بسم الله الرحمن الرحيم
أنزل الله هذا الدّين العظيم ليحقّق مقاصد ومآلات، فمن هذه المقاصد ما يختصّ بالفرد ومنه ما يختصّ بالأسرة، ومنه ما يختصّ بالمجتمع، ومنه ما يختصّ بالأرض كلّها، وبمقدار فهم المرء لهذه المقاصد بمقدار إدراكه لقيمة الجماعة وضرورتها، وبعضهم فهمه من دين الله تعالى بمقدار فهم أهل الضّلالة من أديانهم، وهو النّظر إلى ما يستطيع أن يقوم به المسلم من أعمال إسلاميّة منفرداً وبدون جماعة، فهو يقول: أنا أستطيع أن أصلّي بدون حزب، وأصوم بدون حزب، وأحجّ بدون حزب، وهكذا يبدأ يعدّ أعمال الإسلام التي ينجزها دون وجوده في جماعة وتنظيم وحزب، وقد رأينا من هؤلاء القوم الجهلة تطوّراً خطيراً لهذه النّظرة، وهي أنّهم جعلوا ينظرون إلى دولة الإسلام (الجماعة الكبرى) كشيء لا أهمّيّة له ولا قيمة للبحث فيه، وسمعنا عجباً وهو قولهم: أنّ البحث في مسألة الإمامة والاهتمام بها هو من شأن المعتزلة والشّيعة، أي أنّ الباحثين عن تحقيق دولة الإسلام فيهم شبه اعتزاليّة وشيعيّة، وهؤلاء القوم قد علت أصواتهم وملأت الفضاء، وتلبّسوا لبوس العلم والحكمة والسّلفيّة، وأخيراً قام رجل جهول ظلوم في إحدى المراكز الإسلامية في أوروبّا وأفرغ قيح فكره، وصديد جهله حين أعلن للنّاس أنّ شأن دولة الإسلام ليس بهذه الأهمّية التي ينظر إليها بعضهم، بل هي - إن وسّعنا الأفق وأكثرنا القول - لا يعدو أن يكون أمرها مستحبّاً، إن وجدت فبها ونعمت وإلاّ فغيابها لا يضرّنا شيئاً، وكأنّ هذا المنفلت من المصحةّ العقليّة يرى نفسه يستطيع أن يقوم بأعمال الإسلام، وفرائضه وأحكامه دون أن يستظلّ بدولة إسلاميّة، والغريب أنّ مثل هذه العاهات هي التي تنشر في النّاس فكرة أن لا جهاد إلاّ تحت راية إمام ممكّن، وأنّ أمر الجهاد لا يعقده إلاّ إمام العامّة، وخليفة المسلمين، ولا ندري كيف نستطيع أن نفهم مثل هذه الأحاجي الغريبة التي تطلّ علينا برأسها مرّة بعد مرّة، وكأننا أمام سيرك مهرّجين لا قادة فكرٍ ولا حملة راية، وقد نقم علينا بعض ممّن لهم موقع الحبّ في القلوب أن لم نخفّف العبارة، ونلطّف الرّدود، ولكن -والله - لا نستطيع أن نناقش هؤلاء النّوكى مناقشة العقلاء، ولا نباحثهم مباحثة الدّارسين، لأنّهم أشبه بالمهرّجين منهم بأهل العقل والدّراية، فهم دائرون - ضربة لازب - بين غرضين: إمّا النّفاق والعمالة والجاسوسيّة، وأما الجهل والغباء والبلاهة، فإن نثبت لهم الصّفة الثّانية فهو أخفّ وأيسر أليس كذلك؟.
وهؤلاء البعض رأيت لهم بعض المكتوبات تجعل جماعات الإسلام السّياسيّ وجماعات الجهاد - والّتي يجمع بينهما دعوتهما لإحياء الخلافة ووجوب إقامة الإمامة العظمى - تأخذ أهمّية الإمامة من الشّيعة الرّوافض، ذلك لأنّهم وقعوا على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في بداية كتابه "منهاج السنّة النّبويّة"، حين الرّد على "الحلّي"، صاحب كتاب: "منهاج الكرامة"، وجعل الإمامة هي ركن الإسلام العظيم على فهم لمعنى الإمامة، ومهمّته التي لا يصحّ بدونها شيء، فجعل شيخ الإسلام يردّ على هذه العقيدة البدعيّة، ويبيّن زيف أمرها، فظنّ من لا خبرة له أنّ الإمامة التي يناقشها شيخ الإسلام هي الإمامة العظمى والخلافة الإسلاميّة، وهذا خطأ قبيح، فإنّ الإمامة عند الشّيعة هي على نحو معيّن، وفهم خاص، لا تقرب في شيء منها من الإمامة عند أهل السنّة والجماعة، فأصل الإمامة عند الشّيعة الرّوافض هو قرنها بعليّ وأولاده وأحفاده رضي الله عنهم حتى تصل إلى الغائب في السرداب "محمد بن الحسن العسكري" (نسبة لمدينة العسكر وهي سامرّاء) فهم يجعلون إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء من دين الله تعالى، ومن لم يؤمن بإمامته فهو كافر بركن من أركان الدّين، وهم يجعلون للإمام حقّ التّشريع وإصدار الأحكام الدّينية ابتداءً، ثمّ هم يعتقدون فيهم العصمة، وينسبون لهم صفات لا تليق بالبشر، هذه هي الإمامة عند الشّيعة، فكون شيخ الإسلام يردّ على "الحلي" الشيعيّ: بقوله أنّ الإمامة ليست من دين الله، أو أنّها ليست مهمّة قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغها للنّاس، لا يعني من كلامه أبداً الإمامة التي هي عند أهل السنّة والجماعة.
ثمّ هل زاد هؤلاء سوى أن ردّدوا كلام العلمانيين والمستشرقين، وهو أنّ الإسلام لا يحمل في داخله مفهوم الدّولة، أو حسب مفهومهم الجاهلي: الإسلام دين لا دولة.
إنّ أمر الدّولة في دين الله تعالى عظيم، شأنه مهمّ، فإنّ الإسلام لا يستقيم أمره، ولا تظهر حسناته إلاّ حين تكون له دولة تقوم عليه، عملاً وحماية ونشراً.
وقد يسأل سائل: وهل ينبغي علينا أن ننشغل بهذا الأمر في هذا الظّرف أم أن هناك من الأمور ما هي أكثر أهمّية وضرورة؟.
والجواب على هذا التّساؤل يفرز لنا مجموعة من الأمور التي ينبغي التّنبيه عليها:
أولاً: من ظنّ أنّه يمكن للإسلام أن يأخذ بعده الحقيقيّ من غير دولة تقوم عليه فهو جدّ واهم، لأنّ الدّولة حين تكون على غير الإسلام فإنّها ستعمل جاهدة لإزالة موانع بقائها، وستنشر أفكارها ومناهجها، والأعظم من ذلك أنّها ستفرض على النّاس ديناً ومنهاجاً وقضاءً يتلاءم مع تصوّرها للكون والحياة، فمن ظنّ أنّه يمكن له أن ينشر الإسلام ويعلّم النّاس الدّين، ويكسب الأمّة إلى صفّه ودينه أمام طوفان هذه الدّولة الجاهليّة فهو مخطئ ولا بد، فلو نظرت إلى عدد المسلمين الّذين دخلوا في دين الله تعالى في زمن دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم في مكّة المكرّمة لرأيته عدداً قليلاً جدّا، وأمّا من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة وزمن عزّة الإسلام فستجد الآلاف منهم قد التحقوا بقافلة الإسلام، ولذلك منّ الله تعالى على رسوله بهذا الفتح وقال: {إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّابَا} فقد قرن الله تعالى نصره وفتحه مع دخول النّاس في دين الله تعالى لأنّه إن لم يتمّ النّصر والفتح فلن يتمّ دخول النّاس في دين الله تعالى، بل إنّ علماءنا الأوائل بفهمهم، وثاقب فكرهم، جعلوا انتشار الفكرة منوطا بالقوّة والشّوكة، كقول ابن خلدون: "إن المغلوب مولع بتقليد الغالب" فجعل ظاهرة التلقّي مقيّدة بالقوّة والغلبة.
وأمّا ابن حزم - رحمه الله تعالى - فقد جعل انتشار لغة ما، وسيطرتها منوطا بقوّة أصحابها وظهور أمرهم. قال في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام": "إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنّما يقيّد لغة الأمّة وعلومها وأخبارها قوّة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم، وأمّا من تَلِفت دولتهم وغلب عليهم عدوّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذّل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربّما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وعلومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة" (1/32). فانظر - حفظك الله - إلى عِظم أمر الشّوكة والقوّة، وهما لا يتمّ أمرهما إلاّ بدولة وسلطان. وعلى هذا فإنّ الإسلام لن يبقى له وجود حقيقيّ إلاّ إذا تسارع أهله في إحياء الدّولة.
ثانياً: كثيراً ما يضع البعض أموراً متعدّدة بصورة متعارضة، وهي لا تعارض بينها أبداً، بل قد تكون مكمّلة له ومتمّمة لأمره، وذلك مثل قول بعضهم: هل الأولى طلب العلم أم الجهاد؟ وهذا سؤال خطأ، فإنّه لا تعارض بينهما، فالمسلم يجاهد ويتعلّم.
وكذلك في مثل هذا الأمر، يسأل البعض: هل الأولى أن ننشغل يأمر العقيدة أم بأمر إحياء الدّولة والدّعوة لها؟ وهما في الحقيقة لا يتصوّر فهم أحدهما إلاّ بفهم الآخر، فدولة الإسلام هي من تمام فهم التّوحيد، لأنّها تعني البراءة من الكفر وأهله، ثمّ هي تعني موالاة المؤمنين ونصرتهم، وعلى هذا فأغلب الّذين لا يفهمون حقيقة التوحيد لا يهتمون كثيراً بأمر الجماعة الكبرى والإمامة العظمى، وترى عامّة حديثهم في غير الأصل.
أنزل الله هذا الدّين العظيم ليحقّق مقاصد ومآلات، فمن هذه المقاصد ما يختصّ بالفرد ومنه ما يختصّ بالأسرة، ومنه ما يختصّ بالمجتمع، ومنه ما يختصّ بالأرض كلّها، وبمقدار فهم المرء لهذه المقاصد بمقدار إدراكه لقيمة الجماعة وضرورتها، وبعضهم فهمه من دين الله تعالى بمقدار فهم أهل الضّلالة من أديانهم، وهو النّظر إلى ما يستطيع أن يقوم به المسلم من أعمال إسلاميّة منفرداً وبدون جماعة، فهو يقول: أنا أستطيع أن أصلّي بدون حزب، وأصوم بدون حزب، وأحجّ بدون حزب، وهكذا يبدأ يعدّ أعمال الإسلام التي ينجزها دون وجوده في جماعة وتنظيم وحزب، وقد رأينا من هؤلاء القوم الجهلة تطوّراً خطيراً لهذه النّظرة، وهي أنّهم جعلوا ينظرون إلى دولة الإسلام (الجماعة الكبرى) كشيء لا أهمّيّة له ولا قيمة للبحث فيه، وسمعنا عجباً وهو قولهم: أنّ البحث في مسألة الإمامة والاهتمام بها هو من شأن المعتزلة والشّيعة، أي أنّ الباحثين عن تحقيق دولة الإسلام فيهم شبه اعتزاليّة وشيعيّة، وهؤلاء القوم قد علت أصواتهم وملأت الفضاء، وتلبّسوا لبوس العلم والحكمة والسّلفيّة، وأخيراً قام رجل جهول ظلوم في إحدى المراكز الإسلامية في أوروبّا وأفرغ قيح فكره، وصديد جهله حين أعلن للنّاس أنّ شأن دولة الإسلام ليس بهذه الأهمّية التي ينظر إليها بعضهم، بل هي - إن وسّعنا الأفق وأكثرنا القول - لا يعدو أن يكون أمرها مستحبّاً، إن وجدت فبها ونعمت وإلاّ فغيابها لا يضرّنا شيئاً، وكأنّ هذا المنفلت من المصحةّ العقليّة يرى نفسه يستطيع أن يقوم بأعمال الإسلام، وفرائضه وأحكامه دون أن يستظلّ بدولة إسلاميّة، والغريب أنّ مثل هذه العاهات هي التي تنشر في النّاس فكرة أن لا جهاد إلاّ تحت راية إمام ممكّن، وأنّ أمر الجهاد لا يعقده إلاّ إمام العامّة، وخليفة المسلمين، ولا ندري كيف نستطيع أن نفهم مثل هذه الأحاجي الغريبة التي تطلّ علينا برأسها مرّة بعد مرّة، وكأننا أمام سيرك مهرّجين لا قادة فكرٍ ولا حملة راية، وقد نقم علينا بعض ممّن لهم موقع الحبّ في القلوب أن لم نخفّف العبارة، ونلطّف الرّدود، ولكن -والله - لا نستطيع أن نناقش هؤلاء النّوكى مناقشة العقلاء، ولا نباحثهم مباحثة الدّارسين، لأنّهم أشبه بالمهرّجين منهم بأهل العقل والدّراية، فهم دائرون - ضربة لازب - بين غرضين: إمّا النّفاق والعمالة والجاسوسيّة، وأما الجهل والغباء والبلاهة، فإن نثبت لهم الصّفة الثّانية فهو أخفّ وأيسر أليس كذلك؟.
وهؤلاء البعض رأيت لهم بعض المكتوبات تجعل جماعات الإسلام السّياسيّ وجماعات الجهاد - والّتي يجمع بينهما دعوتهما لإحياء الخلافة ووجوب إقامة الإمامة العظمى - تأخذ أهمّية الإمامة من الشّيعة الرّوافض، ذلك لأنّهم وقعوا على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في بداية كتابه "منهاج السنّة النّبويّة"، حين الرّد على "الحلّي"، صاحب كتاب: "منهاج الكرامة"، وجعل الإمامة هي ركن الإسلام العظيم على فهم لمعنى الإمامة، ومهمّته التي لا يصحّ بدونها شيء، فجعل شيخ الإسلام يردّ على هذه العقيدة البدعيّة، ويبيّن زيف أمرها، فظنّ من لا خبرة له أنّ الإمامة التي يناقشها شيخ الإسلام هي الإمامة العظمى والخلافة الإسلاميّة، وهذا خطأ قبيح، فإنّ الإمامة عند الشّيعة هي على نحو معيّن، وفهم خاص، لا تقرب في شيء منها من الإمامة عند أهل السنّة والجماعة، فأصل الإمامة عند الشّيعة الرّوافض هو قرنها بعليّ وأولاده وأحفاده رضي الله عنهم حتى تصل إلى الغائب في السرداب "محمد بن الحسن العسكري" (نسبة لمدينة العسكر وهي سامرّاء) فهم يجعلون إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء من دين الله تعالى، ومن لم يؤمن بإمامته فهو كافر بركن من أركان الدّين، وهم يجعلون للإمام حقّ التّشريع وإصدار الأحكام الدّينية ابتداءً، ثمّ هم يعتقدون فيهم العصمة، وينسبون لهم صفات لا تليق بالبشر، هذه هي الإمامة عند الشّيعة، فكون شيخ الإسلام يردّ على "الحلي" الشيعيّ: بقوله أنّ الإمامة ليست من دين الله، أو أنّها ليست مهمّة قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغها للنّاس، لا يعني من كلامه أبداً الإمامة التي هي عند أهل السنّة والجماعة.
ثمّ هل زاد هؤلاء سوى أن ردّدوا كلام العلمانيين والمستشرقين، وهو أنّ الإسلام لا يحمل في داخله مفهوم الدّولة، أو حسب مفهومهم الجاهلي: الإسلام دين لا دولة.
إنّ أمر الدّولة في دين الله تعالى عظيم، شأنه مهمّ، فإنّ الإسلام لا يستقيم أمره، ولا تظهر حسناته إلاّ حين تكون له دولة تقوم عليه، عملاً وحماية ونشراً.
وقد يسأل سائل: وهل ينبغي علينا أن ننشغل بهذا الأمر في هذا الظّرف أم أن هناك من الأمور ما هي أكثر أهمّية وضرورة؟.
والجواب على هذا التّساؤل يفرز لنا مجموعة من الأمور التي ينبغي التّنبيه عليها:
أولاً: من ظنّ أنّه يمكن للإسلام أن يأخذ بعده الحقيقيّ من غير دولة تقوم عليه فهو جدّ واهم، لأنّ الدّولة حين تكون على غير الإسلام فإنّها ستعمل جاهدة لإزالة موانع بقائها، وستنشر أفكارها ومناهجها، والأعظم من ذلك أنّها ستفرض على النّاس ديناً ومنهاجاً وقضاءً يتلاءم مع تصوّرها للكون والحياة، فمن ظنّ أنّه يمكن له أن ينشر الإسلام ويعلّم النّاس الدّين، ويكسب الأمّة إلى صفّه ودينه أمام طوفان هذه الدّولة الجاهليّة فهو مخطئ ولا بد، فلو نظرت إلى عدد المسلمين الّذين دخلوا في دين الله تعالى في زمن دعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم في مكّة المكرّمة لرأيته عدداً قليلاً جدّا، وأمّا من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنوّرة وزمن عزّة الإسلام فستجد الآلاف منهم قد التحقوا بقافلة الإسلام، ولذلك منّ الله تعالى على رسوله بهذا الفتح وقال: {إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت النّاس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّابَا} فقد قرن الله تعالى نصره وفتحه مع دخول النّاس في دين الله تعالى لأنّه إن لم يتمّ النّصر والفتح فلن يتمّ دخول النّاس في دين الله تعالى، بل إنّ علماءنا الأوائل بفهمهم، وثاقب فكرهم، جعلوا انتشار الفكرة منوطا بالقوّة والشّوكة، كقول ابن خلدون: "إن المغلوب مولع بتقليد الغالب" فجعل ظاهرة التلقّي مقيّدة بالقوّة والغلبة.
وأمّا ابن حزم - رحمه الله تعالى - فقد جعل انتشار لغة ما، وسيطرتها منوطا بقوّة أصحابها وظهور أمرهم. قال في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام": "إن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم، فإنّما يقيّد لغة الأمّة وعلومها وأخبارها قوّة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم، وأمّا من تَلِفت دولتهم وغلب عليهم عدوّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذّل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر، وربّما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وعلومهم، هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة" (1/32). فانظر - حفظك الله - إلى عِظم أمر الشّوكة والقوّة، وهما لا يتمّ أمرهما إلاّ بدولة وسلطان. وعلى هذا فإنّ الإسلام لن يبقى له وجود حقيقيّ إلاّ إذا تسارع أهله في إحياء الدّولة.
ثانياً: كثيراً ما يضع البعض أموراً متعدّدة بصورة متعارضة، وهي لا تعارض بينها أبداً، بل قد تكون مكمّلة له ومتمّمة لأمره، وذلك مثل قول بعضهم: هل الأولى طلب العلم أم الجهاد؟ وهذا سؤال خطأ، فإنّه لا تعارض بينهما، فالمسلم يجاهد ويتعلّم.
وكذلك في مثل هذا الأمر، يسأل البعض: هل الأولى أن ننشغل يأمر العقيدة أم بأمر إحياء الدّولة والدّعوة لها؟ وهما في الحقيقة لا يتصوّر فهم أحدهما إلاّ بفهم الآخر، فدولة الإسلام هي من تمام فهم التّوحيد، لأنّها تعني البراءة من الكفر وأهله، ثمّ هي تعني موالاة المؤمنين ونصرتهم، وعلى هذا فأغلب الّذين لا يفهمون حقيقة التوحيد لا يهتمون كثيراً بأمر الجماعة الكبرى والإمامة العظمى، وترى عامّة حديثهم في غير الأصل.