية (كافية عند أهل السنّة والجماعة) لاعتبار الرّجل متأولاً مع أنّه مخطئ ولا شكّ.
لكن ماذا عن الأمور الباطنية؟ أي ما هي الأسباب النّفسية التي تدفع المفكّر أو الفقيه لردّ النّص المعصوم؟.
هناك أسباب نفسية عدّة تدفع المفكّر لهذا المسلك البدعي أهمّها:
(1) عدم الخلوص من أهواء النّفوس، لأنّ العبوديّة لله تعالى تعني تجرّد العبد من جميع أهوائه، وأعظم الأهواء في هذا الباب هو أن يعتبر الإنسان أنّ له قولاً ورأياً، وأنّه صاحب شخصيّة معتبرة، ينسب لها القول، ويشار إليها بالاعتبار والتقدير.
(2) محاولة تليين الإسلام وليّه ليوافق رغبة الإنسان وهواه، أو ليوافق الواقع، وهذا نراه في أغلب أرائيّة زماننا، فإنّهم لهزيمتهم النّفسيّة أمام استعلاء الكفر واستكباره في هذا الزّمان تدفعهم هذه الهزيمة لمحاولة ليّ أعناق النّصوص لتوافق رغبات النّاس وأهوائهم، واستعجالاً بضرب الأمثلة (مع أننا أجّلناها لعدد قادم)، إلاّ أنّ الشّيخ المصري محمّد الغزالي خير دليل على ذلك، وخاصّة كتابه “السنّة النّبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث”، فقد رأينا هذا الأزهري يشرح لقرّائه عن عجزه في تقديم الحكم الشّرعي المستمدّ من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)).
فيقول هذا المنهزم: كيف نستطيع أن نقدّم الإسلام ومنه هذا الحديث لأهل بريطانيا مثلاً وهم استطاعوا أن يحقّقوا بعض مطامحهم، برئاسة “مارجريت تاتشر”؟.
فالنّتيجة عند هذا الشّيخ وأمثاله هي أن نضع أيدينا على هذا الحديث خجلاً منه (كما فعلت يهود بآيات الرّجم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذلك من أجل أصحاب العيون الزّرقاء من الإنجليز وغيرهم.
إن هذه الانهزامية في تقديم الإسلام الحقّ كما أراده الله لنا، هي سبب رئيسي تدفع هؤلاء القوم إلى الإعراض عن بعض النّصوص النّبوية، ودفع هذه النّصوص له طرق كثيرة عند هؤلاء الأرائتيين.
4 - كما تقدّم إنّ عظم التكاليف الشّرعيّة، وكونها فتنة للنّاس، وهي تحمل المرء على ترك عوائده، فرغباته النّفسية تدفعه إلى البحث عن المخرج من هذه التّكاليف.
ومن أمثلة تلك الصّورة المعروضة للجهاد من أجل تحقيق الحقّ الإلهيّ في الأرض، وما فيه من سوء للنّفوس المريضة، وما فيه من امتحان وفتنة للنّاس، فلو عرض لهذه النّفس مخرج آخر مع توهّمه أنّ فيه تحقيقاً لرغبات النّفس وأهوائها فإنّها تطير إلى هذا البديل الرّغيد.
هذه بعض النّفسية الباطنية الّتي تدفع صاحب الرّأي إلى ترك النصّ والإقبال على هواه ورأيه. والآن أين هؤلاء الأرائتيون الضّالّون في هذا العصر؟.
--------------------------------------------------------------------------------