بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، وانفرط عقد الجماعة، دخل أهل السّنة في إشكاليّة ما تزال تعتبر معوّقاً لهم عن بلوغ أهدافهم أو التّقدّم نحوها، هذه الإشكاليّة هي معضلة الجماعة وشرعيّتها، وما هي قوّة الإلزام في انضمام المرء لها.
كان أهل السنّة يعتبرون أنّه بمجرّد وجودهم تحت راية إمام ممكّن، يدينون له بالطّاعة والولاء، ويمتثلون أمره هم داخلون تحت مسمّى الجماعة، فلم يكونوا بحاجة إلى بحث هذا الإشكال إلى مستوىً أوسع ممّا هي عليه، ولضيق هذا الفهم وعدم شموليّته، ولبعده عن الفهم الصّحيح عن مفهوم الجماعة كما هو معروض بالشّرع وكما فهمه السّلف، فإنّه بمجرّد سقوط هذا الرّابط العام (الخلافة) حار أهل السنّة في حلّ هذا الإشكال وما زالوا في حيرة إلى الآن.
في هذا الوقت الّذي يدرك فيه البشر جميعاّ أنّ التّفرّق ضعف، وأنّ الذّاتيّة مهلكة وأنّ الدول لا تستطيع أن تحافظ على كيانها وتحصّل طموحاتها إلاّ بوجودها في داخل تحالفات وتجمّعات، والعالم الآن يرقب ميلاد تجمّع واسع ليحافظ على مكتسباته، هذا التّجمّع هو أوروبّا الموحّدة، ومع أنّ أسباب التّفرّق والتّنازع بين هذه الدّول هي من أعظم ما يوجد بين بشر من اختلافات، إلاّ أنّهم بطريقة سننيّة يحثّون الخطى لتجاوز هذه المعوّقات وتذليلها للوصول إلى لحظة الوحدة على شكلٍ ما وطريقة مقبولة لديهم.
أقول في هذا الوقت الذي يدرك فيه كفّار البشر هذه السّنن وأهمّيتها يوجد بين المسلمين من يقول ببدعيّة التّنظيم، وأنّ الانضمام إلى جماعة مسلمة عاملة هو بدعة وضلالة، وأنّ سنّة السلف لم يكن فيها هذه الصّور الحادثة من التّجمّعات والتّنظيمات، وهؤلاء هم الأعلى صوتاً داخل المجتمعات الإسلاميّة، وهم كعادتهم يضربون بسيف السّلف، وبشعار ملك الحقيقة والدّليل.
ومع أنّ قضيّة الجماعة لم تكن مطروحة إلاّ بشكل هزيل قبل حدوث هذه الأفكار، أي على صورة أنّ الانضمام في جماعة هو أمر مستحبّ ومرغوب، وهو أمر موسميّ حسب الظّروف والحاجة، فإذا ما تعارض أمر الجماعة والانضمام إليها مع بعض الأهواء أو الواجبات الذاتيّة انصرف عنها المسلم وهو لا يشعر بأدنى نوع من أنواع النّدم والشّعور بالذّنب، إلاّ أنّ وجود مثل هذه الفتاوى القائلة ببدعيّة التّنظيم والتّجمّع وعدم شرعيّته أحدثت هزّة داخل الفرد الذي يسيّره الدّليل، أو الذي يملكه الشّعار، حتى أنّ بعض التّيّارات الإسلاميّة بدأت تطرح نفسها على شكل جماعة وتنظيم، فيه بعض مقوّمات التّنظيم البسيطة والأبجديّة، إلاّ أنها تحت ضغط هذه الأفكار اضطرّت إلى تحليل نفسها، وتنازلت عن بعض المقوّمات حتّى صارت تطرح نفسها على شكل تيّار فكريّ ما، دوره فقط نشر الأفكار، أو بعض التّوجّهات دون حصول دعوة التّجمّع والتّنظيم، وهذه الصّورة، وهي صورة نشر الأفكار على شكل نثار لا رابط تنظيميّ يجمع بينه تلا قي قبولاً شديداً لدى المسلم المتخلّف فكراً وإرادة، فهو أمر يسقط عنه تبعيّة المساءلة أو التّكاليف، ثمّ هو لا يضطرّ في بعض المواقف أن يدافع عن الجماعة كمفهوم ولا عن الجماعة كوجود حقيقيّ ينتمي إليه، وهذه الصّورة السّلبية كذلك - وهو طرح الفكر كتيّار جامع لا تنظيم فيه - لا تعتبر شرعيّة في نظر تيّار التّخلّف، لأنّه هو صورة من صور التنظيم البدعيّة عندهم كذلك، ولذلك لم يحصل له الرّضا والموافقة، فهو معرّض للهجوم دوماً، وللتّبديع في كلّ وقت، ولعلّ البعض ما زال يرتكس في شهواته وأهوائه، فهو حين يطرح التّنظيم يطرحه كأمرٍ منفّر غير مقبول.
ومن الشّعارات الّتي صارت مألوفة لدى المسلم السنّي المتخلّف، أنّ الإسلام لا حزبيّة فيه، أو أنّ الحزبيّة شرّ، ثمّ يبدأ يعدّد مضارّ الحزبيّة وشرورها، حتى يهيأ للقارئ أنّ الحزبيّة هي شرّ بذاتها ولا خير فيها، وأنّها لا تنشئ إلاّ البدعة والضّلال، وهم يظنّون أنّ التّنظيم والتّحزّب لا بدّ أن ينشئ هذه الأخطاء، ولا خروج منها إلاّ بأن يسلم الرّجل بنفسه، وينفرد بالعمل والتّفكير، مع أنّ هذه الأخطاء الّتي تنشأ في التّجمّعات، هي الّتي تكسب الإسلام وتصبغه صبغة العمليّة والموضوعيّة، فصلاة الجماعة مثلاً هي تجمّع وتحزّب، فيها أمير، وبينه وبين الأتباع عقد، وقوّة الإلزام فيه الوجوب والفريضة، حتّى أنّ التّابع يجب عليه أن يقلّد ويسير بسير القائد حتّى في ضعفه وخطئه (إلى حدٍّ بيّنه الشّارع) فلو أنّ الإمام صلى قاعداً لعجز أصابه، والمأموم قادر على أن يصلّي قائماً، وجب على المأموم أن يصلّي جالساً، ولو أنّ الإمام لم يجلس الجلسة الوسطى وتركها فعلى المأموم وجوباً أن يتابعه ولا يتخلّف عنه، وهي أمور لو فعلها المرء منفرداً لكان مقصّراً آثماً وربّما تبطل عمله، فلو صلّى المرء منفرداً وصلّى جالساً وهو قادر على القيام في صلاة الفريضة فإنّ صلاته عند جمع من الأئمّة حكمها البطلان لتركه ركناً من أركانها، كذلك هو آثم لو ترك الجلوس الأوسط في الصّلاة الرّباعيّة والثّلاثيّة على الصّحيح، ولكنّ وجود المصلّي في جماعة غيّر الحكم، وأوجد فقهاً جديداً، ولم يقل أحد من العقلاء أنّه بسبب هذا الفقه الجديد الّذي أحدثته الجماعة في صلاتها يجعل صلاة الجماعة شرّاً وأنّ الصّلاة المنفردة هي الأفضل والأولى، بل بقيت صلاة الجماعة واجبة من واجبات الشّريعة، وشعيرة من شعائرها الظّاهرة.
وقد يجد المرء في نفسه قوّة وهو منفرد بدون جماعة وهو وهم وظنّ وتلبيس شيطانيّ لأنّ الشّيطان كالذّئب يأكل من الغنم القاصية.
ثمّ إنّ الجماعة تفرض على المرء صورة جديدة لحياته تجعله أسلمَ بضعفه مع الجماعة من قوّته وهو منفرد، ومسيره معها مثل صلاة الجماعة، فإنّ الرّجل حين يصلّي في جماعة، فإنّ على الإمام أن لا يطيل في الصّلاة، بل عليه أن يخفّف لأنّ وراءه المريض والكبير وذو الحاجة، فالجماعة تجمع الطّريق ففيها القويّ الجلد كذلك، فلو صلّى هذا الجلد منفرداً لأطال وأكثر في القيام والقنوت، ولكن حين يصلّي مع الجماعة فإنّه مقيّد بطول صلاة الإمام وقصرها، وهي فضيلة في حقّه لكونه في جماعة، لأنّها مقصد من مقاصد الشارع تهون بعض الأمور إلى جانبها، ولا ينظر إلى تلك الأمور التي يظنّها بعضهم فوائد للانفراد والذّاتية.
قبل أن ندخل في موضوع شرعيّة الجماعة والتّحزّب والتّنظيم فإننا مدعوّين لهاتين النّقطتين اللتين لا بدّ منهما:
- هناك فرق بين العصبيّة الحزبيّة وبين الحزبيّة والتّحزّب، وليس بينهما ترابط ولا علاقة، فقد يكون الرّجل متعصّباً لفكرة وهو غير متحزّب، ولا في حزب، وقد يكون الرّجل في حزب وتنظيم وهو غير متعصّب، بل إنّ الجماعة والتّنظيم إن قامت على سوق صحيحة تقتل في الرّجل أنانيّته وتعصّبه لأنّها تجبره دوماً على التنازل عن آرائه الّتي يراها ذهبيّة عظيمة مقابل ما استقرّ عليه رأي الجماعة، والانفراديّة والذّاتيّة تجذّر في المرء حبّ رأيه وتعصّبه له والمدافعة عنه بحقٍّ وباطل، وهذه العصبيّة المقيتة في التّجمّعات هي من الوراثة النّكدة للفرديّة الذّاتيّة، ولكنّ الكثير من النّاس يظنّ أنّ المرء حين يدافع عن فكرة مّا وينافح عنها، هو بسبب تبنّي حزبه لها، وهذا خطأ فالنّاس يدافعون عن أفكارهم هم، ولتبنّيهم تلك الأفكار، لأنّها أفكار حزبهم وتنظيمهم، لكنّ بعض النّاس مرتبتهم التّقليد، وبعضهم مرتبته الاتّباع، وبعضهم مرتبته الاجتهاد، وكلّ مرتبة من هذه المراتب هي مراتب ومنازل ودرجات كذلك، قد يكون الرّجل هو في نفسه مقلّداً فيدافع عن تلك الأفكار مدافعة المقلّد، بغضّ النّظر عن كونه في حزب أو في غير حزب، فعلينا أن ننظر إلى النّاس في نقاشنا معهم باعتبارهم أفراداً مستقلّين لا باعتبارهم أفراداً في جماعات، فيعامل كلّ امرئ بحسبه ودرجته مع التّنبيه أنّ المقلّد قد نبّه أئمّتنا على عدم جدوى نقاشه ومناقشته، لكنّ حظّه من الأمر النّصيحة والتّذكير، لا المناظرة والمجادلة.
- زعم بعضهم أنّ التّحزّب تفرّق، وأنّ التّنظيمات وزّعت الأمّة أوزاعاً وفرقاً، وهذا خطأ بيّن، فإنّ التّفرّق في الأمّة حادث بسبب أنانيّتهم وفرديّتهم، والفرديّة هي الّتي صنعت في الأمّة أمراضها، وأفرزت شرورها.
ثمّ تعالوا لنرى، هل الأولى أن تتجمّع الأمّة في ألف تنظيم وحزبٍ أولى، أو يكون كلّ امرئ على هواه وشخصه، حيث يكون فيها ألف ألف شخص، كلٌّ على رأسه وهواه، ثمّ هل زاد دعاة هدم التّنظيمات والأحزاب إلاّ أن أوجدوا في داخل أنفسهم أحزاباً جديدة، وتنظيمات متعدّدة؟ هذا أمر يراه كلّ أحد ويحسّ به كلّ إنسان.
بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، وانفرط عقد الجماعة، دخل أهل السّنة في إشكاليّة ما تزال تعتبر معوّقاً لهم عن بلوغ أهدافهم أو التّقدّم نحوها، هذه الإشكاليّة هي معضلة الجماعة وشرعيّتها، وما هي قوّة الإلزام في انضمام المرء لها.
كان أهل السنّة يعتبرون أنّه بمجرّد وجودهم تحت راية إمام ممكّن، يدينون له بالطّاعة والولاء، ويمتثلون أمره هم داخلون تحت مسمّى الجماعة، فلم يكونوا بحاجة إلى بحث هذا الإشكال إلى مستوىً أوسع ممّا هي عليه، ولضيق هذا الفهم وعدم شموليّته، ولبعده عن الفهم الصّحيح عن مفهوم الجماعة كما هو معروض بالشّرع وكما فهمه السّلف، فإنّه بمجرّد سقوط هذا الرّابط العام (الخلافة) حار أهل السنّة في حلّ هذا الإشكال وما زالوا في حيرة إلى الآن.
في هذا الوقت الّذي يدرك فيه البشر جميعاّ أنّ التّفرّق ضعف، وأنّ الذّاتيّة مهلكة وأنّ الدول لا تستطيع أن تحافظ على كيانها وتحصّل طموحاتها إلاّ بوجودها في داخل تحالفات وتجمّعات، والعالم الآن يرقب ميلاد تجمّع واسع ليحافظ على مكتسباته، هذا التّجمّع هو أوروبّا الموحّدة، ومع أنّ أسباب التّفرّق والتّنازع بين هذه الدّول هي من أعظم ما يوجد بين بشر من اختلافات، إلاّ أنّهم بطريقة سننيّة يحثّون الخطى لتجاوز هذه المعوّقات وتذليلها للوصول إلى لحظة الوحدة على شكلٍ ما وطريقة مقبولة لديهم.
أقول في هذا الوقت الذي يدرك فيه كفّار البشر هذه السّنن وأهمّيتها يوجد بين المسلمين من يقول ببدعيّة التّنظيم، وأنّ الانضمام إلى جماعة مسلمة عاملة هو بدعة وضلالة، وأنّ سنّة السلف لم يكن فيها هذه الصّور الحادثة من التّجمّعات والتّنظيمات، وهؤلاء هم الأعلى صوتاً داخل المجتمعات الإسلاميّة، وهم كعادتهم يضربون بسيف السّلف، وبشعار ملك الحقيقة والدّليل.
ومع أنّ قضيّة الجماعة لم تكن مطروحة إلاّ بشكل هزيل قبل حدوث هذه الأفكار، أي على صورة أنّ الانضمام في جماعة هو أمر مستحبّ ومرغوب، وهو أمر موسميّ حسب الظّروف والحاجة، فإذا ما تعارض أمر الجماعة والانضمام إليها مع بعض الأهواء أو الواجبات الذاتيّة انصرف عنها المسلم وهو لا يشعر بأدنى نوع من أنواع النّدم والشّعور بالذّنب، إلاّ أنّ وجود مثل هذه الفتاوى القائلة ببدعيّة التّنظيم والتّجمّع وعدم شرعيّته أحدثت هزّة داخل الفرد الذي يسيّره الدّليل، أو الذي يملكه الشّعار، حتى أنّ بعض التّيّارات الإسلاميّة بدأت تطرح نفسها على شكل جماعة وتنظيم، فيه بعض مقوّمات التّنظيم البسيطة والأبجديّة، إلاّ أنها تحت ضغط هذه الأفكار اضطرّت إلى تحليل نفسها، وتنازلت عن بعض المقوّمات حتّى صارت تطرح نفسها على شكل تيّار فكريّ ما، دوره فقط نشر الأفكار، أو بعض التّوجّهات دون حصول دعوة التّجمّع والتّنظيم، وهذه الصّورة، وهي صورة نشر الأفكار على شكل نثار لا رابط تنظيميّ يجمع بينه تلا قي قبولاً شديداً لدى المسلم المتخلّف فكراً وإرادة، فهو أمر يسقط عنه تبعيّة المساءلة أو التّكاليف، ثمّ هو لا يضطرّ في بعض المواقف أن يدافع عن الجماعة كمفهوم ولا عن الجماعة كوجود حقيقيّ ينتمي إليه، وهذه الصّورة السّلبية كذلك - وهو طرح الفكر كتيّار جامع لا تنظيم فيه - لا تعتبر شرعيّة في نظر تيّار التّخلّف، لأنّه هو صورة من صور التنظيم البدعيّة عندهم كذلك، ولذلك لم يحصل له الرّضا والموافقة، فهو معرّض للهجوم دوماً، وللتّبديع في كلّ وقت، ولعلّ البعض ما زال يرتكس في شهواته وأهوائه، فهو حين يطرح التّنظيم يطرحه كأمرٍ منفّر غير مقبول.
ومن الشّعارات الّتي صارت مألوفة لدى المسلم السنّي المتخلّف، أنّ الإسلام لا حزبيّة فيه، أو أنّ الحزبيّة شرّ، ثمّ يبدأ يعدّد مضارّ الحزبيّة وشرورها، حتى يهيأ للقارئ أنّ الحزبيّة هي شرّ بذاتها ولا خير فيها، وأنّها لا تنشئ إلاّ البدعة والضّلال، وهم يظنّون أنّ التّنظيم والتّحزّب لا بدّ أن ينشئ هذه الأخطاء، ولا خروج منها إلاّ بأن يسلم الرّجل بنفسه، وينفرد بالعمل والتّفكير، مع أنّ هذه الأخطاء الّتي تنشأ في التّجمّعات، هي الّتي تكسب الإسلام وتصبغه صبغة العمليّة والموضوعيّة، فصلاة الجماعة مثلاً هي تجمّع وتحزّب، فيها أمير، وبينه وبين الأتباع عقد، وقوّة الإلزام فيه الوجوب والفريضة، حتّى أنّ التّابع يجب عليه أن يقلّد ويسير بسير القائد حتّى في ضعفه وخطئه (إلى حدٍّ بيّنه الشّارع) فلو أنّ الإمام صلى قاعداً لعجز أصابه، والمأموم قادر على أن يصلّي قائماً، وجب على المأموم أن يصلّي جالساً، ولو أنّ الإمام لم يجلس الجلسة الوسطى وتركها فعلى المأموم وجوباً أن يتابعه ولا يتخلّف عنه، وهي أمور لو فعلها المرء منفرداً لكان مقصّراً آثماً وربّما تبطل عمله، فلو صلّى المرء منفرداً وصلّى جالساً وهو قادر على القيام في صلاة الفريضة فإنّ صلاته عند جمع من الأئمّة حكمها البطلان لتركه ركناً من أركانها، كذلك هو آثم لو ترك الجلوس الأوسط في الصّلاة الرّباعيّة والثّلاثيّة على الصّحيح، ولكنّ وجود المصلّي في جماعة غيّر الحكم، وأوجد فقهاً جديداً، ولم يقل أحد من العقلاء أنّه بسبب هذا الفقه الجديد الّذي أحدثته الجماعة في صلاتها يجعل صلاة الجماعة شرّاً وأنّ الصّلاة المنفردة هي الأفضل والأولى، بل بقيت صلاة الجماعة واجبة من واجبات الشّريعة، وشعيرة من شعائرها الظّاهرة.
وقد يجد المرء في نفسه قوّة وهو منفرد بدون جماعة وهو وهم وظنّ وتلبيس شيطانيّ لأنّ الشّيطان كالذّئب يأكل من الغنم القاصية.
ثمّ إنّ الجماعة تفرض على المرء صورة جديدة لحياته تجعله أسلمَ بضعفه مع الجماعة من قوّته وهو منفرد، ومسيره معها مثل صلاة الجماعة، فإنّ الرّجل حين يصلّي في جماعة، فإنّ على الإمام أن لا يطيل في الصّلاة، بل عليه أن يخفّف لأنّ وراءه المريض والكبير وذو الحاجة، فالجماعة تجمع الطّريق ففيها القويّ الجلد كذلك، فلو صلّى هذا الجلد منفرداً لأطال وأكثر في القيام والقنوت، ولكن حين يصلّي مع الجماعة فإنّه مقيّد بطول صلاة الإمام وقصرها، وهي فضيلة في حقّه لكونه في جماعة، لأنّها مقصد من مقاصد الشارع تهون بعض الأمور إلى جانبها، ولا ينظر إلى تلك الأمور التي يظنّها بعضهم فوائد للانفراد والذّاتية.
قبل أن ندخل في موضوع شرعيّة الجماعة والتّحزّب والتّنظيم فإننا مدعوّين لهاتين النّقطتين اللتين لا بدّ منهما:
- هناك فرق بين العصبيّة الحزبيّة وبين الحزبيّة والتّحزّب، وليس بينهما ترابط ولا علاقة، فقد يكون الرّجل متعصّباً لفكرة وهو غير متحزّب، ولا في حزب، وقد يكون الرّجل في حزب وتنظيم وهو غير متعصّب، بل إنّ الجماعة والتّنظيم إن قامت على سوق صحيحة تقتل في الرّجل أنانيّته وتعصّبه لأنّها تجبره دوماً على التنازل عن آرائه الّتي يراها ذهبيّة عظيمة مقابل ما استقرّ عليه رأي الجماعة، والانفراديّة والذّاتيّة تجذّر في المرء حبّ رأيه وتعصّبه له والمدافعة عنه بحقٍّ وباطل، وهذه العصبيّة المقيتة في التّجمّعات هي من الوراثة النّكدة للفرديّة الذّاتيّة، ولكنّ الكثير من النّاس يظنّ أنّ المرء حين يدافع عن فكرة مّا وينافح عنها، هو بسبب تبنّي حزبه لها، وهذا خطأ فالنّاس يدافعون عن أفكارهم هم، ولتبنّيهم تلك الأفكار، لأنّها أفكار حزبهم وتنظيمهم، لكنّ بعض النّاس مرتبتهم التّقليد، وبعضهم مرتبته الاتّباع، وبعضهم مرتبته الاجتهاد، وكلّ مرتبة من هذه المراتب هي مراتب ومنازل ودرجات كذلك، قد يكون الرّجل هو في نفسه مقلّداً فيدافع عن تلك الأفكار مدافعة المقلّد، بغضّ النّظر عن كونه في حزب أو في غير حزب، فعلينا أن ننظر إلى النّاس في نقاشنا معهم باعتبارهم أفراداً مستقلّين لا باعتبارهم أفراداً في جماعات، فيعامل كلّ امرئ بحسبه ودرجته مع التّنبيه أنّ المقلّد قد نبّه أئمّتنا على عدم جدوى نقاشه ومناقشته، لكنّ حظّه من الأمر النّصيحة والتّذكير، لا المناظرة والمجادلة.
- زعم بعضهم أنّ التّحزّب تفرّق، وأنّ التّنظيمات وزّعت الأمّة أوزاعاً وفرقاً، وهذا خطأ بيّن، فإنّ التّفرّق في الأمّة حادث بسبب أنانيّتهم وفرديّتهم، والفرديّة هي الّتي صنعت في الأمّة أمراضها، وأفرزت شرورها.
ثمّ تعالوا لنرى، هل الأولى أن تتجمّع الأمّة في ألف تنظيم وحزبٍ أولى، أو يكون كلّ امرئ على هواه وشخصه، حيث يكون فيها ألف ألف شخص، كلٌّ على رأسه وهواه، ثمّ هل زاد دعاة هدم التّنظيمات والأحزاب إلاّ أن أوجدوا في داخل أنفسهم أحزاباً جديدة، وتنظيمات متعدّدة؟ هذا أمر يراه كلّ أحد ويحسّ به كلّ إنسان.