بسم الله الرحمن الرحيم
تكلّمنا عن إشكاليّة الجماعة داخل صفّ أهل السنّة والجماعة في هذا العصر، وقلنا أنّ أهل السنّة الآن مضطربون في تحديد الحكم الشّرعيّ للتّحزّب، والانضواء تحت جماعة إسلامية، وقد بلغ اضطرابهم أنّ بعضهم يرى أنّ التنظيم بدعة، وآخرون يرون وجوبها، وبينهما من التيّارات من يرى أحكاماً تتراوح بين هذين الخطّين، وهو اضطراب غير مقبول، أفرز مفاسد وأمراضاً، ومنع أهل السّنة من تحقيق أهدافهم أو التّقدّم نحوها، والكلام عن الجماعة يحتاج إلى بحوث جادّة، واستنفار عام لأنّ موضوع الجماعة هو اللبنة الأولى لتحقيق الفكرة واقعاً ووجوداً، وبدون الجماعة لن تتحقّق أيّ فكرة وجوداً وبقاءً، ولعلّنا نتذكّر كلمة الإمام العظيم محمّد إدريس الشّافعيّ - رحمه الله - حين دخل مصر ورأى فقه الليث بن سعد، وعلمه، وروايته فقال كلمته المشهورة: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به" سير أعلام النّبلاء (8/156).
وهذه الكلمة تدلّ على عظم أمر الجماعة في بقاء الأمر ودوامه، وقبل ذلك نشره وبثّه، فبدون وجود جماعة وتحزّب وتنظيم لا يكون للأفكار وجود ولا بقاء.
إذا فهمنا هذا، ثمّ تفكّرنا قليلاً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبحثنا برؤية جادّة عن بداية دعوته وظهور أمره، وإلى أيّ شيء دعا النّاس، لأبصرنا تمام البصر أنّ أوّل شيء دعا إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم هو التّوحيد والجماعة.
فكان الرّجل إذا استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل في التّوحيد، قطع علائقه الأولى، وخرج خروجاً نفسيّا ووجوديّاً من أيّ ارتباط سابق، كرابطة العائلة أو القبيلة أو غيرهما وانضوى تحت الجماعة الجديدة، وارتبط بها ارتباطً كليّاً، ولاءً، ونصرة، وامتثالا لأمرها، وإحساساً بها، وعطفاً عليها، وتمثّل هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم للمسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر)). وعلى هذا فليس من غريب الأمر أن يكون شعار المسلم الصّادق هو الانضواء تحت شعار أهل السنّة والجماعة وقد كثر حديث الأوائل عن المفاهيم السنّية التصوّريّة في مسائل العقائد، فألّفوا فيها ما يسمّى بكتب العقائد، وذلك لتجلية مسائل السنّة التّصوّرية كما هي، والرّد على المخالفين من أصحاب العقائد الّتي زعمها الآخرون أنّها من دين الله تعالى كعقائد المعتزلة والجبريّة والرّافضة والخوارج وغيرهم، لكن بقي موضوع الجماعة على غير تفصيل في هذه الكتب لأنّ الجماعة الّتي كانت تحتاج إلى بيان في عصرهم هو موضوع الإمام الممكّن ومدى شرعيّة الخروج عليه ببغيٍ أو بفسق، وكذلك مدى شرعيّة إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وغيرها من المسائل الشّرعيّة الّتي تبحث في هذا المضمار، ومع أنّ فقه أهل السنّة لا يوجد فيه إجماع على هذه المسائل إلاّ أنّه استقرّت بعض المعالم وخاصّة تلك الآراء الّتي تبنّاها وبثّها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في حادثة فتنة خلق القرآن، لكن لو رجعنا إلى عبارات الأئمّة في تفسير معنى الجماعة لرأينا لها مفهومين اثنين، وليس مفهوماً واحداً وهما:
المفهوم الأوّل: المسلمون المنضوون تحت راية إمام ممكّن سواء كان هذا إمام عامّة أو غير ذلك، وهذا هو الذي كثر الحديث فيه في كتب السّياسة الشّرعيّة وكتب العقائد كقولهم: ولا نرى الخروج، أو: نقاتل تحت راية البرّ أو الفاجر، وغير ذلك من القواعد السّنية.
المفهوم الثّاني: أهل الحقّ، وهذا المفهوم دائرته أضيق من الدّائرة الأولى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الشّرع وإن كنت وحدك".
وهذا المفهوم يتحدّث عن جماعة صغرى في داخل الجماعة الكبرى (الدّولة والخلافة)، وهي لا تندثر ولا تزول لا بوجود الجماعة الكبرى ولا بزوالها، بل بقاؤها الشّرعيّ القدريّ فريضة وضرورة، وانفراط أمرها هو المصيبة الكبرى، والطامّة العظمى، بل إنّ أمر الجماعة الكبرى (الدّولة) مرهون وجوده بوجود هذه الجماعة، فالجماعة الكبرى (الدّولة) قد تزول وتسقط، فمن الّذي يعيد بناءها ووجودها؟ إنّهم بلا شكّ جماعة الحقّ وأهل الهدى، وهذا كلّه داخل في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه كفرٌ-أي حاكم الدّولة- وتغيير للشّرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر. ا. هـ. شرح مسلم (12/229)
وأمّا إذا كانت الجماعة الصّغرى (أهل الحقّ) لا وجود لها فإنّ عودة الدّولة هو أمر لا يتصوّر وقوعه أبدا.
ثمّ إنّ الجماعة الكبرى (الدّولة) قد يصيبها بعض الوهن والضّعف، فتقصّر في تطبيق الأحكام، لبعض العوارض، وقد تفشو في الدّولة المنكرات، ويغلب عليها إرادة الفسّاق، أو الّذين لا خلاق لهم، أو قد تتبنّى الدّولة بعض البدع الفاسدة، وتدعو النّاس إليها، فمن الّذين يقومون بمعالجة ذلك كلّه؟ بلا شكّ أنّها جماعة الحق (الصّغرى).
وهذا كلّه كما قلنا سابقاً داخل في الآية: {ولتكن منكم أمّة...} وهذه الآية عامّة لا تخصيص لها، سواء بوجود الإمام الممكّن أو بعدم وجوده.
وقد وجد في تاريخنا الإسلاميّ المجيد هذه الصّورة التي أحاول رسمها، وهي وجود الجماعة الصّغرى بكلّ ما يعني لفظ الجماعة من معنى، مثل معنى التّحزّب أو التّنظيم، مع وجود القوّة الرّابطة الجامعة لهذه الجماعة والحزب، فكانت بينهم العهود والبيعات على الحقّ، وكان منهم من يختار الأمير والقائد، وهكذا تقوم بكلّ ما التقت عليه وتبايعت لحفظه أو لإعادته.
ولعلّ أوضح صورة بيّنت أهمّية هذا التّكتّل والتّجمع النّاتج عن ضعف الدّولة واهتزازها هو ما حصل زمن الحروب الصّليبيّة، ففي زمنها كان أمر الخلافة صوريّا لا حقيقة له، وهي كما قيل: خليفة في قفص، بين وصيف وبغا، لا يقول إلا كما تقول الببغا، وتوزّعت الولايات الإسلاميّة مشتتة موزّعة، لا خيط يجمعها، بل صار بينها من التّناحر والتّخاصم ما وصل إلى درجة الحروب والاقتتال، وفي هذا الظّرف العصيب من التّفرّق والتّنازع، قدم على المسلمين وافد من وراء البحار، حمل معه شهوة القتل والاستئصال، ومعه أمل الاستيطان والبقاء، يحمل راية الصّليب، تغذّى بوري الكبد، وتعاليم الخرافة، وقد استطاعوا أن ينتصروا في المعركة الأولى، أو المعارك الأولى، واستقرّوا في كثير من المدن والجيوب الإسلاميّة، وكن على ذكر أنّه لم يكن للمسلمين ولاية عامّة، ولا تجمّع واحد، هذه الصّورة كيف عالجها أهل الإسلام؟.
أغلب من تكلم في هذه الفترة الزمنية عالجها من جهة بعض الأشخاص الذين أحدثوا أثرا تجميعيا للجهود المتفرقة السابقة لأعمالهم، فنرى كاتباً يعالجها من جهة القائد نور الدين زنكي أو من جهة القائد صلاح الدين الأيوبي، وهكذا، فيظن القارئ على غير دراية أن هذا الجزء من التاريخ الإسلامي في معالجة الصليبيين تمّ عن طريق الدولة الجامعة لأمر المسلمين وهذا خطأ بيّن، فالقارئ المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أن المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزّعة متفرّقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات، جمعت تحت إمرتها طائفة من النّاس، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا، ولعلّ خير كتاب يشرح لنا هذه الأوضاع على حقيقتها هو كتاب "الاعتبار" للأمير "أسامة بن منقذ"، وأسامة هذا من قلعة شيراز، وعائلته آل منقذ هم حكّام هذه القلعة، ولهم دور مشهود في الحروب الصّليبيّة، وأسامة شاهد عيان لحروب المسلمين ضدّ الصّليبيين.
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى، فمن المهمّ التّنبيه على أن دور القادة الكبار أمثال آل زنكي والأيوبيين هو تجميع هذه التّكتّلات والتنظيمات في تجمّع واحد وتنظيم واحد، ومع ذلك فقد بقي الدّور الأكبر لتلك التّكتّلات الصّغيرة القائمة على الحقّ في معالجة الحروب الصّليبيّة.
تكلّمنا عن إشكاليّة الجماعة داخل صفّ أهل السنّة والجماعة في هذا العصر، وقلنا أنّ أهل السنّة الآن مضطربون في تحديد الحكم الشّرعيّ للتّحزّب، والانضواء تحت جماعة إسلامية، وقد بلغ اضطرابهم أنّ بعضهم يرى أنّ التنظيم بدعة، وآخرون يرون وجوبها، وبينهما من التيّارات من يرى أحكاماً تتراوح بين هذين الخطّين، وهو اضطراب غير مقبول، أفرز مفاسد وأمراضاً، ومنع أهل السّنة من تحقيق أهدافهم أو التّقدّم نحوها، والكلام عن الجماعة يحتاج إلى بحوث جادّة، واستنفار عام لأنّ موضوع الجماعة هو اللبنة الأولى لتحقيق الفكرة واقعاً ووجوداً، وبدون الجماعة لن تتحقّق أيّ فكرة وجوداً وبقاءً، ولعلّنا نتذكّر كلمة الإمام العظيم محمّد إدريس الشّافعيّ - رحمه الله - حين دخل مصر ورأى فقه الليث بن سعد، وعلمه، وروايته فقال كلمته المشهورة: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلاّ أنّ أصحابه لم يقوموا به" سير أعلام النّبلاء (8/156).
وهذه الكلمة تدلّ على عظم أمر الجماعة في بقاء الأمر ودوامه، وقبل ذلك نشره وبثّه، فبدون وجود جماعة وتحزّب وتنظيم لا يكون للأفكار وجود ولا بقاء.
إذا فهمنا هذا، ثمّ تفكّرنا قليلاً في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبحثنا برؤية جادّة عن بداية دعوته وظهور أمره، وإلى أيّ شيء دعا النّاس، لأبصرنا تمام البصر أنّ أوّل شيء دعا إليه الرّسول صلى الله عليه وسلم هو التّوحيد والجماعة.
فكان الرّجل إذا استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل في التّوحيد، قطع علائقه الأولى، وخرج خروجاً نفسيّا ووجوديّاً من أيّ ارتباط سابق، كرابطة العائلة أو القبيلة أو غيرهما وانضوى تحت الجماعة الجديدة، وارتبط بها ارتباطً كليّاً، ولاءً، ونصرة، وامتثالا لأمرها، وإحساساً بها، وعطفاً عليها، وتمثّل هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم للمسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر)). وعلى هذا فليس من غريب الأمر أن يكون شعار المسلم الصّادق هو الانضواء تحت شعار أهل السنّة والجماعة وقد كثر حديث الأوائل عن المفاهيم السنّية التصوّريّة في مسائل العقائد، فألّفوا فيها ما يسمّى بكتب العقائد، وذلك لتجلية مسائل السنّة التّصوّرية كما هي، والرّد على المخالفين من أصحاب العقائد الّتي زعمها الآخرون أنّها من دين الله تعالى كعقائد المعتزلة والجبريّة والرّافضة والخوارج وغيرهم، لكن بقي موضوع الجماعة على غير تفصيل في هذه الكتب لأنّ الجماعة الّتي كانت تحتاج إلى بيان في عصرهم هو موضوع الإمام الممكّن ومدى شرعيّة الخروج عليه ببغيٍ أو بفسق، وكذلك مدى شرعيّة إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وغيرها من المسائل الشّرعيّة الّتي تبحث في هذا المضمار، ومع أنّ فقه أهل السنّة لا يوجد فيه إجماع على هذه المسائل إلاّ أنّه استقرّت بعض المعالم وخاصّة تلك الآراء الّتي تبنّاها وبثّها الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في حادثة فتنة خلق القرآن، لكن لو رجعنا إلى عبارات الأئمّة في تفسير معنى الجماعة لرأينا لها مفهومين اثنين، وليس مفهوماً واحداً وهما:
المفهوم الأوّل: المسلمون المنضوون تحت راية إمام ممكّن سواء كان هذا إمام عامّة أو غير ذلك، وهذا هو الذي كثر الحديث فيه في كتب السّياسة الشّرعيّة وكتب العقائد كقولهم: ولا نرى الخروج، أو: نقاتل تحت راية البرّ أو الفاجر، وغير ذلك من القواعد السّنية.
المفهوم الثّاني: أهل الحقّ، وهذا المفهوم دائرته أضيق من الدّائرة الأولى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "الجماعة ما وافق الشّرع وإن كنت وحدك".
وهذا المفهوم يتحدّث عن جماعة صغرى في داخل الجماعة الكبرى (الدّولة والخلافة)، وهي لا تندثر ولا تزول لا بوجود الجماعة الكبرى ولا بزوالها، بل بقاؤها الشّرعيّ القدريّ فريضة وضرورة، وانفراط أمرها هو المصيبة الكبرى، والطامّة العظمى، بل إنّ أمر الجماعة الكبرى (الدّولة) مرهون وجوده بوجود هذه الجماعة، فالجماعة الكبرى (الدّولة) قد تزول وتسقط، فمن الّذي يعيد بناءها ووجودها؟ إنّهم بلا شكّ جماعة الحقّ وأهل الهدى، وهذا كلّه داخل في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}، قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه كفرٌ-أي حاكم الدّولة- وتغيير للشّرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاّ لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر. ا. هـ. شرح مسلم (12/229)
وأمّا إذا كانت الجماعة الصّغرى (أهل الحقّ) لا وجود لها فإنّ عودة الدّولة هو أمر لا يتصوّر وقوعه أبدا.
ثمّ إنّ الجماعة الكبرى (الدّولة) قد يصيبها بعض الوهن والضّعف، فتقصّر في تطبيق الأحكام، لبعض العوارض، وقد تفشو في الدّولة المنكرات، ويغلب عليها إرادة الفسّاق، أو الّذين لا خلاق لهم، أو قد تتبنّى الدّولة بعض البدع الفاسدة، وتدعو النّاس إليها، فمن الّذين يقومون بمعالجة ذلك كلّه؟ بلا شكّ أنّها جماعة الحق (الصّغرى).
وهذا كلّه كما قلنا سابقاً داخل في الآية: {ولتكن منكم أمّة...} وهذه الآية عامّة لا تخصيص لها، سواء بوجود الإمام الممكّن أو بعدم وجوده.
وقد وجد في تاريخنا الإسلاميّ المجيد هذه الصّورة التي أحاول رسمها، وهي وجود الجماعة الصّغرى بكلّ ما يعني لفظ الجماعة من معنى، مثل معنى التّحزّب أو التّنظيم، مع وجود القوّة الرّابطة الجامعة لهذه الجماعة والحزب، فكانت بينهم العهود والبيعات على الحقّ، وكان منهم من يختار الأمير والقائد، وهكذا تقوم بكلّ ما التقت عليه وتبايعت لحفظه أو لإعادته.
ولعلّ أوضح صورة بيّنت أهمّية هذا التّكتّل والتّجمع النّاتج عن ضعف الدّولة واهتزازها هو ما حصل زمن الحروب الصّليبيّة، ففي زمنها كان أمر الخلافة صوريّا لا حقيقة له، وهي كما قيل: خليفة في قفص، بين وصيف وبغا، لا يقول إلا كما تقول الببغا، وتوزّعت الولايات الإسلاميّة مشتتة موزّعة، لا خيط يجمعها، بل صار بينها من التّناحر والتّخاصم ما وصل إلى درجة الحروب والاقتتال، وفي هذا الظّرف العصيب من التّفرّق والتّنازع، قدم على المسلمين وافد من وراء البحار، حمل معه شهوة القتل والاستئصال، ومعه أمل الاستيطان والبقاء، يحمل راية الصّليب، تغذّى بوري الكبد، وتعاليم الخرافة، وقد استطاعوا أن ينتصروا في المعركة الأولى، أو المعارك الأولى، واستقرّوا في كثير من المدن والجيوب الإسلاميّة، وكن على ذكر أنّه لم يكن للمسلمين ولاية عامّة، ولا تجمّع واحد، هذه الصّورة كيف عالجها أهل الإسلام؟.
أغلب من تكلم في هذه الفترة الزمنية عالجها من جهة بعض الأشخاص الذين أحدثوا أثرا تجميعيا للجهود المتفرقة السابقة لأعمالهم، فنرى كاتباً يعالجها من جهة القائد نور الدين زنكي أو من جهة القائد صلاح الدين الأيوبي، وهكذا، فيظن القارئ على غير دراية أن هذا الجزء من التاريخ الإسلامي في معالجة الصليبيين تمّ عن طريق الدولة الجامعة لأمر المسلمين وهذا خطأ بيّن، فالقارئ المتمعن لتلك الفترة الزمنية يرى أن المسلمين عالجوا أمر الصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزّعة متفرّقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات، جمعت تحت إمرتها طائفة من النّاس، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا، ولعلّ خير كتاب يشرح لنا هذه الأوضاع على حقيقتها هو كتاب "الاعتبار" للأمير "أسامة بن منقذ"، وأسامة هذا من قلعة شيراز، وعائلته آل منقذ هم حكّام هذه القلعة، ولهم دور مشهود في الحروب الصّليبيّة، وأسامة شاهد عيان لحروب المسلمين ضدّ الصّليبيين.
وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى، فمن المهمّ التّنبيه على أن دور القادة الكبار أمثال آل زنكي والأيوبيين هو تجميع هذه التّكتّلات والتنظيمات في تجمّع واحد وتنظيم واحد، ومع ذلك فقد بقي الدّور الأكبر لتلك التّكتّلات الصّغيرة القائمة على الحقّ في معالجة الحروب الصّليبيّة.